"سوق النسوان" بأم درمان، أكثر من مائة عام ..عبق من الماضي ممزوج بالحاضر
أم درمان – هبة محمود
عبق من الماضي ممزوج بالحاضر تستشعره وأنت تخطو بخطواتك نحو “سوق النسوان” بأم درمان، أكثر من مائة عام هي عمر هذا السوق الذي أنشأه الخواجة برمبل عام (1907)، لعدد من النسوة ليمارسن عملهن خلاله.
ظل السوق في موقعه الذي أقيم عليه جوار مبني محلية أم درمان بالسوق، إلى أن انتقل إلى موقعه الحالي جوار محلات أبو مرين في عهد الرئيس جعفر محمد نميري، ومنذ ذلك الوقت ظل يحوي عدداً كبيراً من النسوة اللائي أجبرتهن ظروفهن المعيشية للخروج، متعففات ينشدن ستر الحال والعيال، (المجهر) وثقت لهن تاريخهن ووقفت على مشاكلهن التي وثقت لها بالعدسة والقلم.
الطريق إلى سوق النسوان لا يحتاج إلى كثير عناء، فهو علم على رأسه نار، ففي الشمال الغربي من سوق أم درمان وأنت تتجه نحو الغرب وعطفاً على محلات أبو مرين تجده، تلوذ تحته مجموعة من النسوة، يرجع عمر أقلهن مكوثاً بالسوق إلى الـ 40 عاماً، ورغم أنه ـ أي السوق ـ لم يبق فيه سوى عدد قليل من الحبوبات (عشرة تقريباً)، إلا أنه ظل محتفظاً باسمه ومكانته لأكثر من مائة عام كسوق يجمعهن، رغم التواجد الذكوري من الباعة الذين يمتلئ بهم السوق.
ملامح السوق وإن بدت بدائية بعض الشيء إلا أنه رغم ذلك يجد إقبالاً كبيراً من قبل الباعة لحظته (المجهر) أثناء تجوالها داخله توثق له ولرائداته.
كل ما يمكن تخيله يوجد داخل السوق، فهو رغم صغره إلا أنه يحتوي على كل المنتجات الريفية والتراث المحلي وكل المصنوعات والمشغولات اليدوية المتمثلة في (المفاريك ـ المشلعيب ـ القفف ـ كواري القرع ـ البروش ـ جبنة الفخار ـ المقاشيش ـ الطباق بكل أنواعها ومقاساتها ـ طواقي السعف… الخ، من المنتجات اليدوية إضافة إلى بيع البهارات بكافة أنواعها (الدكوة ـ السمن البلدي ـ الشطة ـ الكول ـ المرس ـ الويكة ـ الزريعة وغيرها من أنواع البهارات، حتى (برطمانات) الزجاج الفارغة تكون حاضرة داخل هذا السوق المتنوع، فأمام كل سيدة يوجد وعاء كبير يمتلئ (بالبرطمانات) الفارغة بمختلف الأشكال والأحجام والمقاسات تستخدم لتوضع بداخلها عطور العروس كـ(الخُمرة) وخلافه، فالبرطمان رغم تقليدية شكله إلا أنه وفقاً للحاجة “نفيسة خالد القمري” إحدى رائدات السوق، يعتبر أفضل من القوارير الزجاجية الحديثة ذات الأشكال الجميلة لأنه يمنع تسرب العطور.
فمع صباح كل يوم جديد ولأكثر من خمسة عشر عاماً ظلت الحاجة “نفيسة خالد القمري” إحدى قدامى بائعات السوق تأتي من منزلها بحي الثورة بصورة راتبة لتمارس عملها بالشكل المعتاد، بعد أن ورثت الجلوس في “سوق النسوان” خلفاً لوالدتها ومن قبل ذلك جدتها التي عاصرت الخواجة (برمبل)، تقول حاجة نفيسة: (السوق دا لو فيهو تسجيل يسجلوهو لي لأني توارثت الجلوس فيه عن حبوباتي)، وإستطردت وهي تحكي تاريخ السوق: لم يكن هذا مكانه القديم، فقد كان مجاوراً لمبنى محلية أم درمان بالسوق لسنوات عدة، وفي عهد الرئيس (جعفر نميري)، انتقل إلى مكانه الحالي وتم إنشاؤه بالعون الذاتي، وظل يجمع عدداً كبيراً من النسوة اللائي لم يتبق منهن غير الموجودات حالياً، ونحن ألآن والحديث مازال لمحدثتي، نقوم بالتعاون مع بعض التجار الذين يقومون باستجلاب (المقاشيش والشملة والسمن والطلح والشاف، بالإضافة (للبرطمانيات)، أما المرس والويكاب فيأتينا من مايو، وأضافت: بالمناسبة المرأة في التجارة أشطر من الرجل وخاصة لما تكبر في السن لأنها بتكون حكيمة.
