(الاتحادي الديمقراطي) يرفع سقوفات أحلامه بـ(كعكة كبيرة) من السلطة
(الخرطوم).. (جوبا).. وخيار تبادل الأذى
“الدقير” لن يغادر ظل الحكومة إلى شمس (مايو) الحارقة!!
متى تنصفون الجزيرة من ظلم ذوي القربى..؟!
يوسف عبد المنان
في كل يوم تهدر دولتا السودان وجنوب السودان فرصة تبادل المنافع والعيش في سلام وحرية لمواطني الدولتين وكفكفة الدموع وتجفيف منابع الدم بالمصالحات التي تنهي النزاعات الحالية.. ولا تحتاج النخب الحاكمة في البلدين للتذكير بوشائج القربى وصلات الدم، وتشابه النظامين في الدولتين، وحتى أمراض الحكومتين والمعارضتين.. وقبل انفصال الجنوب وذهابه لسبيله، لعب المؤتمر الوطني دوراً في تعزيز موقف التيار الذي يتزعمه “سلفا كير” داخل سلطة الشراكة بإقصاء التيار المعروف بـ(أولاد قرنق) لحسابات سياسية خاطئة حينذاك.. ولم يشأ “سلفا كير” وجماعته تعكير صفو علاقتهم بالمؤتمر الوطني، حيث تظاهر “سلفا” باحترام “البشير” كقائد عسكري جمعتهما سنوات الصبا.. لكنه كان يخطط فقط من أجل الانفصال بدولته ومن ثم الانقلاب على “البشير” وحكومته.. وسيطرت المرارات الشخصية لبعض النخب السياسية والعسكرية على التعاطي مع حقائق الواقع على الأرض، حيث أصبح الجنوب دولة مستقلة، وما عادت المعادلات القديمة والتحالفات السابقة تتحكم في مسارات العلاقة.. واحتضن الجنوبيون (الحركة الشعبية- قطاع الشمال) وهي جزء من (الحركة الشعبية) الحاكمة في الجنوب، وتمت تغذية شرايينها بأحلام السيطرة على السودان أو على الأقل الحصول على (كعكة) من السلطة تعادل نصيب الحركة الشعبية قبل انفصال الجنوب.. وخيم على علاقات البلدين التوجس ونذر الحرب، وفرضية المواجهة العسكرية بسبب المعارضة العسكرية الشمالية التي تتمركز في الجنوب والخلافات الحدودية في البلدين.. وقضية (أبيي).. وقسمة عائدات البترول.. لتفشل كل مساعي الجيران والاتحاد الأفريقي في حمل قيادة البلدين النظر لمصالح شعبيهما.. وقد أهدرت الحكومة السودانية فرصاً تاريخية في الحفاظ على وشائج ذوي القربى والمصالح الاقتصادية، وكان منتظراً أن تستفيد الحكومة السودانية من الجنوب كسوق للمنتجات الوطنية وفتح الحدود بدلاً عن سياسة الإغلاق والتضييق التي يستفيد منها فقط المهربون للسلع السودانية التي تدخل الجنوب من خلال حدود مفتوحة تمتد لأكثر من ألف كيلومتر بعرض البلاد من النيل الأزرق وحتى غرب دارفور.. الثقافة الغذائية لشعب الجنوب تجعله يفضل الغذاء القادم من السودان دولته الأم على الغذاء القادم من كينيا ويوغندا، فالجنوبيون يفضلون الذرة (الفتريتة) و(ود أحمد) و(طابت) على (الذرة الشامية) القادمة من شرق أفريقيا، ويشربون (الكولا) السودانية و(الاستيم)، ويفضلون صابون (لوكس) والأدوية التي تصنع في الخرطوم.. ولو كانت النظرة الاقتصادية تعلو على الاعتبارات الأمنية والعسكرية، لذهبنا نحو الجنوب بعد انفصاله للاستثمار هنالك بدلاً عن تعقب سلوكيات غير راشدة من دولة عمرها يوم واحد لا يمكن مقارنتها بدولة تمتد جذورها إلى العام 1882م.. وكان حرياً بالنخبة المتنفذة في الحكم النظر إلى الرؤية المصرية للسودان، بعد أن وئدت أحلام تيار وحدة وادي النيل أخذت الدولة المصرية على عاتقها احتضان السودان والاستثمار فيه.. فتحت الجامعات المصرية للسودانيين، وجعلت من القاهرة والإسكندرية وأسوان ملاذاً لكل سوداني يبحث عن الاستقرار والاستثمار وادخار أمواله في شراء الشقق السكنية.. ومنذ الخمسينيات وحتى 1989م كانت مصر هي مشفى السودانيين الأول.. واعتمدت نهضة شركة مصر للطيران على السوق السوداني.. ومددت من وجودها الثقافي والاجتماعي بالخرطوم والمدن الكبرى.. لكن ذلك الكتاب المفتوح لم يستفد منه السودانيون ولم يتعلموا شيئاً.
ماذا تعني القضايا الحدودية؟؟ هل أوروبا التي أصبحت اليوم دولة موحدة بفضل التفاهمات ورعاية المصالح لم تتنازع يوماً في حدود الدول؟؟ من يعبر فرنسا إلى إيطاليا لا يشعر بنفسه إلا وهو داخل الأراضي الإيطالية.. في رحلتنا من سويسرا إلى فرنسا العام الماضي كان مولانا “بابكر قشي” شغوفاً بالحدود السويسرية الفرنسية وبسلسلة جبال الألب.. والسائق اللبناني الشيعي يكثر من دخان التبغ الكوري. والسيارة تتهادى على طريق أسفلتي يعبر كل أوروبا من النرويج حتى أسبانيا.. حينما سأل مولانا “قشي” عن الحدود كانت إجابة السائق اللبناني بأننا قد عبرنا عند المنحنى الثالث من جنيف قبالة الكنيسة البيضاء التي أشار إليها الأخ “الزبير عثمان أحمد”.. وحدود فرنسا وأسبانيا عبارة عن مدرسة لتعليم اللغات.. ونحن في العالم الثالث ننفق مليارات الدولارات على قوات خاصة بحماية الحدود. نشتري السلاح وسيارات اللاندكروزر والدبابات وأجهزة المراقبة.. ونوصد الأبواب في وجوه بعضنا البعض دون تدبر ورؤية.
{ (أبيي).. وخرافة البترول
المنظمات الغربية والآلة الإعلامية في أوروبا والولايات المتحدة ما أن تذكر (أبيي) إلا ويقال إنها منطقة نزاع بين جنوب السودان وشمال السودان غنية بالبترول.. وفي الواقع أن كميات البترول التي في جوف (أبيي) قليلة جداً لا تكفي حتى حاجة سكان (أبيي) من )المسيرية) و(دينكا نقوك).. لكن من أجل مزيد من التشويق والإثارة وخداعنا بالبترول من أجل أن نتفرق ونقاتل بعضنا بعضاً يتم دائماً ربط (أبيي) بالبترول، ولا يتعدى احتياطي البترول فيها (3) ملايين برميل، وهي كميات يمكن أن تنضب في سنوات قليلة.. والآن الدخول إلى (أبيي) لا يتم إلا عبر دولة جنوب السودان بسبب إغلاق الحدود.. وتدفع قوات (يونسيفا) ملايين الدولارات سنوياً دون أن ينال المواطنون شيئاً.. وإذا كانت حدود البلدين تمتد لأكثر من ألف كيلومتر فإن أكثر من (98%) من تلك الحدود متفق عليها، وما تبقى يمكن أن تتبادل حوله الدولتان المصالح.. وتزدهر العلاقات ويستثمر السودان في الجنوب، وتبقى القضايا الخلافية لحلها من خلال أجيال قادمة بعد أن عجز الجيل الحالي في الدولتين عن التعايش معاً.
أما مسألة (أبيي) فإن مصالح (المسيرية) في الرعي بـ(بحر العرب).. ومصالح (الدينكا) في الرعي شمالاً في فصل الخريف حتى (بابنوسة) و(المجلد).. ويمكن تمثيل أبناء (أبيي) في حكومتي (جوبا) و(الخرطوم).. والآن مثلما سيعين “ماجد ياك كور” وزيراً في الحكومة القادمة و”زكريا أتيم” مستشاراً في حكومة “أحمد خميس” الجديدة بعد أن جدد المركز ثقته في الجنرال “خميس”، فإن حكومة الجنوب تستطيع تعيين “الخير الفهيم المكي” مستشاراً لـ”سلفا كير” والأمير “حمدي الدودو” معتمداً في (ملوال شات) لتبقى العلاقة بين الشعبين تعلو على مطامع السياسيين وأحلامهم؟؟ أما إذا كان هناك من ينتظر حسم تبعية (أبيي) لأي من الدولتين فإن انتظاره سيطول كثيراً، وقد عجزت لجان التحكيم الدولية في إصدار قرار بأيلولة (أبيي) للجنوب.. وفشلت سياسات لي الذراع وإقرار الأمر الواقع بقوة السلاح ومنطق القوة، فلماذا لا يتم تجريب الحلول السلمية والتفاهم، حيث يعبر استخدام القوة عن عجز في منطق السياسيين ويكشف عن عورات الأنظمة بدول العالم الثالث؟؟ ومتى يرتقي قادتنا ورموز ووزراء حكومات البلاد لمستوى تطلعات الشعب في البلدين؟!
