حوارات

"طارق حمزة": بعيداً عن السياسة وقريباً من أدب السيرة.

المهندس “طارق حمزة”: جيلنا مسؤول عن انفصال جنوب السودان لهذه الأسباب
ثمة وجه شبه بين “حسين خوجلي” و”الهندي”.. و”وردي” يعيدني لـ”جميلة ومستحيلة”
كادقلي ألهمتني الشعر.. وقبر والدي في مدينة واو حفر موجع في قلبي
سقطنا في الانتخابات اتحاد الخرطوم مع الشهيد “علي عبد الفتاح” و”محمد خير فتح الرحمن”
لو أطعمنا صناعة الكتاب جاع المسرح وأظلمت شاشة السينما واليد قصيرة
حوار – يوسف عبد المنان
جيل جديد أخذ يتسنم قيادة البلاد سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، جيل ولد مع ثورة التعليم العالي في التسعينيات يرتقي الآن لمناصب مديري الشركات ذات البريق والصيت.. والمال والعلاقات الدولية.. جيل بمفاهيم جديدة.. وتأهيل أكاديمي وخبرات عملية غير جيل الأمس الذي مهما تشبث بالسلطة وأقعد بلادنا عن النهوض.. طبيعي الآن أن يتوارى خلف الأحداث.. كان اختياره لأكبر الشركات السودانية مديراً واحدة من المفاجآت وتجربته العملية لا تزال في حدود الـ(20) عاماً.. رغم البشارات هنا وبريق الأمل هناك.. لكن بعيداً عن الوظائف وقريباً من السياسة.. وإلى جوار الوجه الآخر لشاب لا تنقصه المعرفة.. ولا منطق الحوار.. وتقديم إفادات تكشف عن شخصية غطت عليها وظيفته التي كثيراً ما ينظر إليها في الصحافة بعين التجارة والمال.. ولا يقترب الصحافيون من مديري الشركات والتي ربطت نفسها بالإعلان والدنانير.. بيد أن وراء تلك الشركات نجوم ومثقفون بل وشعراء.. وقيادات مجتمعية وكوادر نضجت تجربتها.
استقبلنا المهندس “طارق حمزة” مع الأخ الصديق “محمد الأمين مصطفى” ليحدثنا خارج التسجيل وبعيداً عن الكتابة، ولكن ما بين الإلحاح على ضرورة أن يبوح “طارق” ببعض ما في جعبته وتجربته.. آثر الرجل الحديث في السياسة والاقتصاد.. والسيرة الذاتية المليئة بالعبر والدروس للجيل القادم.. حدثنا عن النشأة والتكوين وأثر الترحال والأسفار والتنقل من مدينة لأخرى.. وفتح شيئاً من دفتر الأحزان والأشواق.. فماذا قال “طارق حمزة” لـ”المجهر” في حوار بطعم الخاص.. ولكن للفائدة العامة.
{ أين ولدت وكيف نشأت؟
–    أنا ولدت في مدينة بحري في بيت جدي لوالدي المرحوم “حسن حسين عبد النبي” عام 1968م بحي الختمية.. كان والدي قاضياً في “كتم” بشمال دارفور.. المرحلة الابتدائية درستها في عدة مناطق.. بدأت في “شندي” ثم انتقلت إلى “الدامر”.. وعدت لبحري ودرست في مدرسة العزبة الابتدائية.. وكان الوالد يتنقل من منطقة لأخرى بحكم مهنته كقاضٍ، والمرحلة المتوسطة درستها في كادقلي مدرسة المستقبل، ومن أساتذتي في المدرسة الفريق “دانيال كودي” وهو من أفضل الأساتذة الذين درست على أيديهم.. كما درست المتوسطة أيضاً بكادقلي الأميرية.. ومن بعد ذلك إلى الأبيض الأميرية.. وعند زيارتي الأخيرة لمدينة الأبيض وجدت مدرستي قد أصبحت جامعة مثل كثير من المدارس الثانوية مثل “خورطقت” التي تحسر عليها الأخ “محمد خير فتح الرحمن” في زيارتنا الأخيرة لمدينة “الأبيض” ونحن نتناول مع مولانا “أحمد هارون” أثر تحويل المدارس الثانوية لجامعات.. جلست للثانوي من الأبيض وتم قبولي بمدرسة (خور عمر)، لكن الوالد ابتعث إلى “اليمن” مدينة “الحديدة”.. ولذلك قدرت الأسرة أن أذهب لمدرسة (بحري الحكومية) لأنها تقع بالقرب من منزل جدي وهي المدرسة التي درس فيها أخواني “محمد مختار حسن حسين” وهي من أعرق المدارس مهدت لدخولي لـ(كلية الهندسة) جامعة الخرطوم (قسم الكهرباء).. ومن دفعتي في بحري الحكومية “طارق سر الختم”، “محمد أحمد حاج ماجد” و”رامي الدرديري”.. تخرجت في جامعة الخرطوم عام 1992م – 1993م بسبب الاضطرابات التي حدثت في الجامعة حينذاك.
