الديوان

(المجهر) تنقل طقس "عواسة الآبري" من منزل الحاجة "نفيسة التجاني"

الـ(حلو مر) رائحة فواحة ومذاق يبشر بمقدم  شهر رمضان
المجهر- ميعاد  مبارك- نهلة مسلم
رائحة زكية تعبق طرق وشوارع وأزقة جميع المدن والقرى السودانية،  تنقلك سريعاً إلى الأجواء الرمضانية بكل طقوسها. وفي هذه الأيام بالتحديد لا يخلو بيت سوداني  من احتفال صغير أو كبير بصناعة أو “عواسة  الأبري” الـ(حلو مر)، هذا المشروب السوداني الخالص. (المجهر) انتقلت بكاميرتها إلى أحد البيوت السودانية لتوثق جلسة أو لَمَّة  احتفائية بـ”عواسة الآبري”، وفي حضرة  أمهاتنا المعتقات لنقف على  تفاصيل وأسرار هذا الطقس السوداني المميز.
{ صاج الخالة السنارية “آمنة”
زيارتنا الأولى كانت إلى منزل الحاجة “نفيسة التجاني” بحي (امتداد الدرجة الثالثة مربع 10)، التي رحبت بنا بحفاوة بالغة هي وأسرتها الكريمة.. رائحة البهارات الفواحة المنبعثة من “صاج العواسة” عبقت المكان ومنظر الأطفال المتحلقين في سعادة يتخاطفون شرائح  (الآبري) شدنا بقوة لجوار الخالة “آمنة” السيدة القائمة على (عواسة) “حلو مر” هذه الأسرة لأكثر من اثني عشر عاماً، وعبر حديثنا معها  أكدت أنها رغم إصرار أبنائها على راحتها ومنعها من السفر تصر على القدوم من سنار إلى الخرطوم كل عام خصيصاً لـ(تعوس الآبري) لزبوناتها اللاتي تربطها بهن علاقة عشرة وود وحب خالص،
الحاجة “نفيسة” وجاراتها في الحي، وقالت: (أولاً بعوس لحاجة نفيسة بعداك برجع سنار كان الله أحيانا.. الأولاد بزعلوا لكن أنا ما بتكسر وأخلي الشغل)، مستصحبة ذكرياتها في أيام الصبا، يوم كانت هي وجاراتها يجتمعن، إذ إن “العواسة” في الماضي كانت طقساً حافلاً يجمع كل نساء الحي.. وفي حضرة القهوة والشاي والبلح يتسامرن ويتبادلن الجلوس على “صاج العواسة”.. واختتمت الخالة “آمنة” حديثها بابتسامة وضيئة متمنية للجميع بلوغ الشهر الفضيل.
{ عشق الـ(حلو مر) من الخرطوم إلى بولندا
جلسنا في رحاب ست الدار الحاجة “نفيسة التجاني” وأسرتها وبعض الجارات، لنبدأ حديثاً شيقاً مشبعاً بطقس “عواسة الحلو مر”، افتتحته الحاجة “نفيسة” قائلة: (كل عام أقوم بعواسة الآبري لي ولأبنائي وأخوتي داخل وخارج البلاد، اعتدت على هذا التقليد منذ أن كنت أعيش في بيت الأسرة الكبير بـالحصاحيصا.. كلهم لازم يضوقوا الحلو مر.. حتى ولدي الفي بولندا برسل ليه لو لقيت زول مسافر)، وأضافت: (زوجته البولندية وأبناؤه من محبي مشروب  الآبري ويسمونه العصير السوداني، في زيارتهم الأخيرة حملناهم ما تبقى من حلو مر رمضان الماضي.. ولو لقينا زول مسافر على جهتهم بنرسل ليهم تاني).
{ سر الخلطة السحرية
أكدت الحاجة “نفيسة” أهمية طقس “عواسة الآبري” عندها رغم التعب الذي يصاحبه واستغراقه وقتاً طويلاً، ممازحة: (عشان كدا سموه حلو مر عشان التعب الذي يسبق طعمه اللذيذ)، مستدركة: (يقال إن التسمية راجعة لاختلاط طعم المرارة والحلاوة فيه)، وعن سر الخلطة قالت: (مكوناته العامة وطريقة صنعه متقاربة جداً لدى الجميع، لكن هنالك بعض التراكيب والفنيات الخاصة، ولكل شيخ طريقته، فأنا مثلاً أحرص على انتقاء البهارات ذات الجودة العالية، ما بشتري المسحونة جاهزة، ولا بسحن بهاراتي، (بدقه) عشان أحفظ نكهته للحول وحول الحول)، مضيفة: (وأقوم بتزريع الزريعة في فصل الشتاء، لأن  زريعة العيش فيه سمحة وتستمر لسبعة أيام بعداك بندققها أي  نطحنها وفي رجب أو في قصير/ شعبان بـ”نكوجن” نعجن وبعدها “نعوس”).. وعن إضافة العجوة إلى المكونات أكدت أنها لا تضيفها لأنها حسب قولها: (بتلايق العجين)، مثنية على الخالة “آمنة” التي استمرت زبونة لها لأكثر من اثني عشر عاماً ملؤها الود وطيب المعشر والتفاني والإخلاص في العمل. وأشارت إلى أنها أصبحت أختها وواحدة من أفراد أسرتها.
