رحلة في أعماق الإقليم المنكوب (2 – 2)
“السيسي” بين نيران الفرقاء في الخرطوم وبيعة أهل دارفور
رماد المعارك شاهداً على طي صفحة الحرب
يوسف عبد المنان
خرج ركب السيارات اليابانية تنهش الأرض وتطوي المسافات من فاشر السلطان التي بدأت ناعسة الأجفان في ذلك الصباح يكسوها غبار عالق وشمس وهنت أشعتها وحجبتها سحب الصباح.. الطريق إلى دمر بدو عرب الشمال الدارفوري من الرزيقات (العريقات) والرزيقات الماهرية وبطون أخرى لهذه القبيلة المدهشة في كل شيء والممتدة من أقاصي صحراء الشمال إلى سافنا بحر العرب جنوباً من قلب تشاد غرباً حتى بحر أبيض شرقاً.. تأملت في الوجوه المسافرة.. والمسافات البعيدة ولم أجد إلا أبيات لشاعر أعجمي اللسان كتب اسمه في سفر المفكرين الخالدين.. ويقول “محمد إقبال”
أرافق في طريقي كل سار
وأعطيه نصيباً من طريقي
ولم أر في طريقي مستعداً
يكون نهايته رفيقي..
لم يشأ السائق بعثرة أفكارنا ورفيق الدرب وأنا شريكه في السيارة الوزير “محمد يوسف التليب” الذي خرج هو الآخر من صلب قبيلة الرزيقات العريقة.. “التليب” يعرف مضارب البدو.. ويهيم عشقاً بوادي أبو سكين.. والجنينة.. ولا يكف عن الاستقراء في التاريخ ولأن (الشجن يبعث الشجى) كما يقول الشاعر “متمم بن نويرة” فقد شجى وادي أبو سكين في النفس ذكريات عاشها نصف المثقفين السودانيين وهم يطالعون في بواكير الصبا كتاب د.”حسن نجيلة” ذكرياتي في البادية.. ما أشبه بادية الكبابيش في أقصى الشمال الكردفاني ببادية الرزيقات الأبالة في أقصى شمال دارفور.. هناك وادي الملك.. ووادي أبو عضام.. ووادي أبو زعيمة.. وهنا وادي أبو سكين ووادي كفوت.. خرجنا من قرية (طرة) الواقعة شمال شرق مدينة الفاشر.. بعد أن تعرضت بعض السيارات للوحل في خور عميق.. تدفقت مياه أمطار الأمس من جبال (وانا) الشاهقة والتي يقال عنها الكثير من الأساطير والأحاجي القديمة والحديثة.. و(طرة) الشمال الدارفوري هي أسماً على (طرة) الجبل وكلا السكان في المنطقتين من قبيلة الفور التي يتمدد وجودها بكثافة في كل ولايات دارفور والجزيرة وكردفان.. والخرطوم، بيد أن هناك تخليط في مفاهيم أهل الوسط وعدم تمييز بين الفور والبرقو وبقية مكونات دارفور.. وطرة الشمال خاطب حشدها الوفد الذي يقوده د.”التجاني سيسي” ليعلن للجماهير التي رفعت الشعارات مطالبة بتحسين الخدمات وتوفير الدولة الحماية لمواطنيها، أعلن مسؤولية الحكومة عن حماية كل الناس وبدأت المدرسة التي شيدتها السلطة الإقليمية حدثاً كبيراً وإحياءً لروح كادت أن تندثر.. هذه القرى لم تشهد من السبعينيات من القرن الماضي تشييد شفخانة أو مركز، حتى المدارس القديمة التي تقترب من السقوط لم تمتد لها (مشروعات إعمار الدار) التي قال الوالي “عبد الواحد يوسف” إن الأموال التي رصدت لها ذهبت لطلاء سور بعض المدارس وبناء قليل من المساجد.. في طرة خرجت الطالبات يهتفن بلسان نصف عربي ونصف أعجمي، وتلك (حلاوة دارفور وغلاوتها).. تحدث نائب والي شمال دارفور “محمد آم النحلة” وشدد في حديثه على ضرورة حصول المواطن في الريف على الخدمات حتى لا يخلو الريف من السكان.