{ متى تشكلت البدايات الفكرية عند “طارق حمزة”؟؟
–    بدأت فكرياً منذ حقبة كادقلي التي لن أنساها وطبيعة كادقلي الجميلة ولا تميز بين من هو قادم من الشمال أو الغرب أو الجنوب.. في المدرسة بكادقلي كان التنافس بيني وزميلي “سانتيو” من جنوب السودان وكذلك كان ينافسنا “أبو بكر منصور” من كادقلي نفسها.. رغم الفوارق بيني وبينهما والمنافسة ما كانت عادلة لأنني ولد القاضي وأسكن بمنزل فيه كهرباء وماء، منافسان لا تتوفر لهما هذه الخدمات.. كنت أراجع دروسي تحت ضوء الكهرباء وهما في “القطاطي” يراجعان دروسهما (باللمبة).. وأذكر في حصة “التربية لإسلامية” كان الأخ “سانتيو” المسيحي لا يخرج من الفصل وما كانت المسألة الدينية مطروحة وتشكل فوارق بين الناس.
{ أنت تنقلت بين الشمالية ونهر النيل والخرطوم بحري وكادقلي والأبيض ودارفور.. ماذا شكلت لديك هذه المحطات في التكوين والانتماء والتفكير والمزاج؟؟
–    تعلمت من الأسفار والتنقل معرفة جغرافية السودان وأهله.. اليوم تنتابني الحسرة والألم حينما يتحدث الناس عن محاصصات تعتمد على القبيلة ودون القبيلة خشوم البيوت.. لقد عشت في كردفان، وطفت مع والدي على مناطق “الفولة” و”هبيلا” و”لقاوة”.. الناس لا يسألونك من أين جئت.. تلك الصورة الزاهية قد أصابها الكثير من التشوهات.. أخذ الناس الآن يسألونك من أين أنت؟
{ هل ذلك دليل وعي أم تراجع؟؟ ولماذا؟
–    بكل أسف دليل تخلف، وتعود الأسباب إلى أن نظامنا السياسي تخلف لأن حتى النظرة الحزبية كانت تعمق القبيلة.. كذلك الاهتمام بالمركز لفترات طويلة وإهمال أقاليم السودان الطرفية البعيدة، رغم أن الفوارق في الزمان السابق بين الأقاليم والخرطوم فوارق طفيفة.. في الخرطوم السينما والمسرح.
{ متى دخلت آخر مرة دور السينما؟؟
–    بكل أسف من فترة طويلة جداً لم ارتاد دور السينما وآخر عهدي بها كان ذلك عام 1988م.
{ المسرح؟؟
–    دخلت قبل عامين مسرحية (النظام يريد)، رغم حبي للمسرح الذي يعتبر الأب الكبير للفنون، حيث لا حواجز بين الجمهور والممثل.. عندما يسافر السودانيون إلى الخارج يذهبون إلى المسرح خاصة مصر، ولكن الناس في السودان لا يذهبون كثيراً للمسرح رغم دوره الكبير في خدمة الثقافة لكنه تخلف كثيراً.. منذ مسرح الفاضل سعيد وأبو قبورة ضمر دور المسرح كثيراً.
{ أنت مدير لمؤسسة كبيرة هل فكرت يوماً في توظيف جزء من التزامات الاتصالات نحو المجتمع في تطوير المسرح؟
–    لقد فكرنا في تطوير المسرح لكن ما باليد دون ما في المخيلة من برامج وطموحات.. تتسع الحاجة لدعم الغناء والمسرح والشعراء والرياضة والصوفية، ولكن إلقاء الحمل على شركة واحدة أو مؤسسة بعينها أو مجموعة يجهض كثيراً من المشروعات التي يمكن أن تنهض جماعياً.. (سوداتيل) تقدم ما بوسعها ولكنها لا تستطيع أن تفعل ما هو فوق طاقة احتمالها، يمكن أن تنهض بيوت مالية وتجار وشركات عديدة ببرامج دعم اجتماعي تنفذ لمؤسسات مثل المسرح وغيره من الإنسانيات والإبداعيات.