ورغم أن السوق بحاجة لإعادة تأهيل، إلا أن علامات الرضا كانت تحتل مساحات كبيرة على تقاسيم “الحاجة نفيسة” التي ذكرت أن حركة البيع والشراء على ما يرام ووصفتها قائلة: ماحصل زول قعد ومرق ساي، نحمد الله بايعين وشاكرين وحامدين، البيوت عملناها والأولاد علمناهم وعرسنا ليهم، عندي خمسة بنات وولد واحد وجميعهم شغالين ورغم إصرارهم على أن أترك للعمل إلا أنني التي أصر على العمل، وزادت: بس لو الحكومة تكرمت وعرشت لينا السوق بالزنك يكون أفضل.
لم يكن مطلب “حاجة نفيسة” بحاجة إلى عصا موسى لتحقيقه، سيما أنه ـ أي السوق ـ يضم نساء كبيرات في السن، يحتمين بمظلات صنعت يدوياً، لم يجد (رقراق) الشمس بداً من التسلل بين فتحاتها، وهن يقضين سحابة يومهن تحتها وفي فصل الخريف تتضاعف معاناتهن بعد أن تتسلل مياه الأمطار إلى ما يبعنه ناهيك عن وعورة المكان التي يستحيل معها السير.
بجانب حاجة “نفيسة” كانت تجلس إحدى الطاعنات في السن، وهي تعاني ضعف في السمع والبصر معاً إن لم تكن تعاني ذاكرتها من الشلل أيضاً، فقد كانت تجلس وهي بالكاد تقوم بعملها، فما أن دنونا منها، حتى مضت تتفحص ملامحنا وتتفرسها، ونحن نردد على مسامعها ما نقوله علها تسمعها، لينبري أحد الباعة الذي يعمل في مجال بيع الطيور يرشدنا للبحث عن غيرها، لأنها لا تعي شيئاً، وبانصرافنا عنها، تبين لنا أن الكيف هو الذي يجعلها تأتي لهذا السوق وهي بهذه الحالة، خاصة أن ما تجنيه من مال هو بالكاد يقضي حاجتها.
إلى جوار تلك السيدة، كانت تجلس شقيقة الحاجة “نفيسة قمري” والتي باقترابنا منها انتهرتنا، ورفضت التحدث إلينا بدعوى أن وسائل الإعلام دوماً ما تقصدهن دون أن يستفدن هن كنسوة شيئاً، ومع رغبتها في عدم الحديث انصرفنا عنها وتركناها تزبد وترغي.
وفي الجانب الآخر من السوق كانت تجلس (الخمسينية) “حواء إسحاق”، وفي خاطرها تسترجع 35 عاماً من عمرها قضتها بين جنبات سوق النسوان، ومازالت تذكر تلك اللحظة التي وطأت بقدميها أرض السوق بعد أن طلقها زوجها وترك لها أبناءها لتعولهم، فلاذت بميراث جدتها من أرض السوق وجلست بدلاً عنها.
تقول “حواء”: طلعتني الظروف من منزلي، كنا نجلس عدد كبير من النسوة، تتباين ظروفنا المعيشية، فمنا المطلقات والأرامل نقوم ببيع كل شيء وقبل مجيء حكومة الإنقاذ تعرضنا للجلد والمحاكمة، وفي عهدها أكرمتنا بأن أعفتنا من دفع أي نوع من الجبايات أو الضرائب، تواجهنا مشاكل ولكن الحمد لله مترزقين ويومنا كويس، وزادت نحن بحاجة لتأهيل السوق وصيانته حتى يتسنى لنا الجلوس فيه كما يليق بنا..
أمام “حواء” تتنوع مختلف المنتجات اليدوية والمشغولات والسعف والسلال والأواني الفخارية فتبدو بتلك البضاعة المتنوعة أكثرهن وأثراهن حالاً من الموجودات، فهي بحسب قولها توسعت في تجارتها وتقوم بشراء كل ما يعرض عليها من قبل التجار حتي يجد عندها المشتري ضالته.
وبجوار “حواء إسحاق” جلست “حواء محمد”، وهي تقاسمها الألم وتشاركها الفرح، وإن اختلفت تفاصيل حياتهن كثيراً إلا أن الظروف هي قاسمهن المشترك الذي جمع بينهما.
جاءت “حواء محمد” لسوق النسوان بعد أن أجبرتها الظروف للبحث عن عمل، فكان السوق ملاذها لأكثر من 25 عاماً قضتها فيه تبتاع المصنوعات والمشغولات اليدوية فجلست وبحوارها تتدلي المشلعيبات التي تتحرك وفقا لحركة الرياح فتضفي على المكان منظراً جميلاً، إلى جانب القرع والطباقة الزاهية الألوان وهي تمنح محيطها ـ أي حواء ـ بعداً آخراً ، إلى ذلك فهي أيضاً تقوم ببيع الدكوة والفول والويكة والدوم المقشور…