سلطة دارفور.. هل تكشر عن أنيابها؟ أم يهزمها شيطان الفتنة القبلية؟؟
وصفت منهجية مؤتمرات الصلح بـ”المحفز” لاستمرار الصراعات
الخرطوم- عقيل أحمد ناعم
والسلطة الإقليمية لدارفور التي نشأت وفق اتفاق سلام الدوحة تلفظ أنفاسها الأخيرة بانتهاء عمرها الافتراضي في يونيو المقبل، تفجر في وجهها واحد من أعنف الصراعات القبلية التي حلّت محل التمرد بعد انحساره مؤخراً، وهي حادثة (الرزيقات) و(المعاليا) التي أدمت الضمير الوطني ودقت ناقوس الخطر حول المزيد من التفتت المجتمعي الذي يهدد استقرار الوطن بأكمله. الأمر الذي دفع السلطة الإقليمية- حتى وإن كان متأخراً- إلى محاولة فرض نفسها كسلطة بتجلياتها العملية وليس مجرد المسمى، بالنفوذ إلى جذور الصراعات القبلية عموماً بالإقليم، والإشارة إلى مكامن الخلل بصراحة ووضوح بما فيها التي تسببت فيها الحكومة نفسها. ليعلو من بعد صوت السلطة المشدد على فرض هيبة الدولة وبسط سيادة القانون الغائبتين في الإقليم المضطرب منذ أكثر من عقد من الزمان.. فهل تكشر السلطة أخيراً عن أنيابها؟ أم يعجز عطارها عن إصلاح ما أفسده تطاول المآسي والمحن بأرض المحمل وكاسية الكعبة المشرفة؟؟
{ الفتنة التي أطلت برأسها
يبدو أن دارفور لم يقدر لها اكتمال الفرحة بانحسار مساحات التمرد فيها، لتُفتح بوجهها نيران الصراع القبلي، ما دفع الناطق الرسمي باسم السلطة الإقليمية لدارفور وزير الإعلام والثقافة “عبد الكريم موسى” ليصرخ خلال مؤتمر صحافي بمقر السلطة بضاحية بري بأن النزاعات القبلية أصبحت هي “قاصمة الظهر” ومفتتة لحمة النسيج الاجتماعي للإقليم، ومضى إلى وصفها بأنها رأس الفتنة في دارفور.. وجاءت صرخة الوزير عقب إطلاقه بشريات انتهاء التمرد وتحوله إلى مجرد جيوب، ليثبت أن دارفور تتقلب من فتنة إلى أخرى.
{ هيبة الدولة وعقبة “التسول السياسي”
{ ما خرجت به اللجنة الوزارية المشكلة من رئيس السلطة بعد جلوسها مع ناظري عموم (الرزيقات) في “الضعين” و(المعاليا) في “أبو كارنكا”، أن الأوضاع في الإقليم تحتاج عاجلاً إلى إعمال هيبة الدولة وبسط سيادة القانون وجمع السلاح من القبائل، ومحاسبة كل من يثبت تورطه في الأحداث، وتنظيم أمر “الحواكير”، إلا أن الأمر لا يبدو سهلاً، فالإجراءات أعلاه مواجهة بطبيعة دارفور المعقدة وإمكانية تحول هذه الإجراءات نفسها إلى ألغام تنفجر في وجه المعالجات المرجوة كافة.. لذلك مع تأكيده على ضرورة فرض القانون والمحاسبة “ولو بالقوة”، طالب الناطق باسم السلطة بمراعاة طبيعة دارفور وخصوصيتها حين تعمد الدولة لممارسة سلطتها بحزم تجاه أي طرف رافض لتطبيق القانون تفادياً لما سماه “التسول السياسي للطرف المتضرر من فرض القانون وسلطة الدولة”، وقال: (إذا تم ضرب الطرف الذي رفض إقامة القانون فسيذهب ليتسول لدى الأمم المتحدة والمنظمات والمعارضة مدعياً أن الحكومة استهدفته لأنه زرقة أو أن الجلابة يردون إيذاءه).
وشدد “موسى” على ضرورة إقامة احتشاد شعبي ضخم وتوافق بين مكونات دارفور كافة ونخبها ومثقفيها لإسناد الإرادة السياسية الساعية لفرض هيبة الدولة وسيادة القانون ونزع السلاح ومحاسبة المتسببين في عمليات القاتل والصراع، وقال: (لابد أن نقدم وثيقة للدولة نطالبها فيها بتطبيق القانون فينا ولو بالقوة)، ونبه إلى أن الدولة مدركة لخصوصية أهل دارفور ولحقيقة أن المحتربين هم مواطنون، وأن تطبيق السلطة بالطريقة التقليدية سيفتح الباب للمتسولين سياسياً لقصم ظهر الدولة، وقال: (هناك فرق بين تطبيق القانون في منطقة متعافية ومنطقة مثل دارفور).
{ هل انتهى التمرد؟؟
سؤال قد يبدو مستغرباً بعد معارك “قوز دنقو” الأخيرة التي تكبدت فيها حركة العدل والمساواة- الحركة الأكبر في دارفور- خسائر كبيرة باعترافها هي نفسها، لكن طبائع الصراعات ذات الخلفيات السياسية والمطلبية المعززة بالسلاح، قد تجعل من الصعب الحكم على الجهات المسلحة بأنها قد تلاشت تماماً، ولعل هذا ما دفع الناطق باسم السلطة يشير إلى تحول التمرد إلى مجرد جيوب، لكن هذا الوضع كان كافياً ليعلن أن (دارفور الآن بلا تمرد) وأن زمن التمرد قد ولى، وهو ما دعاه للتأكيد على أن الوقت الآن هو الأنسب للبدء في جمع السلاح من أيدي القبائل وحصره في قبضة القوات الحكومية، وعدّ جمع السلاح البداية الحقيقية لوضع معالجات جذرية ناجعة للعنف القبلي.
{ مؤتمرات الصلح.. داء أم دواء؟؟
عند النظر بسطحية- من حيث المبدأ- لفكرة مؤتمرات الصلح التي تعقدها الحكومة بين الحين والآخر بين القبائل المقتتلة، قد لا يصدر حكم تجاهها سوى أنها واحد من سبل معالجة التأزم القبلي المستشري، لكن عند إمعان النظر والفكر في المنهجية والطريقة التي تدار بها هذه المؤتمرات وما تخرج به من توصيات، قد ينقلب الحكم عليها رأساً على عقب، وهذا من النقاط القلائل التي أجمعت عليها المعارضة والحكومة في حكمهما على مؤتمرات الصلح بأنها جزء من مسببات استمرار الصراعات وليس العكس.. فبالأمس انتقد رئيس حزب المؤتمر السوداني المعارض “إبراهيم الشيخ” الطريقة التي تدار بها مؤتمرات الصلح القبلي وعدّ سلوك دفع القبيلة المعنية مجتمعة الديات مشجعاً لاستمرار الحروب القبلية، وهو ذات ما مضى فيه وقع الحافر على الحافر الناطق باسم سلطة دارفور، بل مضى لأبعد من هذا بوصفه منهجية مؤتمرات الصلح وبالأخص اشتراك القبائل المختلفة في دفع الديات بأنها “واحد من محفزات الصراع القبلي”، ولفت إلى أن هذه الطريقة حرفت الديات عن مقاصدها الشرعية كنوع من العقوبات.
هي خطوات تبدو محورية في سبيل نزع فتيل الفتنة القبلية في الإقليم المتأزم.. فهل تفلح السلطة الإقليمية في جعلها من أولويات السلطة المركزية؟ أم يمضي ما تبقى من عمر سلطة دارفور دون رجم شيطان الخراب الذي عشعش في جنبات أرض القرآن؟؟