{ كيف وأين تمضي العطلة السنوية؟؟ والأسبوعية؟؟
–    بكل أسف في السودان لا عطلة سنوية ولا أسبوعية، الآن منذ 2010م لم أحصل على إجازة سنوية مثل كثير من السودانيين الذين ينبغي لهم توطين ثقافة العطلات.. السودانيون ثقافتهم ليست بها عطلات.. وهي نقطة سلبية يجب تغييرها.. كنت في خارج البلاد أمضي الإجازة الأسبوعية وأعود بروح جديدة، لكن في السودان قد تعمل (28) ساعة ولا تنتج أكثر من (6) ساعات.
{ المطعم عند “طارق حمزة”؟
–    يستهويني المطعم البلدي.. ووجبة (الكباب) لقد اختفى المطعم السوداني وبقيت المطاعم المستوردة، نحن لا نتذوق المطاعم الأجنبية ولكن أبناءنا اليوم يتذوقون الأجنبي.. المطعم السوداني كان غنياً بكثير من الوجبات، لقد تأثرت بنية الأطفال السودانيين بالغذاء الأجنبي.
{ الأستاذ “محمد الأمين مصطفى” الصحافي والأديب والمستشار بـ(سوداني) قال لـ”طارق حمزة”: أنت تكتب الشعر.. فمن هم الشعراء الذين خلدوا في ذاكرة “طارق”؟؟ وقصيدة في وجدانك؟؟
–    طبعاً شاعر في الذاكرة يأتي أولهم “المتنبي”، أحب الشعر كثيراً، في جامعة الخرطوم كنت عضواً فاعلاً في الرابطة الثقافية العلمية ورابطة بحري للآداب.. وحينما خضت انتخابات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم عام 1991م وسقطنا في تلك الانتخابات.. ومن دفعتي في تلك الانتخابات الشهيد “علي عبد الفتاح” والصديق “محمد خير فتح الرحمن”.. كان سقوطاً أرسى دعائم الديمقراطية التي يتشدق بها اليسار.. وفي تلك الانتخابات كنت مرشحاً لمنصب السكرتير الثقافي.. الشعر كان مصدر إلهامه الأول تلك الخضرة الممتدة في مدينة “كادقلي” وسفح (جبل تلو) جعلني أحفظ المعلقات.. وكنت أستمع كثيراً لأشعار (الشايقية) وأطرب جداً لـ”عثمان اليمنى”.. أنا والدي دنقلاوي ولكني معجب بحنية الشايقية.
{ دنقلاوي رطاني أم دنقلاوي مستعرب؟؟
–    أنا لا أرطن ولكني أفهم.. جذوري من جزيرة “بنه”.
{ هل كتبت الشعر؟
–    لست شاعراً لكني أتذوق الشعر.. هناك محاولات شعرية.
 { هل “دسيت” الأشعار؟؟
لم (أدسها) الظروف لم تسمح بالبوح.. وفحول الشعراء يجعلوني أخرج كلماتي على استحياء.
{ هل تخاف شعرك أم تخاف عليه؟
–    لا ما بخاف منه.. ليس هناك خوف.. ولكنه تهيب أن تأتي الكلمة مع كلمة يبوح بها أديب فاز لايكون هناك مجال للمقارنة.
{ لمن تعطي أذنك الآن؟
–    بحب “اليمنى” ورمياته.. وأدندن مع “وردي” و”حمد الريح”.. مع “وردي” أتغنى بالجميلة ومستحيلة لأنها تعيد لي ولو مؤقتاً ذكريات جامعة الخرطوم، وهي ذكريات حبيبة إلى قلبي جداً.. و”وردي” قامة بغض النظر عن مسمى الأغنية وكلماتها وهو من يعطي القصيدة ألقاً وطعماً ونكهة!! “محمد الأمين” الذي تغنى بأكتوبر ما عاد ذلك الصوت الذي يدغدغ المشاعر.. هل أكتوبر ولت أم تبدل أبو اللمين؟.. أنا أحب شعر وغناء الربابة مثل “محمد النصري”.
{ أي الإذاعات تجبرك على متابعتها؟
–    في العربية أسمع لـ(فرقة الصحوة) “حليل بلدي وحليل ناسها حلاة الطيبة والطيبين” ولكن بصراحة الآن لا أستمع كثيراً للإذاعة.
{ يوم استثنائي في حياتك؟
–    يوم استثنائي عند إعلان النتيجة ودخولي جامعة الخرطوم عام 1987م.. كان حصاد تسع سنوات.. هي لحظة لن تمحى من الذاكرة.
{ لحظة حزن عميقة؟
–    فراق والدي في مدينة “واو” بجنوب السودان عام 1991م كان وقتها رئيساً للجهاز القضائي هناك، وأنا في “بورتسودان” تلقيت النبأ الفاجع.