{ رماد المعارك
يقود ركب الوفد الكبير العقيد “يس يوسف” أحد أبرز شباب الرزيقات ممن التحقوا بالتمرد منذ السنوات الأولى وقاتل في صف حركة العدل والمساواة.. وفي صف حركة تحرير السودان وهو خبير بدروب دارفور تعرفه و(يعرفها).. يحبها وتحبه.. ولا يكف العقيد “يس يوسف” مساعد رئيس السلطة الإقليمية من الحديث عبر هاتف الثريا الذي يعمل بالأقمار الصناعية مع آخرين لا نعلمهم، ولكن في وسط الجبال الشاهقة والطريق الذي يتلوى كالأفعى يتوقف الركب ويترجل “يس يوسف” من سيارته ليتحدث طويلاً مع شخص ما.. وحينما يشير إلى الرائد “سعد” قائد حرس الدكتور “السيسي” بتحرك القافلة تبدأ الرحلة مرة أخرى وأصوات إطارات السيارات تحدث أنغاماً شجية تعيد لأمثالنا ولو مؤقتاً رحلات على حواف الجبال الشاهقة في وادي أم سردية في أقاصي جنوب جبال النوبة.. ذات الخضرة والجمال وأشجار الدوم والبلح.. والسدر والصهب والعرديب تغطي مساحات واسعة من وادي أبو سكين.. يقول الوزير “محمد يوسف التليب” وهو من شباب الحركة الإسلامية المجاهدين.. هنا جرت معارك (بيننا) والتمرد.. هنا.. قتل فلان على أيدي الشهيد (فلان)، ويروي الفريق “حسين عبد الله جبريل” قصة الأسد الذي هاجم عم اللواء “صافي النور”، يشير الفريق “حسين” إلى شجرة بعينها.. ويقول هنا كان يقف الأسد ومن هنا.. بدأت المعركة.. وإذا كانت معارك السنين التي اندثرت هي بين الإنسان والحيوان فإن معارك الإنسان مع نفسه قد طردت الحيوانات من تلك البادية.
ولا يكف الفريق “حسين عبد الله جبريل” عن قصص المفتش الإنجليزي مستر “مور” في كتم، كما يرويها كبار القوم من أهل تلك البادية.. اقتربنا من مدينة كتم.. واقتربت الشمس من المغيب.. والسماء من إرسال زفات المطر.. والجبال لبست ثياب خضراء.. وقوافل الإبل الظاعنة تجوب (الفلوات).. والمدارس لا تزال تفتح أبوابها.. لكن الإهمال الذي تتعرض له البادية في الشمال جعل الدكتور “تجاني سيسي” يبكي من دواخله بحرقة وأسى.. قبل المغيب بقليل بدأت دامرة مصري.. في تلة شاهقة.. تحيط بها الجبال من الشمال والغرب والشرق سهل يمتد حتى الوادي.. مدرسة حديثة شيدها المهندس “محمد عبد الرحمن حسين” الشهير بـ(حمودة) مدير شركة أوم، وعندما خصصت السلطة الإقليمية لدامرة مصري مدرسة لم يصدق (حمودة) النبأ.. هرع لتقديم نفسه لتشييد المدرسة أنفق عليها من ماله الخاص ولم ينتظر تدفقات مال الحكومة.. لم تمضِ شهور وإلا كانت مدرسة دامرة مصري قد اكتملت، تلك المنطقة.. خرج من صلبها قادة كبار ورموز مجتمع.. مثل اللواء “عبد الرحمن صافي النور” الذي يحترمه أهل دارفور ويضعونه في مقام فوق خلافاتهم حول بقية القيادات. ومن تلك المنطقة الشيخ “حماد عبد الله جبريل” والفريق “حسين” و”حمدين الدود” ورجل الأعمال “آدم عبد الرحمن” الشهير بـ(أدومة) الذي يقول عنه الفريق “صلاح قوش”.. لم أتعرف في حياتي على رجال شجعان مثل (أدومة) وكرماء إلا قلة لا تتعدى أصابع اليد الواحدة.
{ بيعة د. “السيسي”
حينما كان الركب الكبير من القيادات البرلمانية والسياسية يطوف مع “السيسي” القرى النائية لافتتاح مشروعات السلطة كانت الخرطوم تحتضن ندوة سياسية تحت عنوان (تقييم أداء السلطة الإقليمية).. صعد على منبرها فرقاء حركة التحرير والعدالة الذين جمعتهم المعارضة والاتفاقية في الدوحة وفرقتهم السلطة بكسبها المادي في الخرطوم في ندوة مركز دراسات الشرق الأوسط، كال خصوم “السيسي” له الهجوم وعلى سلطته ولعن “فاروق أحمد آدم” الاتفاقية ووصفها بالفشل، وتعهد الجمع الذين تحدثوا في الندوة عن ضرورة إزاحة “السيسي” من رئاسة السلطة وتنصيب قيادة بديلة.. ولكن شيخ الرزيقات العريقات في دامرة مصري “حماد عبد الله جبريل” قال شهادته لصالح السلطة الإقليمية و”حماد عبد الله جبريل” زعيم قبيلة عريقة.. وآلاف الشباب الذين يحملون السلاح ويحمون الدولة من كيد المتربصين.. ويسهرون لتغني الخرطوم وترقص هم أحفاد الشيخ “حماد” البرلماني العتيق.. والسياسي الذي اختار حياة (البداوة) والترحال، أن يقول شهادته في أداء السلطة ويشهد لها بحسن الأداء في دمر العرب الرحل الذين يمثلون هامش المهمشين في دارفور.. وهم أول من يضحي ولكن آخر من يستفيد.
