وأغمض (أسد التوحيد) عينيه مردداً: (رب حياتي كلها لك)
الخرطوم – عقيل أحمد ناعم
أحييت رُكاماً يا والد
في ظل الصحوة ممتد
وبنيت لعزتهم مجداً
وسهرت ليكتمل العقد
وبراك نحولٌ من أرقٍ
والسيفُ يرق له الحد
ما ضر (أبو زيد) كيد
فله الإشراقة والمجد
بهذه البكائية نعى أنصار ومحبو ومنسوبو التيار السلفي الأكبر بالسودان (جماعة أنصار السنًة المحمدية) الشيخ الوالد “أبو زيد محمد حمزة”، كما يحلو لهم أن يطلقوا تحبباً وتوقيراً على الرجل التسعيني المولود في 1925م في أقاصي شمال السودان في قرية (صرص) المرتمية على حدود مصر.. يبكونه وهم يتذكرون القول المأثور لـ”أبي أيوب السختياني”: (إني أُخبر بموت الرجل من أهل السنة فكأني أفقد بعض أعضائي).
(أسد التوحيد) ذلك الرجل الذي زكاه شيخه “عبد العزيز بن باز” وقال عنه: (ما رأيت أحداً يتحدث عن التوحيد مثل أبي زيد).. رغم مكابدته لكل صعاب الدعوة بل ومخاطرها لأكثر من سبعين عاماً، إلا أن جسده المنهك لم يحتمل وعكة قصيرة ألمت به فسارع لتلبية نداء ربه صباح أمس (الأحد) بمستشفى (رويال كير) بالخرطوم.
وكعهد كل السودانيين في ذلك الزمان، كانت أولى محطات شيخ “أبو زيد” في أرض الكنانة، فبعد فراغه من دراسته الأولية وإتمام حفظ القرآن بقريته، شد الفتى الغض الرحال مع والده إلى مصر، منتسباً إلى إحدى قلاع العلم (الأزهر) في دراسة غير نظامية. وكأنه قد هبط مصر لينال سؤله ومبتغاه لتتفتح عيناه على بذرة تكوينه من بعد شيخاً ملأ الأرض طولاً وعرضاً.. هناك تعرّف الشاب النوبي شديد السمرة وشديد الاعتداد بنفسه على جماعة أنصار السنّة، فوجد فيها ما كانت تتوق إليه نفسه، فانضم إليها على يد مؤسسها الأول في مصر الشيخ “محمد حامد الفقي” في 1942م، ليعود بعدها إلى أرضه وميدان دعوته، هناك إلى (صرص)، لتبرز مقدرات وشخصية الداعية الشاب والخطيب القوي صارم القسمات، ولم يلبث كثيراً لينتقل إلى الخرطوم في 1964م إماماً لمسجد (عبد المنعم) في حي (الخرطوم3)، وبعد زمن قصير مضى إلى أم درمان إماماً لمسجد (الضو حجوج) في المهدية بالحارة الأولى وهو مسجده الذي ظل إماماً له حتى لحظة رحيله عن الدنيا.
ولم يكن للرجل في حياته شاغل غير الدعوة، ويقول عن نفسه في أحد الحوارات الصحفية: (ليس لديّ أوقات فراغ أقضيها في غير العبادة والعلم والدعوة).