{ حينما انفصل الجنوب عن الشمال كيف كانت مشاعرك؟
–    كان يوماً حزيناً.. فصل الجنوب بالنسبة لي شيء مؤلم.. ظللت أفخر جداً بأرض المليون ميل.. حتى في الاغتراب كنت فخوراً وسط العرب بأنني من أرض المليون ميل.. حزنت لواقع الانفصال.
{ جيلك يا “طارق حمزة” مسؤول عن الانفصال؟
–    نعم نحن جيل مسؤول عن انفصال جنوب السودان لأنه حدثت له آثار عميقة جداً، إضافة إلى أن الجيل الذي قبلنا أيضاً تقع عليه مسؤولية الانفصال.. هي رحلة ممتدة منذ 1956م.
{ الكتاب في حياتك؟
–    هو صديق وأليف.. أتذوق الكتاب الورقي لا الكتاب الالكتروني.. سيظل الكتاب بجانبي رغم المشاكل وحافظت على قراءة الكتاب يومياً قبل أن أغمض جفني للنوم.
{ آخر كتاب في مخدتك؟
–    “رجال حول الرسول صلى الله عليه وسلم”.. أنا اقرأ مستلقياً.. كان الوالد يلزمنا بوضع صينية الأكل على البساط لا الطاولة، وخالي “محمد حسين” يقرأ وهو يأكل الطعام.
{ آخر رواية؟
–    للمرة الثالثة اقرأ (موسم الهجرة إلى الشمال) لأن “الطيب صالح” يأسرك ويأخذك لعوالمه الخاصة.
{ لماذا قرأت (موسم الهجرة إلى الشمال) ثلاث مرات؟
–    هذا كتاب تحدث عن عادات الإنسان السوداني في البندر.. إنما في الريف الرواية تحكي جزءاً من ريف السودان المنسي.. القارئ الأجنبي انفعل مع “الطيب صالح” كان حرياً بنا الانفعال أكثر.
{ موقف تاريخي.. أم في الحاضر؟؟
–    المواقف كثيرة.. فخور أن أكون سودانياً.
{ متى لا يمكن الوصول لـ”طارق”؟
حينما تصيب الشبكة أعطاب.
{ إحساس مدير الشركة التي شبكتها طاشة؟
–    يصيبني الكثير من الحزن والقلق.. نحن وعدنا الناس بتقديم خدمة أفضل.. والقلق كل يوم يمر والشبكة متوقفة هي إيرادات مهدرة.. أنا لدي نحو (7) ملايين مشترك داخل السودان. وليت كان فمي في يدي لأحييهم فرداً فرداً.. لدينا مشتركون في خارج السودان نحو (3) ملايين.. أنا فخور جداً بموقعي كمدير لشركة (سوداني).
{ كيف استقبلت خبر تعيينك مديراً للشركة؟
–    فرحت وحزنت ولم يدخل قلبي الخوف.. لأنني توكلت على الله.. ثانياً الخوف أدى لتأخير كثير من الشعوب.. الخوف العاطفي متاح.. لكن الخوف من التجربة يجب أن يجعلني أستقيل.. حزنت لأن المناصب الكبيرة في السودان هي مناصب محسودة.
رسائل لهؤلاء:
إلى الوالدة: أمي يا دار السلام الله يسلمك.. يا حضني لو جار الزمان ختيتي في قلبي اليقين يا أنعام حسن حسين.
{ إلى الوالد: ربنا يتقبله في عليين مع الصادقين والشهداء.
تحية هنا لمولانا “جلال محمد عثمان” ولدكتور “حيدر دفع الله”، وعندما توفي والدي كان معه قاضي جنوبي كتب رسالة من (4) صفحات بالانجليزية.. هي رسالة مهمة جداً.. يقول إن هذا الدنقلاوي حينما يرطن أنا شلكاوي لكني أفهم لغته وهو يفهم لغتي.. تحدث عن العلاقات الإنسانية وحزنت حينما زرت قبره في واو وجدنا المقابر قد أصبحت سكناً.. لقد كان الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” إنساناً بحق وهو يحتضننا بموقعه في القصر وفاءً لوالدنا القاضي العصامي الذي عمل جرسوناً في (القطر) ودرس الجامعة بطريقته الخاصة.
وزير الثقافة: “الطيب حسن بدوي” يعجبني فيه حبه لمدينة كادقلي التي تجمعنا وهو قيادي مميز جداً.. جاء من غرب السودان الذي يمثل المخزون الثقافي لهذا البلد.
{ حسين خوجلي: عندما أسمع “حسين” يأتيني يقين هو يمثل الكلمة الرائعة.. وهناك وجه شبه بين “الهندي” و”حسين خوجلي”.. هو قلم ورأي شجاع.
شكراً.. “طارق حمزة” على الإفصاح عن الخاص والعام.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية