الجنة تحتضر
مع نسمات الصبح العليل وصحوة الورود.. كانت بداية الرحلة من أم درمان.. وفي كل الرحلات يبتسم الإنسان.. ويحدوه الأمل.. ويترقب لحظات سعيدة إلا رحلة الأسبوع الماضي لقلب مملكة تقلي.. ولمدينة أبو جبيهة التي يطلق عليها اسم (أبو جبيهة الجنة).. فقد طغى الحزن على القلب وتمدد الأسى.. والصديق “آدم سراقة” ذلك الشاب حلو المعشر قد اكتسى وجهه بالحزن والهم، ولأن مصدر الحزن واحد وملهم الكدر والفزع رحيل أخت كانت تزرع الدنيا فرحاً وبهجة وتمنح الناس فيضاً من العشرة النبيلة.. و”سامية حماد علي أحمد” يتخطفها الموت بغتة في حادث حركة أليم.. ومن بين أحضانها يلفظ رب العباد طفلها الرضيع بعيداً ليخرج بمعجزة إلهية للحياة، مبتسماً للناس وأمه قد فارقت الدنيا، ومع رحيلها غرقت أبو جبيهة في الدموع.. وقد كان رفيقها في تلك الرحلة الأستاذ المربي الإنسان الحليم الودود “زيدان أحمد حماد” قد رحل معها إلى مقام عرضه السماوات والأرض.
خرجنا من أم درمان والشمس قد استقرت في الأفق الشرقي وقد غشي المدينة نعاس الفجر.. واليوم كان جمعة والأمة مجتمعة والسيارة تنهب الشارع الأسفلتي العجوز من القطينة حتى كوستي المدينة التي لو قسمت أوساخها على ولاية النيل الأبيض من الجبلين حتى ود الكريل، لما غسلت القسمة ثياب المدينة.!! ولن نكتب هنا ما كتبه د.”محمد الواثق” رحمة الله عليه عن كوستي حتى يثور في صفحاتنا الثائرون كما ثار أهل كسلا.. ولكن كوستي فقدت قلماً كان عن قضاياها ينافح برؤية وفكر ثاقب.. إنه قلم “يعقوب عيسى جفون” الوزير الأسبق والقيادي المايوي الشهير.
وكوستي أخيراً كرمت السفير د.”حيدر حسن الصديق” (علي قاقرين) بصفته أحد أبناء النيل الأبيض.. وحينما لاحت في الأفق من بعيد مدينة أم روابة عروس النيم كان “سراقة” يردد مع المطرب الذي اختاره السائق شريكاً لنا في الرحلة:
بتطلعي أنت من صوت طفلة
وسط اللمة منسية
تجيني معاك يجيني زمن
أمتع نفسي بالدهشة.
فهل كانت هناك دهشة وأم روابة التي يخنقها الغبار وتزحف على نوافذ بيوتها كثبان الرمال والمدينة عارية من ثياب خضراء تستر عورتها وتدرأ عنها رياح الشتاء والصيف.. وصوبت بصري نحو الشمال لرؤية مقهى ومطعم حاجة “ماجدة” المرأة العصامية التي بكدها وكفاحها.. قدمت بناتها خريجات من الأحفاد والنيلين وكردفان “سامية السر” و”إخلاص السر” ولكن دروب الوظائف قد سدت أمام أبناء الفقراء والمساكين، فآثرن مساعدة والدتهن في صناعة الطعام والشاي لفضلاء الطريق.. وسفهائه.. يكدن بعرق الجبين من أجل لقمة العيش الشريفة ولو كانت وزارة الرعاية تنظر بعيداً لأرياف السودان وتخومه لنالت حاجة “ماجدة” تكريماً يليق بها من الوزيرة الإنسانة “مشاعر الدولب” ردها الله للوزارة وصرف عنها شرور حاسدٍ إذا حسد. اتجهت سيارتنا جنوباً نحو (الصعيد) وأخذ لون التربة يسود.. وتطول غصون الأشجار يختفي شجر الخروع.. والحراز والمسكيت ويبدأ في الظهور شجر الطلح والعرديب والكتر.. وتلوح في الأفق جبال العطشان.. وقرية طوطاح.. التي تمثل بداية الجبال الشرقية.. ومدخل مدينة العباسية، حيث مقر مملكة سلطان تقلي.. وما أدراك ما تقلي وهي حفر موجع.. في سطور كتاب عميق.. وتقلي التي بإرث أحفاد أم دبالو والملك “جيلي” وحدت الناس على سراط الدين والأخلاق والقيم الفاضلة.. وكانت مملكة تقلي أقرب للمدينة المثالية الفاضلة.. قبل أن تغشاها نوائب الدهر.. وتفرق السياسة بين الأخ وأخيه والابن وأبيه.. ولن تذكر مملكة تقلي وإلا غشيت القلب (غمة) والنفس حسرة وخلاوي (أم مرحي) قد أصبحت مركزاً قتالياً للحركة الشعبية، وأطفئت نيران القرآن التي أضاءت دياجير ظلام جبال النوبة في القرن قبل الماضي أكثر من مائة عام ونيران القرآن لا تطفئها مياه المطر.. ولا برودة الشتاء.. ومائة عام تقلي بكتاب القرآن.. لكن في زماننا هذا يطفئ التمرد نور القرآن ويمزق أحشاء المجتمع، وحينما تجاوزت سيارتنا يوم (الجمعة) الماضية مدينة رشاد والشمس قد حجبتها عنها سحب الخريف ظهرت أمامنا كتلة بشرية، نساء ينتحبن ورجال على وجوههم قترة.. وسيارة عسكرية تحمل جثمان “عبد الله أحمد سليمان” أحد أعيان وقادة المجتمع حصدت روحه بنادق التمرد قبل عشر دقائق فقط.. (البكاء مر) والنحيب (تتقطع له نياط القلوب) والتمرد يحصد الأرواح كما تحصد الآلة الخرساء قناديل الذرة، هل نمضي معهم لوداع عزيز قوم قتل!! أم نواجه قدرنا وكل من نلتقيه يطلق التحذيرات عن خطورة الطريق في مناطق خور (العواي).. توقفنا في قرية (تجملا) لأخذ قسط قليل من الراحة وإصلاح عطب أصاب سيارتنا التي كانت تئن من شدة ألم الطريق.. تسقط في حفرة وتصعد حجراً.. ولولا إجهاض مشروع سلام 2005م، لبلغ الأسفلت مدينة كالوقي.. ولكن الطريق الدائري بات شيئاً من الماضي.. ومشروعاً يستحيل تنفيذه!!
سألت امرأة عن سعر كرتونة المانجو فقالت (3) جنيهات وعن كرتونة الطماطم فقالت (10) جنيهات.. وعن كيلو لحمة الضأن فقالت (40) جنيهاً.. لكن شاب دون الثامنة عشر كان يرتدي بنطالاً ويضع السكسك على عنقه ويحمل بندقية جيم (3) قدمنا لنا كوب ماء بارد.. ليفصح لنا عن مشكلته التي هي مشكلة وطن لم يتعلم في مدرسة ولم يتذوق طعم الحياة.. يحمل بندقية كل الوقت ولا ينتظر في القريب العاجل أن تتوقف الحرب.. لاحت في الأفق مدينة (أبو جبيهة الجنة) ربما اختار السائق عمداً (تشنيف) آذاننا بإحدى روائع الحقيبة التي يرددها “مصطفى فرفور” ويجيد ترديدها.. والشمس تدنو للمغيب وأبو جبيهة يلعب أطفالها كرة القدم.. والسيارة تتهاوى في الطريق الوعر الشاق و”فرفور” يردد:
عند الأصيل لازم نعود
لازم نعود.. لازم نعود
ولكن الحزن يتسلل للقلوب الجريحة.. وقد تآكلت مساحات الفرح.. وتمددت في النفوس حسرات الندم على ما نحن فيه.. وما مقبلين عليه من سنوات كالحة السواد.. عصية.. والموت يقترب ويدنو منا ساعة بعد ساعة.. وأبو جبيهة التي نطوف في شوارعها.. تغرف في الحزن وتتشح بثياب سوداء ليلاً بسبب الظلام، ولا تشرب ماءً نظيفاً معقماً من الأمراض.. وهي مدينة غنية ولكنها.. (ابتلاها) حكام السودان برجال لا يعرفون قدرها.. ولا يشعرون بحاجة إنسانها لضروريات وحقوق الإنسان.. اختير لها من القصر الرئاسي معتمد كان في مكتب رئيس الجمهورية مسؤولاً عن المراسم.. ولكنه فشل أيما فشل حتى في نظافة الشوارع والحفاظ على إرث الذين سبقوه!! في إمارة كنانة حيث جموع المعزين من كل أصقاع البلاد.. وأطرافها يقف الأمير “حماد علي أحمد” يغالب حزناً دفيناً على رحيل “سامية” التي نشأت في أحضان الحركة الإسلامية وشربت من معينها.. وكانت للأمير “حماد” بمثابة الأخ والأخت والصديقة.. و”حماد علي أحمد” من أبكار الضباط الإداريين.. بعثه “الترابي” في سبعينيات القرن الماضي ليعمل في كردفان وبمجلس الشعب القومي بذر ثمرة السلطة الحالية.. ولكن أمثال “حماد علي أحمد” لا يركع بأبواب السلاطين لذلك اختار أو اختير له أن يحرس منابر المساجد مثل رفيق دربه وصديق عمره الشيخ “محمد الحاج عبد الرزاق” الذي حينما تفاجأ بنا والصديق “سراغة” في زاويته الصغيرة صباح (السبت) الماضي زرف الدموع، وشيخ “محمد الحاج عبد الرزاق” يحتضنك بقلب حنين.. وأبوية طاغية.. اعتذرت له عن زيارته لأن “الفكي جبريل” وزوجته البرلمانية “سعاد” يرفضون مغادرة البيت الكبير المفتوح قبل أن تشرق الشمس.. ساعات قصيرة بين منزل أستاذ “زيدان” ومقر إمارة أهلنا كنانة وهي منزل “حماد علي أحمد” كانت أبو جبيهة الجنة بمثابة اتكاءة على نصل حاد.. وعودة لمدينة كما فرحنا لأفراحها..
وكم حزنا لفقدانها “سامية” و”ديدان”.. وقبل ذلك فجيعتها الكبيرة وجرحها الذي لا يندمل الأمير “كمبال”.
شكراً للموت الذي جمعنا بمن نحب بعد أن فرقتنا الأيام ولم يبقَ لنا إلا أن نقول من الدوش عن (أبو جبيهة الجنة).
شميس المغرب الممحوق
تميل فوق وشك المحروق
يبين ضل الكلام مقلوب.
وكل (جمعة) وأنتم بخير.