كلما ذكرت البدعة والتحذير منها، قفز اسم الشيخ “أبو زيد”، الذي أوقف حياته للدعوة إلى أفكار آمن بها رغم ما كانت تمثله أول عهدها من غرابة وغربة قد تعرض معتنقها للخطر، والعزلة من المجتمع. ولأن دعوته كانت تمثل كل حياته- كما يحكي هو بنفسه- فإنه كان مستعداً لدفع كل الأثمان في سبيلها، حتى لو كانت أفعالاً تخشاها حتى السلطات الرسمية القابضة التي لا يعصى لها أمر. فأيام الرئيس الراحل “جعفر نميري”- الذي اعتقله مرات عديدة، وفي إحداها كما يروي الشيخ بنفسه فقد اعتقله “نميري” بسبب ترديده في خطبه آية من القرآن: (تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ…) وكانت رفيقته في السجن امرأة “مخمورة” إمعاناً في إيذائه.. وحين همّ “نميري” ببناء مبنى البرلمان في موقعه الحالي عند مدخل مدينة أم درمان، ولأن الموقع كان يضم ضريحاً لشيخ صوفي ذائع الصيت يجله الناس ويهابونه اسمه “برة أبو البتول”، فإن الجميع بمن فيهم السلطة نفسها، وقع في نفوسهم الرعب من المساس بمقام (أحد أولياء الله الصالحين)، وهنا كان الملعب مهيأ تماماً للشيخ الذي أجاد اللعب فيه، فأبدى شيخ “أبو زيد” استعداده للقيام بالمهمة التي وجلت لها القلوب، فنبش الرجل الضريح وقام بنقله إلى إحدى مقابر المسلمين.
قد تنبئ ملامحه الصارمة وصوته الجهور ولغته الحادة وهو يدافع عن ما يؤمن به، عن رجل فظ، جاف، غليظ، لكن بمجرد أن يتنزل عن مقام الخطابة والمدافعة، فإنك لا تجد سوى رجل شفيف لطيف كأنه طفل صغير.. وهنا يقول عنه تلميذه السابق وأحد الذين كانوا من أشد المقربين إليه “محمد أبو زيد”: (شيخ أبو زيد يروي عن نفسه أنه لا يحتمل ذبح حمامة). ويمضي في وصفه بأنه كان شديد الاهتمام بالمساكين والفقراء، شديد الكرم لدرجة أنه كان بعد صلاة الجمعة في مسجده يخرج للشارع ليمنع الناس من الذهاب طالباً أن يكرموه في داره ليتناولوا معه وجبة الغداء. وتتجلى سماحته حين تكون مع أعدى خصومه الذي لم يترك شيخ “أبو زيد” وسيلة لمواجهته أو الوقوف في وجهه، وهو الراحل “محمود محمد طه”، الذي كان “أبو زيد” أكثر من ناظره فقد كانا جارين في حي الثورة، ورغم شدة خلافه معه، فإنه حين تدلى “محمود” من على حبل المشنقة ذرف “أبو زيد” الدموع حزناً عليه، وحين سألوه في لقاء صحفي عن سبب بكائه على أشد خصومه أجاب: (كان ممكن يطلع بريء.. فهذا الكلام الذي يقوله ليس من عنده بل يقرأه، وكان يمكن أن يقنع القاضي بأن هذه الأفكار لا تخصه هو) وأضاف بأسى: (كان ممكن محمود يرجع).. فأي تسامح وأي صفاء نية أكبر من هذا؟؟
ولأن شخصية المرء وتسامحه تظهر عند الصعاب والمواقف التي لا تحتملها النفس، فإن محطة مهمة في تاريخ الرجل والجماعة كانت حين دبّ الشقاق والانقسام في جسد الجماعة، وتفرقت بين فريقين، واحد يتزعمه الشيخ “أبو زيد” وآخر يقوده رفيق دربه الشيخ الراحل “محمد هاشم الهدية”، ورغم حدة الخلاف في نفوس وسلوك بعض أتباع الفريقين، إلا أن شيخ “أبو زيد” كان حتى لحظة وفاته يلهج لسانه بالدعوة للوحدة والوفاق، وتتجلى شخصيته المتسامحة، حين رحل الشيخ “الهدية”.. وهنا يروي “محمد أبو زيد”: (عندما توفي شيخ “الهدية” أول من اتصلنا به شيخ “أبو زيد”، وحينما وصل جعل يبكي بصوت عالٍ جداً وتحدث في المقبرة عن رفيقه، فبكى وأبكى الناس)
وقدر الجماعة أن ترتبط بواحد من أغرب الأحداث وأشدها إيلاماً في تاريخ السودان- الذي أكثر ما يميزه التسامح الديني- وهي حادثة “الخليفي” ذائعة الصيت التي راحت فيها أنفس بريئة كانت تركع وتسجد لربها بمسجد (شيخ أبو زيد)، وهي الحادثة التي كانت تستهدف الشيخ في ذاته بيد التطرف والشطط والتكفير، وشاءت أقدار الله أن لا يكون الشيخ بمحرابه الأثير، فقد كان كعادته في مواصلة قيادات الجماعة في أفراحهم وأتراحهم، وحينها كان بمنطقة السقاي شمال بحري مشاركاً في عقد قران أحد أبناء قيادي بالجماعة.. ويحكي “محمد أبو زيد” بأسى: (كنت مع الشيخ عند سماعنا للخبر فبكى بكاءً شديداً وانتحب وردد باكياً: هؤلاء المصلون فدوني بأرواحهم وليتني كنت معهم).
معلوم أن جماعة أنصار السنّة، وبالضرورة شيخها وأشد المتمسكين بمبادئها، على غير اتفاق مع تنظيم القاعدة ومع زعيمها الراحل الشيخ “أسامة بن لادن”، ولم يكن شيخ “أبو زيد” يخفي خلافه مع “بن لادن” خاصة في منهج الخروج على الحاكم، الذي لا يقره “أبو زيد” ويحذر منه أيما تحذير، لكن ولأن شيخ جماعة أنصار السنّة كان رجلاً صاحب مبدأ، لا يخلط بين خلافه حول منهج محدد، وبين أخوة الإسلام، فإنه لم يتردد لحظة، ولم يصبه الحرج أو التخوف من رأي تلاميذه وأنصار جماعته حين تسامع الناس نبأ استشهاد “بن لادن”، فسارع الرجل ليصلي بالناس في ساحة المولد بالخرطوم صلاة الغائب على روح “بن لادن”، بل وأثنى عليه خلال مخاطبته لجموع المصلين، مؤكداً أنه يحفظ حتى لمن يخالفه حرمة الإسلام، وهو موقف تحمل فيه الشيخ سخط بعض منسوبي جماعته. ولـ”بن لادن” نصيب وافر في كشف خبايا شخصية “أبو زيد”، الذي هاجم “بن لادن” عقب حادثة “الخليفي” بعد أن توجهت سهام الاتهام لـ(القاعدة) بأنها وراء الحادثة، وحينها كان “بن لادن” بالخرطوم فأرسل إليه اثنين من قيادات المجاهدين وقدما له من الحجج ما أقنعه ببراءة ساحة زعيم المجاهدين، فلم يستنكف “أبو زيد” عن تقديم الاعتذار، بل أكد التزامه بإعلان اعتذاره عبر المنبر، لكن أيادي جهاز الأمن حينها كانت أسرع فتم اعتقاله. ولعلها من المفارقات أن لشيخ “أبو زيد”- المتزوج من ثلاث نساء- ثلاثة من الأبناء يعتنقون فكر الجهاد، اثنان منهم ذهبوا إلى مالي مقاتلين، وثالثهما “عبد الرءوف”، المحبوس على ذمة قضية الأمريكي “غرانفيل”، لكن الشيخ أبدى صبراً وجلداً على فراق أولاده، ولم يجزع.
وشيخ “أبو زيد” كدأب الصالحين- ولا نزكيه على الله- شعر بدنو الأجل، فجعل يردد وهو ممدد على سرير المرض دعاءً يبتهل فيه إلى ربه، فيبكي كل من حوله: (اللهم ما دعوت غيرك، ولا رجوت سواك، حياتي كلها لك، أنت المسؤول وحدك، فارفع عني هذا البلاء).