رأي

كيف قابل القراصنة مجهودات "التجاني محمد إبراهيم" حول مبادرة الحوار الشامل؟

رداً على “د. أحمد بلال”
بقلم – عارف التيجاني/ مسؤول الاتصال والتمويل في المبادرة/ الكويت

 وأنا أتجول عبر القنوات الفضائية السودانية لمعرفة آخر أخبار وصول رئيس الجمهورية من جنوب أفريقيا، فإذا بي أحط الرحال بقناة (الشروق) مع “د. أحمد بلال عثمان”، الرجل الذي طالما أحترمه وأقدره كثيراً لما يحمله من صفات نادرة قل أن تجدها في الكثير من السياسيين المعاصرين من طيب معشر وخلق ابن البلد الأصيل، كما للرجل الكثير من الأفكار التجارية القيمة التي استفدت منها الكثير. توقفت عند قناة (الشروق) وظننته في الوهلة الأولى أنه يتحدث عن الحدث الذي شغل العالم في ذلك اليوم، ولكن كان لقاءً مسجلاً في استضافة برامج (فلاش باك) مع الأستاذة “عفراء عبد الرحمن”، وكان موضوع الحلقة (الشريف زين العابدين الهندي) ومن ضمنها مبادرة الحوار الشعبي الشامل.
حقيقة لم أصدق نفسي وأنا أشاهد ذلك البرامج وظننت أنه ربما فاتني شيء من الحديث، فلذلك حرصت على حضور (الإعادة) في اليوم الثاني، لأتأكد أني فعلاً أشاهد إفادات “د. أحمد بلال” عن “الشريف” والمبادرة، لم أصدق نفسي بأن أقرب المقربين لتلك المبادرة التي ذكر أنها بدأت في العام 1996 بحساباته الخاصة، لم يذكر مهندس تلك المبادرة والصديق الأكثر من شخصي لـ”الشريف زين العابدين الهندي” الحاج “التجاني محمد إبراهيم” (طيب الله ثراهما) – لا من قريب ولا من بعيد. أصبت بالذهول وأنا أشاهد بأم عيني مدى ما وصل إليه عالم السياسة والسياسيين من تزييف للحقائق في غياب تام إلى من يدون التاريخ المعاصر لهذا البلد المغلوب على أمره، الشيء الذي دفعني ولأول مرة لأدلو بدلوي في أمر هذه المبادرة وأنا شاهد على كل تلك الأحداث بصفتي مدير عام شركه (التوحيد) في تلك الفترة ومسؤول الاتصال والمساعد الأول للحاج “التجاني محمد إبراهيم” والمسؤول عن التمويل والصرف على هذه المبادرة من بداياتها وحتى نهاياتها الدراماتيكية.
يدري أو لا يدري “د. أحمد بلال” العلاقة الخاصة التي تميز هؤلاء الرجلين (طيب الله ثراهما) من سبعينيات القرن الماضي، ونحن كأبناء وعائلة لهذا العملاق الحاج “التجاني”، فقد فطمنا وترعرعنا بالسياسة منذ الصغر، وجميع دورنا بداية من الترعة الخضراء والدويم وأم درمان وأخيراً وليس آخراً الخرطوم بحري، كل دورنا كانت مشاهد ومراتع وملاذات آمنة لكل السياسيين في الساحة السياسية حدث ولا حرج – وفي كل العهود التي مرت على السودان – كل دورنا من منازل ومكاتب تعمل على مدار الساعة لخدمة الجميع من غير كلل ولا ملل ومازالت حتى الآن تفعل الشيء نفسه حتى صار لـ”الشريف زين العابدين الهندي” في منزلنا ببحري غرفة خاصة تسمى باسمه (غرفة الشريف) الجميع يعلمها و”د. أحمد بلال” ليس بالاستثناء، هل يعلم الدكتور أنه عند مغادرة “الشريف” قبل يوم من انقلاب الإنقاذ غادر من تلك الغرفة وكان في وداعه في مطار الخرطوم الحاج “التجاني محمد إبراهيم” و”الزاكي التجاني” (الابن الأكبر).
هل يعلم “د. أحمد بلال” بالمجهود الجبار الذي قام به الحاج “التجاني محمد إبراهيم” منذ بداية التسعينيات مع قادة الإنقاذ لإقناعهم فقط بمبدأ الحوار، والجميع حتى راعي الغنم في الخلاء يعلم أنه خلال تلك الفترة كان من المحرمات الحديث عن حوار مع أي جهة أياً كانت في ظل الاستقطاب الحاد من قبل الطرفين، من معارضة مسلحة باسم التجمع الوطني الديمقراطي ونظرية (سلم تسلم) والذي كان أحد مناديبه في “لندن” من تزعم وجلس على كرسي عرش المبادرة، وما بين القبضة الحديدية للحكومة ومن فيها من صقور وحمائم، فكانت فعلاً عملية تحتاج لحنكة وخبرة سياسية عالية المستوى لإقناع الحكومة حتى بالسماع لمثل هذه التغريدات. ولكن مما ساعد في انجاز هذه العملية المعقدة تاريخ “الشريف زين العابدين” الناصع من خلال المعارضة النبيلة والشريفة التي لا تستعين بالغريب على القريب، ولم ينادي يوماً بحمل السلاح ضد النظام. فكانت استجابة الحمائم من النظام للسماع لهذا الصوت الذي كان يغرد خارج سرب المعارضة لتحكيم صوت العقل لسودان يسع الجميع دون إقصاء لأحد، سودان الحريات وحقوق المواطنة والعدالة الاجتماعية، وقد تكللت تلك المساعي الأولية بإعطاء الضوء الأخضر للحاج “التجاني محمد إبراهيم” للمضي قدماً في مسعاه.
لا أريد الدخول في الأشياء التفصيلية لهذه المبادرة وبنودها وما كان يدور خلف الدهاليز، ولكني أروي فقط الأشياء الإجرائية والمشاهدات التي كنت أنا طرفاً فيها ومسؤولاً عنها مباشره بعد أن تم تكليفي من قبل الحاج “التجاني” بالصرف على كل ما يتعلق بهذه المبادرة ودون الرجوع إليه.

بدأت الانطلاقة بمحادثات تلفونية مكثفة بين الحاج “التجاني” و”الشريف” و”د. أحمد بلال”، ثم الرحلات المكوكية إلى “القاهرة” التي تكاد تكون شبه شهرية حاملاً الرسائل من طرف إلى آخر حتى تكللت تلك المساعي باللقاء الشهير بين رئيس الجمهورية الفريق/ “عمر حسن أحمد البشير” والوفد المرافق له المكون من الأستاذ “علي عثمان محمد طه” واللواء “بكري حسن صالح” واللواء “عبد الرحيم محمد حسين” وآخرين، ومن الطرف الآخر “الشريف زين العابدين” والحاج “التجاني محمد إبراهيم”.
 وقد كنت حلقة الوصل ما بين كل تلك الأطراف بالتنسيق مع مراسم القصر وسفارة السودان في “القاهرة”.
بعد ذلك الاجتماع المشهود كلفت بعمل الترتيبات اللازمة لزيارة وفد المقدمة الذي من المفترض أن يكون أكثر من شخص ولكن في نهاية الأمر وصلتنا أسماء شخصين هما  “د. أحمد بلال عثمان” وبروفيسور “علي عثمان”، وقد سبق ذلك تحديد شعبة في جهاز الأمن العام للتنسيق معهم في تسهيل إجراءات السفر وفك الحظر (إن كان) عن كل المشاركين في تلك المبادرة سوى أكانوا بالداخل (ممنوعين من السفر إلى الخارج) أو بالخارج (ممنوعين من دخول البلاد)، وكانت أولى ملاحظاتي على تلك القوائم أن معظم الذين قمت بإدراج أسمائهم ليست لهم قضايا تخص أمن الدولة بل هي قضايا حظر من جهات خاصة بمعاملات تجارية أو ما شابه ذلك، وقمت بعمل التسويات مع الجهات المعنية.
وصل وفد المقدمة للتبشير بالمبادرة في الداخل على كل أطياف الساحة السياسية معارضة وحكومة وأجهزة حزب المبادرة، فتم توفير كل شيء لهم ولزوارهم من مأمن ومأكل ومشرب، فانقلب منزل الحاج “التجاني محمد إبراهيم” – ببحري – إلى دار للحزب تقام فيها الندوات والمحاضرات، وفندق لمن أراد الإقامة مع كل الوجبات وخدمة (الروم سيرفس)، وأيضاً (هايد بارك) لكل من أراد أن يرفه عن نفسه في تلك الأجواء الاحتقانية، وكان يقول الحاج “بشير ارتولى” (يرحمه الله) مازحاً (من دخل دار التجاني فهو آمن) ولا أظن “د. أحمد بلال” ينسى تلك الفترة.
تلا تلك الفترة مؤتمر دمشق، وأيضاً كلفت بتسهيل إجراءات كل المشاركين في ذلك المؤتمر من تذاكر سفر وحجوزات الفنادق وحتى النثريات الشخصية.
أثمرت كل هذه الجهود بعودة “الشريف زين العابدين الهندي” إلى أرض الوطن ومجموعة من أعضاء الحزب في الخارج، وهنا أيضاً كانت كل دورنا مفتوحة لـ”الشريف” والحواريين الذين أتوا من كل حدب، أتوا من السعودية ومن اليمن ومن لندن ومن القاهرة ومن داخل السودان.
منذ العام 1996 وحتى عام 2001م قمت بصرف ما يعادل المليون ونصف المليون دولار من حر مال الحاج “التجاني محمد إبراهيم” – على هذه المبادرة – دون أن أتسلم مليماً واحداً من أية جهة أياً كانت تلك الجهة، وفاتني أن أذكر أنني طيلة فترة المبادرة كنت أيضاً مسؤولاً عن دفع إعاشة الكثيرين من منتسبي هذه المبادرة في “القاهرة” من إيجارات ونثريات خاصة لهم وحتى لذويهم في السودان.
