الهاربون من الجحيم
خمسة فتيان من شباب بلادي، الأمان وناسها حنان، حصدهم الموت غرقاً في البحر الأبيض، إنها لمفارقة لا تصدق. شباب يراهن عليهم الوطن، حاضراً ومستقبلاً، وكل الوقت، هاهم يفرون منه مثل فرار المعزة الصحيحة من القطيع الأجرب، بحثاً عن مستقبل أفضل في بلاد الكفر، التي دنا عذابها على أيدينا نحن أهل السودان. وبدلا من أن نقوم بواجبنا المقدس في تعذيب أمريكا وروسيا وصويحباتهما، من لدن إيطاليا وبلجيكا والسويد والنمسا، أخذنا على عاتقنا الهجرة لتلك الدول، والبحث في أرضها النجسة بلاد الكفر والنفاق، عن الأمن والأمان ولقمة العيش والتعليم، وتأهيل أنفسنا لمواجهة ظروف المعيشة الصعبة. ومن أجل مهمتنا المقدسة أي الهجرة لبلاد الكفر نركب الصعاب من قوارب الصعيد إلى ناقلات الخنازير، وشبابنا يرفعون شعار من لم يصعد الجبال يعش أبد الدهر بين الحفر. ليتنا نتوقف لنسأل أنفسنا، حكومة ومعارضة، لماذا حدث كل ذلك؟
في كل يوم يحصد الموت شبابنا مثل ما يحصد أرواح الصوماليين والاريتريين والعراقيين والسوريين، وكل الدول التي فشلت في حل مشاكلها فصدرتها للآخرين حتى أصبح أهل السودان، يطرقون أبواب كل الدول حتى لو كانت دولة الكيان الصهيوني، بعد أن يقذفوا بجواز السفر الأخضر والأسود في لجة البحر. وما بين وخز الضمير لحظة التخلص من الجواز بإحساس الذي لفظ هويته وأصبح شخصاً بلا انتماء، واقتراب ذلك الشخص من تحقيق حلم الوصول لأوروبا، آو هكذا يخيل إليهم، ولكن يبدو الموت قدراً مكتوباً لأهل هذه البلاد. من لم يمت بسلاح التمرد مات بالأمراض وحوادث العنف والصراعات القبلية. ومن شق الصحاري براً أهلكه العطش والجوع ومن استغل البحر غرق في لجته. ومن بقي صابراً يحدوه الأمل في تبدل الحال خاب الرجاء. وتبددت الأحلام لظلام ليل طويل، استحالت معه حلول قسمات الفجر.
فجرنا كاذب وصبحنا يخيم عليه الحزن. وينوء ظهر وطنا بحمل ثقيل من الفشل الذي يعقبه فشل. والخيبة التي تأتي بعد أختها. فكيف لا يركب شبابنا الصعاب ويمخرون عباب البحر، بحثاً عن مخرج من وطن في كل يوم يسد ساسته أبواب الأمل في تبدل الحال.
وقديماً كان “علي حامد” الكاتب جزل العبارة، يردد مقولة السودان كل عام ترذلون، وما نحن بذلك، لكن فشل قادتنا هو من أورثنا المهالك، لتصبح الهجرة هي خيار شباب لا خيار له. وطرق أبواب السفارات وترقب إعلانات الوظائف هي المهمة اليومية التي يقوم بها الآلاف من أبناء هذا الوطن. وأسباب علة ومرض الوطن ليست في قلة موارده وشح إنتاجه ولا في كسل بنيه، ولكنها في اختياراتنا السياسية الخاطئة، حكومة ومعارضة والتي دفعت بنا، إلى مواجهة بعضنا البعض، وكان الخاسر الوحيد من تلك المواجهة المتطاولة منذ أكثر من نصف قرن من الزمان هو الوطن.
كيف لا يضيق الوطن ببنيه وتصبح الهجرة وركوب الصعاب والموت في عرض البحار هي المصير الذي ينتظر شباب السودان، وقد أصبح السوداني من الشعوب التي ينظر إليها العالم بعين الرأفة والإحسان، لأنهم إما ضحايا حروب أو ضحايا أمراض أو ضحايا ما صنعت أيديهم.