النشوف آخرتــــا
الضحاكات
سعد الدين ابراهيم
السؤال المحير أن الإنسان السوداني مع ولعه بالحكي والسرد وتدفقه شفاهياً.. لا ينتقل إلى التدوين عبر موهبة أو عبر كتابة توثيقية.. يحيرني أيضاً صمت الإنسان السوداني مرات حتى كأنه لا يستجيب للكلام .. مع تدفقه في الحكي واستخدامه حتى للمؤثرات الصوتية مما يجمل الكلام على غرار “كوكو” دقيت الباب و”تيت تيت” ضربت البوري أو “تووش خشيت”.. فبماذا نفسر هذا إنسان صموت لحد بعيد حكاي إلى حد بعيد.. ألا تلاحظ مرات تكون في رحلة مع سودانيين عبر باص أو قطار أو طائرة.. يعم الصمت المكان وإن لم يكن ضمن الموجودين من يمتلك كاريزما التفاعل ويقتحم الصمت.. فقد تمضي كل الرحلة بلا كلام لكن ما أن يفجر أحد الناس موضوعاً تنطلق الونسة ويمضي السرد وكل يسهم بالحديث، فمن يبدأ بـ(عندنا ود عماً لينا برضو.. أو أنا عندي خال كده.. المهم يجد مدخلاً).
وفي السرد الشعبي الشفاهي تجد الولع بالوصف.. فيحكي الحاكي .. ود عمنا ده ساكن في حي السوق.. جنب دكان جادين.. شفت الزقاق الثالث من الشارع الرئيسي.. في شجرة نيم في رأس الشارع .. أها في بيت بابو أخضر تسيبو بعده بيت بابو بيجي تسيبو الثالث باب حديد مضروب أسود بالأبيض.. بس ده بيت ود عمنا.
كما أن السوداني مولع بحكايات السيرة الذاتية ويكون أكثر صدقاً عندما يتحدث عن سيرة الآخر الذاتية.. أما حين يحكي سيرته فيحكيها بقدر عالِ من الاحتشام والتجمل.. فكلمة (أنا) عندنا دائماً تقترن باعتزاز بالذات.. فتجدها.. أنا والله عندي كبير الجمل.. أو أنا والله ما بخاف من زول.. وأنا بقول للأعور أعور في عينو.. بينما يقترف الذم أو النقد بالآخر ..فقد يهمش حتى يشار إليه بعبارة “ده” وتلحقه بصفة ذم.. ياخي ده حيوان ساكت.. أو ده زول مابفهم .. ده ما بني آدم ذاتو.
وهنالك السؤال الاستنكاري: ده شنو ده؟ ومن أمثالنا ده حار وده مابنكوي بيهو.. وللمصريين مثل يقول شيل ده من ده يرتاح ده عن ده.. وقد وردت في أغنية للفنانة “مي كساب” عندنا استخدمنا كلمة ده.. عند مجذوب أونسة وعزمي أحمد خليل ده ما سلامك وسيد خليفة بشير إلى: الزول ده جنني.. أما (جمع ده) فهو (ديل) ووردت في أغنية وااسفاي لوردي وإسماعيل حسن: من ناس ديل وااسفاي من زي ديل وااسفاي.. أو إبراهيم عوض حين وصف مجموعة بأنهم:- ديل حساد وحاتك غايرين من هواي..
وفي بعض الأمراض والعمليات التي تجري للآخرين .. غالباً ما يذهب السامع إلى أن الأعراض دي عندي.. فإذا زرت مريضاً عمل عملية زايدة.. وحكى عن الأعراض فسرعان ما يذهب السامع أنا الأعراض دي عندي.. أو كان كدي أنا عندي زايدة زي دي.. أما حين يكون الحديث عن مرض نفسي فسرعان ما تقول:- المرض ده زي العند فلان.. أحد الأقرباء أو المعارف.. فنحن مولعون بأن نتوهم بأن المرض العضوي عندنا زي ده والمرض النفسي ده عند فلان أو علان..
وبمناسبة المرض النفسي مولع أنا بعبارة سمعتها من عامل يحادث زميله إذ قال له ذاك.. ياخي قالوا عوض جاتو نفسيات فقال ذاك ببساطة ياخي مافى نفسيات ولا حاجة جيبك ده “وضرب على جيبه” لو مرطب أنت تمام التمام ولو فاضي ده بجيب النفسيات.. وقد ربط صديقنا هذا المرض النفسي بالعامل الاقتصادي وحده.. وربما يكون موفقاً إلى حد كبير.. ربما لذلك أطلقوا على القروش لقب (الضحاكات) وذلك أن لاحظوا إنه كل من يصرف قروش ينصرف عن الصراف وهو مبتسم أو ضاحك.. والله يكتر الضحاكات.!