{ (مايو) شهر المساومات ومأزق التشكيل الوزاري
كل القوى السياسية التي خاضت الانتخابات الأخيرة تنتظر طوال شهر (مايو) الجاري أن تنال نصيبها من (كعكة) السلطة الولائية والمركزية.. وقد تعهد المؤتمر الوطني قبل بدء الانتخابات بإشراك كل القوى السياسية التي خاضت الانتخابات في الحكومة القادمة بغض النظر عن ثمرتها ونصيبها في الحصيلة النهائية للانتخابات، وقد حصدت بعض الأحزاب أصفاراً كبيرة ولم يتعد وجودها النائب الأول أو النائبين في البرلمان القومي، وهناك أحزاب فشلت في الحصول على أية دائرة بالمجالس التشريعية والمجلس الوطني، فكيف تنال مثل هذه الأحزاب نصيبها من السلطة؟ وهل يحق للمؤتمر الوطني الذي سهرت عضويته الليالي، وكابدت مشقة التدافع في الانتخابات من أجل السلطة أن يتبرع قادته لأصدقائهم من الأحزاب الحليفة بالوزارات ورئاسات اللجان البرلمانية ويتركون للحزب رئاسة الجمهورية وبعض المناصب التي يتولاها (الثوابت) من الوزراء؟؟ وإذا كان الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي من أجل الانتخابات خسر نصف قيادته الفاعلة يطالب بنائب الرئيس في القصر، ورئيس البرلمان ووالي الخرطوم، إضافة إلى الوزارات المعلومة من التجارة، ومجلس الوزراء.. والاتحادي ضحى في سبيل الانتخابات، لكن هل بثقله الذي أفرزته الانتخابات (25) مقعداً في البرلمان يستحق أن تسند إليه كل هذه الحقائب؟؟ وكيف يتم توزيع (الكيك) و(حلاوة بقرة) على أحزاب الأمة التي حصلت على قرابة الـ(20) مقعداً وهي مقسمة إلى عدد كبير جداً.. ويعدّ حزب د. “أحمد بابكر نهار” أكبر أحزاب الأمة ثم “بابكر دقنة” و”إبراهم آدم” الذي ورث حزب الأمة برئاسة “الزهاوي”.. كل هؤلاء ينتظرون نصيبهم من (الدنيا) وقد بدأت المساومات والضغوط وحزب “الدقير” الاتحادي المسجل يلوح في الصحف (طبعاً) بإمكان العودة للمعارضة في حال لم يحصل على مبتغاه من السلطة.. وراعي الضأن في (حمرة الوز) يعلم أن د. “أحمد بلال” و”إشراقة سيد محمود” لا يستطيعان بعد سنوات الحكم الطويلة الممتازة الجلوس في شمس مايو الحارقة ينتظران انتخابات بعد خمس سنوات من الآن.. والاتحادي جناح “الدقير” حصد من الانتخابات (15) مقعداً في البرلمان وهي حصيلة جيدة بالنظر لانصراف الحزب عن التنظيم إلى الجهاز التنفيذي وغياب القيادات السياسية ذات البعد الجماهيري.. وهناك تنافس خفي بين الاتحادي الأصل والاتحادي “الدقير”.. وما يحصل على “الدقير” يجب أن يضيف إليه الوطني وزارة وزارتين للأصل.
أما القوى الصغيرة من أمثال أنصار السنّة، فقد آثرت دخول الانتخابات بعباءة مستقلين وحصلت على مقاعد مجانية في بعض الدوائر.. ورشح المؤتمر الوطني في قائمته الحزبية شخصيات لا يعرف لها سابق انتماء لحزب المؤتمر مثل الوزير السابق “محمد أبو زيد مصطفى” أحد أبرز قيادات جماعة أنصار السنّة، لكنه الآن تخلى عن جماعته وركب قطار المؤتمر الوطني.. مثلما التحقت “مريم تكس” وشقيقها المهندس “عبد الله تكس” بقطار الوطني في محطة ما قبل المغادرة وضمنا معاً مقعديهما في البرلمان، وربما يدفع بـ”مريم تكس” لمنصب وزاري حتى لو كان ذلك على حساب القياديات الصادقات ومنهن “مشاعر الدولب”، والكفاءات النادرة ومنهن “انتصار أبو ناجمة”.. ومعادلات الحكم قد تجعل من هؤلاء القيادات رهان الغد في المعركة القادمة.. وإذا كان “فضل السيد شعيب” قد نال ثاني الأصوات بعد الرئيس المنتخب وهو القادم من (أم قديتي) إحدى قرى محليات شيكان بولاية شمال كردفان، فالرجل يطمع ويسيل لعابه لمنصب وزاري أو حتى مستشار لوالي الخرطوم أو لوالي شمال كردفان، وقد ارتضى منافس “البشير” السابق “منير شيخ الدين” أن يصبح بعد الانتخابات مستشاراً لـ”أحمد هارون” في كادوقلي بعد أن تبعثر حلم الجلوس على كرسي الرئاسة في السودان.. لكن عدد المرشحين لمنصب الرئيس كبير جداً وحصل بعضهم على أصوات قليلة جداً.. وترشح آخرون من أجل أن يكتب في سيرتهم الذاتية صفة (مرشح سابق)!!
وداخل المؤتمر الوطني ثمة مأزق حقيقي في كيفية تقسيم (الكيكة) التي لن ترضي كل الطامعين والخطاب، والوزارة أصبحت مثل (فينوس) رمز الجمال التي قال عنها الشاعر:
فينوس يا رمز الجمال ومتعة الأيام عندي
لما جلوك على الملأ وتخير الخطاب بعدي
هرعوا إليك جماعة وبقيت مثل السيف وحدي
وقد سيطر إقليم دارفور في الحقبة التي انقضت بالانتخابات على مجلس الوزراء، فآل إلى ذلك الإقليم منصب نائب الرئيس “حسبو محمد عبد الرحمن”، وكبير مساعدي الرئيس د. “التجاني سيسي” ووزير شؤون مجلس الوزراء “أحمد سعد عمر”، ووزير الصحة “بحر أبو قردة”، ووزير الصناعة “السميح الصديق النور”، ووزير النقل د. “أحمد بابكر نهار”.. واثنان من وزراء رئاسة الجمهورية د. “فضل عبد الله فضل” و”الرشيد هارون”، إضافة لوزير العدل “محمد بشارة دوسة”، ووزير الدولة بالخارجية “كمال إسماعيل”، ووزير الدولة بالصناعة.. ورغم كل هذا الزخم الكبير فشلوا في حل مشكلة دارفور.. وينتظر الآن المهندس “عبد الله علي مسار” نصيبه من الحكم وزارة أو حتى لجنة في البرلمان، وكذلك المهندس “إبراهيم مادبو”.. وجماعة “دبجو” من حركة العدل والمساواة، ومرشحو “موسى هلال”.. وهناك معادلات كردفان، حيث تقتضي التوازنات وجود وزراء يمثلون المجموعات الرئيسية: (المسيرية) و(الحوازمة) و(الجوامعة) و(الكبابيش)، وقد ضمر تمثيل كردفان بفقدان منصب رئيس البرلمان، بينما تعدّ الجزيرة هي أقل أقاليم السودان حظاً في السلطة خلال الفترة الماضية، ولا يمثل ولايات سنار، النيل الأبيض والجزيرة إلا بروفيسور “إبراهيم غندور” و”بدر الدين محمود”.. وقد تكاثرت أعداد المرشحين المستقلين في الجزيرة بسبب إحساس القيادات هناك بأن السلطة أصبحت مناصفة بين دارفور والشمال والنيل.. كما أن نصيب شرق السودان من السلطة ضعيف جداً.. فكيف يلبي أشواق قاعدته العريضة وفي ذات الوقت يسترضي الأحزاب التي شاركت معه في الانتخابات واكتسبت مشروعية سياسية؟؟ وفي ذات الوقت تكاثرت مطالب الاقتصاديين بضرورة خفض الإنفاق الحكومي وتقليل عدد الدستوريين في الحكومة حتى لا تذهب كل عائدات الصادر لإطعام الوزراء وشراء السيارات وخزينة الدولة قد أرهقتها الانتخابات، وإذا ما أبعد الولاة والوزراء سيهرعون إلى المالية مطالبين بفوائد ما بعد الخدمة، وهي مبالغ خرافية من شأنها إرهاق الخزينة العامة التي تعاني أصلاً من الفقر والعوز وقلة الفئران.