{ الآبري والزريعة الجاهزة
بالنسبة لـ”آبري السوق” الذي يباع بـ”الطرقة” و”الجردل” ترى الحاجة “نفيسة” أنه مفيد للسيدات المشغولات، لكنه يفتقد طعم “الحلو مر” المنزلي الذي تكون نكهة بهاراته قوية ولذيذة. أما “الزريعة” فلا بأس من شرائها جاهزة لأنها غالباً ما تزرع في الشتاء وتكون نوعيتها جيدة، وأضافت: (بنات الزمن دا ما بقدرن على تعب “الحلو مر” ولا الدقديق ولا الكوجين عشان كدا أتوجهن للجاهز).
{ طقوس خاصة
استرجعت معنا الحاجة “نفيسة” ذكريات البيت الكبير في “الحصاحيصا” قائلة: (كنا بنتعاوس مع الجيران، مثلاً الليلة عندنا العواسة عملنا “البليلة” و”اللقيمات” و”أم فتفت” والقهوة والشاي والبلح، ونعمل ثلاثة أربعة صيجان، كل زول يعوس جردلو، ويا سلام على قعدة العواسة تحت الرواكيب وفي ضل الشجر والونسة السمحة)، وأضافت: (لكن الآن المُرُوَّة قلَّت ومع كدا بنساعد حاجة آمنة على قدر ما بنقدر).
كذلك السيدة “وصال حسن” حكت لنا عن ذكريات طفولتها والـ”حلو مُر” قائلة: (في الخرطوم هنا المرأة البتعوس بتعمل أي شيء.. لكن أهلنا في الحصاحيصا كل زول بجيب حاجته.. كانت قعدة حلوة.. وفي طفولتنا كنا متعلقين جدا بطقس “الآبري” وريحته الحلوة)، وأضافت: (لمن كنا صغار بنشيل الحلو مر الصغير واللين بناكله ورغم صغر سننا كنا بنشارك في العواسة)، وزادت ضاحكة: (الآن  لما أشوف أولادي وفرحتهم بالحلو مر ولمَّتْهُم في حتة العواسة وأكل الحلو مر اللين.. وإصرارهم على شرب عصير الآبري بتأكد إنو لسه الفرحة بالعواسة ياها ذاتها).. وعن أنواع الآبري قالت: (هنالك آبري أبيض البكون عيش أبيض مفندق ولا مقشور، والأحمر هو الكلمتكم عنه قبل شوية والناس بتفضله أكتر عشان طعمه المميز والجميل).
{ أماتنا زمان ما ساهلات
عبرت الحاجة “نفيسة التجاني” عن إعجابها الكبير بالسيدة التي قامت بإبداع الـ”حلو مر”، قائلة: (المرأة السوت الحلو مر دي مرة ما ساهلة بستغرب الأداها الفكرة دي منو.. أماتنا زمان ما ساهلات ومبتكرات)، وأضافت: (قدرت المرأة السودانية تعمل مشروب لذيذ وبقطع العطش، ممكن تستخدموه في أي وقت في الفطور والسحور والليل كله تشربوه لا بتعب ولا بمرض حتى ناس المصران ما بعمل ليهم حاجة).
وأصرت الحاجة “نفيسة” كحال كرم السودانيين على أن نتناول وجبة الإفطار ونشرب من الـ”حلو مر” المميز الذي أعدته.. ولم تنس تحميلنا بعضاً منه لزملائنا بالصحيفة، متمنية للجميع صياماً جميلاً.
{ منافسات دار السلام
كانت ثاني زياراتنا لحي دار السلام حيث جلست النسوة في حيوية متشحة بعبق الماضي الجميل يوزعن المهام، ويتبارين في صنع “طرقات الحلو مر”، متفننات في إلقاء الدعابات (آبري فاطمة طلع جميل السنة الفاتت لونه وطعمه جميل لكن المرة دي حرقان وخفيف”، لتتفنن “فاطمة” في رد الكيد على طريقتها في أجواء ملؤها الحيوية. حدثتنا السيدة “زينب ميرغني” قائلة: (في حينا لازلنا محتفظين بعادات أمهاتنا فأجمل ما في عواسة الحلو مر هو لمة الأهل والجيران الذين يشكلون نفيراً اجتماعياً مميزاً، لذا تكون العواسة كل يوم في منزل إحدى الجارات في الحي) مضيفة: (ندخل في منافسات محببة وتحاول كل واحدة من النسوة إبراز مهاراتها الفنية في صناعة الطَرَقة).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية