المدني والديني .. مقــاربة
الشيخ “عبد الجليل النذير الكاروري”
(وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ)
لما كان المدني تنوعاً والديني تميزاً، فإن الموقف التلقائي هو التضاد، وفي الذكر الحكيم ورد: (كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ… “213” البقرة).. الأمة تعبير عن الثقافة التي هي العقائد والسلوك، فإذا كان الناس قبل الرسالات ذوي ثقافة واحدة كما في التفسير فإن الرسالات هي التي جعلت الأمم تتباين ليكون متابعو الرسل أمة وحدهم (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ… “110” آل عمران)، ومخالفوها أمة، ولتكون علامة التمايز الإِيمان ونقيضه. وإذا كانت مدينة مكة هي حاضرة آخر الرسالات فإنها بالفعل كانت مثالاً للتمايز، حتى أن الدين لتميزه اضطر للمفاصلة المكانية بعد النفسية بالهجرة، الجزئية والكلية– الحبشة ثم المدينة– غير أَن الهجرة بشقيها لم تكن نتيجتها النقاء والتمايز، بل النصر أو الأَمن مع التعايش، وهي نقلة جديدة في تاريخ الأَديان! سواء الهجرة الأولى والثانية.
في الحواضر الغابرة كانت النتيجة هي النقاء، يهاجر الرسول ثم تدمر الحاضرة، حدث ذلك لعاد وثمود ومدين ومصر، بعد النقاء الأول الذي حدث بالطوفان. أما آخر الرسالات فإن النتيجة اختلفت، فالحاضرة لم تدمر- مكة- والجديدة لم تنقىّ– المدينة– فالدار الجديدة أَخذت هذا الاسم المدني لتصنع منه أمة منحازة للدين، فيها تتعايش الغالبية مع الأقلية، يهودية وعربية، فقد تشكلت المدينة النبوية من أربع مجموعات، اثنتان وتشكلان أمة وحدهم- المهاجرون والأنصار وهم الأَغلبية– واثنتان اليهود والمنافقون أَقلية، كما جمعهم الوحي: (أَلَمْ تَرى إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمْ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً “11” الحشر). ثم إن الذين بقوا في مكة أتيح لهم بعد فتحها الدخول في الدين كما أنهم هم الذين أنشأوا من بعد للإسلام حواضر جديدة بلغت حتى أوروبا! لم تكن خالصة رغم أنها كانت غالبة، فقد تعايشت في مصر والشام والأندلس الملل والنِحل. وعلة بقائهم هي المساكنة نفسها، ففي سلم مكة بعد الهجرة ورد: (… لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا.. “25” الفتح)، وكذلك ورد: (فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ… “98” يونس).
{ التاريخ الحديث
إِن الوحي قد أرخ لفاصل تاريخي بين المفاصلة و”المجاملة”. هذا الفاصل بدأ بنزول الكتب وشرع القتال، لكأَنما البشرية لما زاد وعيها زادت مسؤوليتها ولما ارتقت معرفتها ارتقت معجزتها! من المعجزة إلى المقنعة كما عبر الأَخ عن أَخيه (وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ.. “23” ص) يصرح الوحي بهذا المفترق بقوله: (وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الأُولَى بَصَائِرَ… “43” القصص)، فالقرون الأُولى كانت كأَنها لبداءتها تساس بالحسم والمفاصلة (وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ “59” الإسراء) فلما جاءت قرون متقدمة اُختير لها الكلمة بياناً والحجة إِقناعاً والمعايشة اجتماعاً، والحرب وسيلةً وسجالاً. أَما الفصل فمؤجل ليوم الفصل، رغم أَن أَهل مكة قد طلبوا الفصل استعجالاً ودليلاً على الصحة إِلا أَن الوحي رد عليهم ولم يستجب، وذلك في أَكثر من موضع من القرآن.
هذا وإذا كانت حاضرة الإِسلام التي تأسس عليها بعد مكة قد أخذت اسم المدينة عَلَماً، فإِنه يمكن وللمشاكلة اللفظية والمعايشة الملية أَن نسمي نظامها بالدولة المدنية، وهي كذلك حيث ضمت في داخلها الملل والنحل فهي مثال للتعدد. إِن زعيم المعارضين فيها قد انشق بثلث الجيش عن مواجهة أَخطر هجوم مسلح على تخوم هذه المدينة، إِلا أَنه لم يحاكم إِيجازاً بعد المعركة! كما أَنه في معركة أُخرى صرح بما يعرف بالحرب الإِعلامية ضد الدولة قائلاً: (يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الأَعَزُّ مِنْهَا الأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ “8” المنافقون)، فلم يحاكم ولم يقتل بل عفي من جنايته بقرار سياسي يقول: (بل نحسن صحبته!). وكان محسوباً في دائرة الإِيمان (كيف إِذا تحدث الناس أَن محمداً يقتلُ أَصحابه!).
أما ما حدث لقبائل اليهود من جلاء فهو بسبب نقضهم للعهود وتآمرهم، بل وحربهم ضد الدولة في أَخطر حصار متطاول. وكما قدمنا فإِن الجلاء نفسه نوع من السياسة دون الاستئصال. وهو المعبر عنه في مستقبل إِسرائيل بالرحمة (عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ… “8” الإِسراء) إبقاءً عليهم بعد دولتهم الثانية، فهم كما نرى المنادون بالهدنة بعد كل حرب!
إِن اليهود ولعدم مقدرتهم على الاندماج والتعايش مكتوب عليهم الجلاء أَبداً، وهم هم اليهود إلى اليوم حيثما سكنوا أُجلوا لعدم تعايشهم مع الآخر، شعوراً بأَنهم شعب الله المختار كما صرحوا بعد أَول معركة ضد الدولة، حيث قالوا بعد بدر- رغم العهد- تعليقاً على المعركة: (لم يلق محمد من يحسن القتال، ولو لَقِينا لاقى عندنا قتالاً لا يشبه قتال أَحد!).
{ تمام المكارم
إِذا كان الدين هو الدعوة إِلى المكارم، فقد جاء الخاتم بتمامها، ومن تمامها التعايش مع الآخر ومن سبق من الملل والنحل مؤجلاً النقاء إِلى اللقاء الآخر كما صرح الوحي (وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ * لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ) والإِجابة هي (لِيَوْمِ الْفَصْلِ “11-13” المرسلات).. أَما هنا فقد يؤدي التمايز للحرب غير أَن نتيجتها ليست الفصل أو القتل، حتى الأَسرى حكمهم: (فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا “4” محمد)، فليس غاية الحرب الإكراه (أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ “99” يونس)، ولا الإِبادة (لَيْسَ لَكَ مِنْ الأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ.. “128” آل عمران).
كما قدمنا، فإِن إِنزال الكتب وشرع القتال كان لإِزالة الفتنة والإِبقاء على الناس ليختاروا. إِن دين التمام قد دخل المدينة بالسياسة لا بالحرب- بالمعاهدة- الأُولى والثانية- ثم بالسفارة– سفارة “مصعب”. كما أَنه بناها بالسياسة المتمثلة في دستور المدينة. من عجب أَن تقرير الوحي: (لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ.. “82” المائدة)، ثم إِنه رغم هذا التقرير رضي أَن يساكنهم، فلم يشترط نبي الإِسلام على المستضيفين من قبائل العرب- الأَوس والخزرج- التخلص من اليهود لتخلص المدينة للإِسلام! بل إِنه كتب دستوراً للمدينة الفاضلة هو الأَول من نوعه، ليست مدينة “أفلاطون” التي تقوم على النبلاء ولا مدينة “ماركس” التي تقوم على الدهماء، لا بل هي مدينة الدين ومدنيته التي تقوم على الرحماء، حيث وسعت رحمة ربهم كل شيء، فبين المؤمنين كان الإِخاء فوق النسب! وفي غير المؤمنين مرت جنازة، فما كان من المؤسس عليه الصلاة والتسليم إِلا أن قام لها لأَنها نفس وإِن كانت يهودية! كما إِن مدينته اجتماعياً جمعت أَهل الصفة وأَهل الثروة نافية ما يعرف بالنقاء الاجتماعي.
هذا، ولم تترك هذه الرحمة أَو العاطفة لحكم العاطفة، بل قننت لتصبح حقوقاً لا يضرها الحب والبغض، كما ضمن بها أَحدهم حقه قائلاً: (إِنما تبكي على الحب النساء).. وعن دستور المدينة، يقول “ابن إِسحق”: (كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً بين المهاجرين والأنصار وادع فيه يهود وعاهدهم وأقرهم على دينهم، وفيه، أن من تبعنا من يهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم، مواليهم وأَنفسهم إِلا من ظلم وأَثم، فإِنه لا يوتغ إلا نفسه وأَهل بيته وأَن على اليهود نفقتهم، وعلى المسلمين نفقتهم، وأَن بينهم النصر على من حارب أَهل هذه الصحيفة وأَن بينهم النصح والنصيحة والبر دون الإِثم، وأَن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين وأَن بينهم النصر على من دهم يثرب).
كما أصدر “صلى الله عليه وسلم” توجيهات صارمة حماية للأَقلية غير المسلمة (أَلا من ظلم معاهداً، أو انتقصه أو كلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئاً بغير طيب نفس فأنا حجيجه يوم القيامة)..
(من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة، وإِن ريحها لتوجد من مسيرة أَربعين عاماً) “البخاري”
{ الملة الأخرى
أَما الملة الأخرى فلم يكن للنصارى وجود بالمدينة- إلا قليلاً- غير أَنهم زارواً نبينا فيها، ووافقوه على ما بعث به فقد وثق القرآن حديث نصارى نجران.. (وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ * وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنْ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنْ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ * وَمَا لَنَا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنْ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ “82-84” المائدة) كما أَن الوحي عند تقويم الملتين فرق بينهما من قبل: (لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ “113” آل عمران).
وفي إِرهاصاته وبعد نصره تعامل نبي الإِسلام مع ثلاثة من رهبان النصارى وثلاثة من حكامهم، هم “ورقة بن نوفل” وصاحب بصرى وراهب آخر في رحلته الشامية الثانية، أَما الملوك فهم “النجاشي” و”المقوقس” و”هرقل”. وكلُهم كان موقفه إِيجاباً، سواء الرهبان الذين استبشروا بمقدمه أَو الملوك الذين باشروا رسله وأَكرموا الرسول بالهدايا والتبجيل! وفي بقاء بعضهم على دينهم دليل على التعامل والمعايشة في الزمن الواحد أَو المكان الواحد.