عندما صعد اللواء “عبد الله صافي النور” ليتحدث صمتت الجموع الحاشدة التي لم تفرقها زفات المطر الذي هطل قبل اللقاء الجماهيري بدقائق.. لم يلوذ العرب البدو بمباني المدرسة، ولكن النساء اللاتي يشبهن الغزلان البرية اتخذت من هوادجهن ملاذاً لهن من المطر والرياح الباردة.. حتى كفت السماء عن الهملان.. وتحدث “صافي النور” القريب جداً من أهله وعشيرته، وقال إن السلطة الإقليمية أوفت بما وعدت وأجزلت العطاء لأهل دارفور ولم تهدر المال في غير موضعه شهادة “صافي النور” كانت بمثابة بيعة بين بادية (العريقات) إحدى بطون الرزيقات الأبالة والدكتور “السيسي” الذي اعترف جهراً بأن مناطق البدو في دارفور هي الأكثر تخلفاً وأن التعليم في حاجة إلى دعم ولقيام مدارس ثانوية للبنين والبنات حتى لا يتسرب الطلاب كفاقد تربوي ولا يجدون مقاعداً لهم للدراسة.. ما بعد الأساس.
عند مغيب الشمس كان قرار القيادة السياسية أن يركب الصعاب ويشقون الطريق نحو العودة إلى الفاشر، وقد أخذ التعب والرهق ما أخذ من الرجال، ولكن وجود قيادات نسوية ضمن الوفد حفز الرجال على الصبر على مشاق السفر الطويل والصحافيات “هبة محمود” و”رشان أوشي” و”ناهد دراج” والقيادية في حركة التحرير والعدالة وعضو البرلمان “زينب داوود” يبدين استعدادهن لرحلة السفر الطويل من كتم إلى الفاشر، وحينما انتصف الليل وتجاوزت عقارب الساعة الثانية عشر ليلاً كانت سيارات الوفد تطرق أبواب الفاشر من الشمال وهو ذات الطريق الذي سلكه “مني أركو مناوي” حينما دخل الفاشر غازياً والوالي الجنرال عاكفاً في المسجد.
{ زمزم وخيار التوطين
إذا كان النازحون في معسكر أبو شوك قد تجاوزوا حالة الشكوك والقطيعة مع الحكومة وقد اندمج معسكر أبو شوك في أحياء مدينة الفاشر وبات جزءاً منها وانتظمت تشكيلات الأحزاب والرياضة في الحي فإن معسكر زمزم الواقع على طريق الفاشر نيالا يعتبر واحداً من المعسكرات التي تتخذها المعارضة المسلحة وحركة تحرير السودان بزعامة “عبد الواحد محمد نور” كسلاح في يدها.. لكن تطورات كبيرة وتحولات عميقة شهدتها العلاقة بين الحكومة والنازحين، والحكومة هنا بشقيها حكومة الولاية.. خاصة بعد قدوم الوالي الجديد.. والسلطة الإقليمية.. وقد لعبت قيادات مثل “تاج الدين” الأمين العام للسلطة دوراً كبيرً في تقريب المسافة بين السلطة الإقليمية وتلك المعسكرات و”تاج الدين” كان مديراً لمكتب د.”محمد يوسف” ومن شباب المؤتمر الوطني القريبين جداً من أهلهم في دارفور.. الوالي “عبد الواحد” اختار أن يقول كلمته بلهجة بسيطة لسكان المعسكر البالغ عددهم نحو (42) ألف نسمة.. وأغلبهم من النساء والأطفال وأخذ المعسكر صورة لمدينة تحت التكوين.. مدرستان للأساس بنين وبنات ومدرستان ثانويتان هي حصيلة عطاء السلطة لمعسكر زمزم.. الوالي قال إن حكومته مع رغبة النازحين، إن رغبوا تخطيط المعسكر وتوزيعه كأراضي سكنية فإنها قادرة على ذلك إن اختار النازحين العودة الطوعية فمهمتها تأمين القرى من هجمات التمرد والجنجويد، وأكد د.”التجاني” في اللقاء الجماهيري بمنطقة زمزم إن الحكومة ماضية ولا نكوص عن اتفاقية الدوحة ولا عودة للحرب، وانتقد د.”التجاني” بشدة الصراعات القبلية التي تنشب من وقت لآخر في دارفور حتى باتت هذه الصراعات مهدداً للأمن القومي السوداني.