لقد نجحت المبادرة في كسر حاجز الرعب بين الحاكمين والمعارضين، وتمكنت من تهيئة مناخ الحريات المعدومة في ذلك الوقت، وحركت الساحة السياسية بقيام الكثير من الندوات المفتوحة وحرية الصحافة، كما نتج من مقررات لجنة الفكر الوطني برعاية الأستاذ “علي عثمان محمد طه” الكثير من الرؤى والأفكار النيرة.
انحرفت المبادرة عن جادة الطريق بعد أن تم اختطافها من قبل أشخاص كان همهم الأوحد المشاركة في الحكم وملء الوظائف الدستورية كأولوية، بدلاً من خضوع صيغة الاختيار للرأي المؤسسي والتفاكر داخل أسورة الحزب حتى يتسنى وضع الشخص المناسب في المكان المناسب، وهذا كان لب الخلاف الذي نشب بين الحاج “التجاني محمد إبراهيم” والمهاجرين الجدد، مما حدا به لمواجهة “الشريف” في أمر التعيينات، وكان رد “الشريف” المشهود (هم عينوا أنفسهم)، ومن ثم تحولت إلى مغنم وسلعة تباع وتشترى في السوق ومصدر رزق ونصب واحتيال للكثيرين، وهذا ما جعلني أطرح السؤال إلى القائمين على أمر هذه البلاد، ما هي المعايير المتبعة للتعيين في المناصب الدستورية؟ هل هناك عرض للسيرة الذاتية أو المؤهل العلمي والأكاديمي، ما هي آخر وظيفة كان يعمل فيها، هل تم فحص الصحيفة الجنائية؟ كل هذه الأسئلة من البديهيات إذا أردت تعيين أي أحد حتى لو في وظيفة بواب عمارة، من المفترض أن يكون أشد حزماً وتمحصاً في من يتولون الشأن العام، حتى يصل الحال في بعض الدول مثل “الولايات المتحدة الأمريكية” إلى خضوع المرشحين إلى بعض الوظائف الدستورية إلى لجنة استجواب من (الكونجرس) فيما يسمى بـ((Confirmation hearing ويتم فيها سؤال الشخص عن كل شيء منذ طفولته إلى أن وصل إلى هذه اللحظة، ويمكن أن يتم رفض الشخص إذا وجد أنه غير جدير بتولي ذلك المنصب، فهل هذا يا ترى متبع عندنا في سودان العز والشموخ. هل كان الحاج “التجاني محمد إبراهيم” على حق عندما خاطب السيد/ رئيس الجمهورية بهذا الخصوص وتلك التعيينات، وخاصة بعد عملية القرصنة الممنهجة التي تمت لمبادرة الحوار الشعبي الشامل (وبمن فيها) حتى شملت هذه العملية “الشريف زين العابدين” نفسه. هل أصبحت حكومة السودان (بعد هذه المبادرة) ملجأً لكل رموز الفشل السياسي والأخلاقي ليصبحوا بين ليلة وضحاها وزراء ووزراء دولة وولاة ومعتمدين، وبعد ذاك كله ينتظر المواطن المغلوب على أمره أن ينصلح حاله وينعم برغد العيش والرفاهية.
أخي “د. أحمد بلال”، كما أسلفت ذكره، عرفنا عنك التجرد ونكران الذات، وأنك من السياسيين الذين أشهد عليهم بالحكمة وفصل الخطاب، لا نريد منك جزاء ولا شكورا، كل ما نريده أن تعطي كل ذي حق حقه.

والله من وراء القصد
أهم المحطات:
{ سر الاتصالات الهاتفية بين “التجاني” و”الشريف” ودور الأمن ومراسم القصر في الاتفاقية.
{ قصة المليون ونصف المليون دولار.. شجاعة “التجاني” في طرح المبادرة.
{ انطلاقة الفكرة… سرية العملية ترتيبات السفر والإقامة والتحاويل المالية.
{ كسرت المبادرة حاجز الخوف من السلطة قبل أن يختطفها الانتهازيون.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية