قصة نائب رئيس خارج الشبكة، وتحت ظلال الأشجار..
بحر العرب
يوسف عبد المنان
(3) أيام في بحر العرب (1-2)
الدعم السريع.. والخدمات.. وأمن الحدود، وبدو الرزيقات بلا حقوق
لم أشأ الاعتذار أو الهروب من مهمة شاقة.. ورحلة مرهقة.. وقد نال الجسد العليل من التعب والأسفار.. أكثر مما يستحق.. “حسبو محمد عبد الرحمن”، به صفات مشتركة مع “علي عثمان محمد طه”.. يحترم الصغير والكبير.. إذا رافقته في رحلة من رحلاته.. يجعل منك شريكاً في الهم العام.. يصغي لأحاديث الناس قبل أن يتحدث.. طوافه على السودان جنوباً وشرقاً وشمالاً وغرباً.. ووفاء الرجل لموقعه يجعل الوقوف معه واجباً.. وفرض عين.. عدنا عشية (الجمعة) بعد يوم طويل جداً في كادقلي مسح على دموع الباكيات من أمهات الشهداء بمنديل حرير.. وقال لشهداء الانتخابات (جئتكم مبعوثاً من الرئيس “البشير” لأقول لكم شكراً على التضحية والثبات).
في الثامنة من صباح (السبت).. أخذ الوفد الصغير الذي يرافق نائب الرئيس لرحلة الأيام الثلاثة في بادية بحر العرب.. في التوافد على القاعة الرئاسية (الفخيمة).. الفريق “يحيى محمد خير” وزير الدولة بالدفاع.. الجنرال الذي يحمل على أكتافه مهاماً تنوء بحملها الجبال.. “الشيخ أحمد على الفشاشوية” الفقيه.. العالم.. الصامت.. وهو رجل ليس من أهل الدنيا.. وجاءت المعارضة ممثلة في د.”محمد عيسى عليوة”.. القيادي في حزب الأمة القومي، لكنه يميز بين الموقف الوطني والشأن الحزبي.. وقريباً منه شقيقه “ضيف الله عليوة” المعتمد السابق.. لبحر العرب.. ود.”الفاتح علي حسن”.. و”أسامة”، والمقدم “عائد”.. و”محمد الشفيع جاد الله”.. ثم نقيب الصحافيين “الصادق الرزيقي”، الذي حينما تحدث في بادية “سيدو” خلع عمامته الصحافية.. ومشاغل الحريات.. والتعديات على الصحف، وآثر أن يخاطب هموم أهله وعشيرته التي احتفت به أيما احتفاء، ليعيد “الرزيقي” سيرة نقابي آخر في بادية الرزيقات، “عقيل أحمد عقيل”، نقيب المحامين السودانيين في ستينيات القرن الماضي.. أبحرت الطائرة الرئاسية في فضاء ممتد.. وسماء صافية.. في فصل ما بين الشتاء والصيف.. نحو مدينة الضعين حاضرة شرق دارفور، حيث النزاعات القبلية تطغى على حسنات كثيرة، لتلك الأرض الواعدة.. ساعة ونصف والطائرة (الأنتنوف) تعبر أربع ولايات بحر أبيض.. شمال كردفان، جنوبها.. وغربها، ثم إلى مدينة الناظر “مادبو”.. حتى عهد قريب كانت الطائرات تتعثر في تراب المطار.. حتى طائرة النائب السابق د.”الحاج آدم يوسف” انفجر (إطارها) (ضربت لستك) بسبب الحفر.. والحجارة، وهي تهبط في مطار.. قليل جداً من التحسينات.. وطبقة إسفلتية أولى.. جعلت الطائرة تهبط دون متاعب في مطار الضعين.. لنبدأ رحلة إلى أعماق بحر العرب.. وفي تخوم بادية الرزيقات.. وكأني أستعيد ذكرى رحلة “الناصر قريب الله”، من ثراء أم درمان إلى عمق بادية الكبابيش والكواهلة، حتى يدرك أم بادر.. التي شاركه في حبها والهيام بجمال ونضارة حسناواتها شاعر آخر جاء من شمال أم درمان إنه “الطيب محمد سعيد العباسي”.
{ أم مطارق.. ودحيل الدابي
طوت سيارات اللاندكروزر الأرض الواسعة.. وهي تتجه من الضعين جنوباً.. نصف ساعة. وبدأت الرمال في التلاشي وشجيرات العشر والغبيش تختفي.. وتأخذ الأرض الرملية لوناً أقرب للسواد.. وقطعان الإبل تمد أعناقاً تقطف أوراق شجر السرح والعرد والعرديب.. ظهرت مباني عليها لافتة كبيرة “مشروعات دعم الوحدة مدرسة أبو مطارق”.. تذكرت تلك المشروعات التي أنفقت عليها الدولة مليارات الجنيهات، من أجل وحدة مع الجنوب أصبحت شبه مستحيلة.. ومعتمد محلية بحر العرب يستقبل النائب ببشاشة، في مدخل مدينة أبو مطارق مثلما استقبل “حسبو” في مطار الضعين بالأفراح والابتسامات الشعبية، وقد طغى الوجود الرسمي من شرطة وجهاز أمن وقوات مسلحة.. ودستوريين بعدد الحصى، ولكن حصادهم من الإنجاز قليل، والعقيد “الطيب عبد الكريم” قد علمته التجربة كيف يجمع الناس، ويؤلف بين قلوبهم ويقف في المنطقة الوسطى بين الرزيقات والمعاليا والآخرين. كان غيابهم عن الضعين بمثابة أزمة.. تنتظر الحل . والمعاليا، يصوتون لـ”البشير” بنسبة تصل لـ(90%) ويختارون المؤتمر الوطني عن قناعة، ولكنهم يجافون الضعين، جراء ضغائن القتال القبلي.. أبو مطارق هي حاضرة محلية بحر العرب.. المحلية التي تمتد لأكثر من (200) كلم من حواف الضعين. وحتى البحر عن الميل (14) وسماحة، التي كانت في قديم الزمان تسمى (سفاهة). واليوم يغتصبها سفهاء الجيش الشعبي من دولة الجنوب بوضع الأيدى.. و(يذعن) الرزيقات لتوجيهات المركز بالصبر، وعدم التصعيد العسكري، ولكن شباب الزريقات يعلنون من حين لآخر عزمهم على استرداد منطقتهم وإعلان سماحة محلية لوحدها. في أبو مطارق انضم للوفد أعيان الرزيقات وقادتهم الكبار.. الناظر “محمود موسى مادبو” والسياسي الشعبي والقائد المجتمعي “الصافي عبد الحميد” البرلماني المعتق.. والعمدة والوزير السابق المهندس “إيدام أبو بكر”.. وخرجت قيادات أبو مطارق.. وشبابها يهتفون.. “حسبو” جانا الله أدانا) وفي منطقة الفيض. قال خطيب المنطقة إن النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” مثل الثور (الكلاكي) ، أي الثور كبير الحجم الذي يحمل على ظهره كل أمتعة العرب الرحل.. ومعه الثيران الصغيرة.. يقودها بعنفوان.. ومقدرة على تجاوز الوحل ومياه (الرهود) و(الرقاب) – مفردها رقبة وهي منطقة تتجمع فيها مياه الأمطار قبل أن تجري إلى مستقرها في البحر.. وزيارة “حسبو محمد عبد الرحمن”، لتلك الأصقاع النائية جاءت بعد إعلان فوزه بالدائرة (25) بحر العرب، وهي دائرة تمتد لأكثر من (200) كلم من الخرطوم حتى الكوة.. ويقطن في تلك الأرض الشاسعة الآلاف من البدو الرحل من عرب الرزيقات بكل بطونهم وأفخاذهم في تواد وحميمية.. لا شرطة تحفظ النظام العام، ولا قضاء يفصل في المنازعات.. ولا خدمة مدنية تقضي حوائج الناس.. الناظر “محمود موسى مادبو”.. هو الرئيس والقائد السياسي.. والزعيم الذي يحترمه كل الناس بعدله.. وحكمته وحلمه وعطفه، وقلبه الذي يسع الجميع.. في كل (فريق) لمجموعة كبيرة أو صغيرة من العرب يتوقف موكب النائب “حسبو محمد عبد الرحمن”، لتحية الناس.. يصافح الرجال.. ويحمل الأطفال.. وأهازيج بنات الرزيقات على إيقاعات عربية أصليه، تجعل الرحلة بمثابة استدعاء لماضٍ بعيد جداً وحاضٍر ومستقبلٍ (ما معروف إلى أين يقودنا) توقف ركب النائب في رقبة (لورو) وهي من أجمل المنتجعات المائية في الدنيا.. تسرح الغزلان وتتقافز بعيداً عن أصوات وضجيج السيارات، (وجداد الوادي الذي طرد جداد الحلة)، كما يقول المثل الشعبي، يصدر صوته الجميل بين أغصان أشجار الأبنوس والطلحة ذات اللون الأحمر.. وأشجار الطلح التي تغطي الأرض الشاسعة تلبي حاجة سكان الخرطوم لعشرات السنين!!
{ دحيل الدابي
الدحل هي الأرض المنخفضة التي تتجمع فيها المياه.. أخذت الشمس في التواري خلف الغابات الكثيفة.. و”الشيخ أحمد الفشاشوية”، يروي قصة مدارس تاج الحافظين لإلحاق طلاب الخلاوي بالجامعات السودانية.. وكيف تم إعداد منهج دراسي يختصر سنوات مرحلة الأساس في عامين.. وسنوات الثانوي في مثلهما.. ولماذا يتقدم طالب القرآن على بقية الطلاب.. غطى الظلام ناحية الشرق.. توقف ركب السيارات في الفضاء.. لأداء صلاة المغرب في جماعة.. وفرسان قوات الدعم السريع المرافقون لنا من أبو مطارق يحيطون بركب النائب “حسبو محمد عبد الرحمن”.. شباب سمر الوجوه.. أنقياء.. أتقياء.. على وجوههم البراءة والشراسة.. والرجولة.. عندما قسم الخوف إلى قلوب الرجال كان حظهم قليلاً.. يعتبرون “محمد حمدان حميدتي”، مثلهم الأعلى وقائدهم الذي لا يكذب.. إذا أمرهم بخوض البحر حفاة لأقدموا على ذلك.. لقد أصبح “حميدتي” في بادية الرزيقات وغرب السودان بطلاً قومياً.. كسر شوكة التمرد.. وزرع الرعب والخوف في قلوب المتمردين.. اقتربنا الآن من جنوب السودان القديم.. الأشجار العالية الفخمة.. آثار أمطار هطلت قبل أيام معدودة الأرض. أخذت تكتسي بلون الخضرة.. وقطعان الماشية ترعى من الأرض.. وفرقان الرزيقات في قلب الغابة.. جلل، وعد حبيب.. رقبة جربوع.. حفير أبو تشة.. دحيل الوادي.. دحيل الغنم.. الدندراوية.. وأم صقيع.
إنها مضارب لعرب الرزيقات في الساعة العاشرة ليلاً، بعد مسيرة امتدت منذ الحادية عشرة صباحاً، بلغنا منطقة دحيل الدابي.. على ضفاف بحر العرب غرب منطقة سماحة المحتلة.. استقبلنا العمد والشيوخ بالابتسامات وكرم وشهامة البادية.. تشعر وأنت الزائر لتلك المنطقة بالطمأنينة والدفء.. وقد نحر الرزيقات الإبل.. الضأن.. الثيران.. الغنم.. أعدت وليمة كبيرة.. وتسابق الرجال في خدمة الضيوف أسلمنا الجسد لنوم عافية.. اختار النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” النوم تحت ظل شجرة عرديب كبيرة.. واختار الفريق ركن “يحيى محمد خير”، الأنس حتى وقت متأخر من الليل مع فرسان الرزيقات.. واهتم “الفشاشوية” ببناء مسجد في المنتجع الصيفي.. وأخذ “الصادق الرزيقي” على عائقه بناء مركز للشباب.. لكن ثمة مشكلة كبيرة قد واجهت تلك المشروعات (المتخيلة) هي أن المياه تغمر دحيل الدابي، بعد أيام معدودة من الآن، حيث تنهمر السيول الجارفة من تشاد، وغرب دارفور إلى تلك المنخفضات، قبل أن تتجمع في بحر العرب.
{ خارج الشبكة وبدو بلا حقوق
لو طلب الرئيس “البشير” نائبه “حسبو محمد عبد الرحمن”، لما عثر عليه في تلك الليلة، والأيام الثلاثة.. ربما يمكن الوصول إليه عبر هاتف الثريا.. غير أن الثريا نفسه تواجهه مشكلة الغابات الكثيفة.. حيث يحتاج جهاز الثريا إلى فضاء لالتقاط إشارة التواصل.. وسكان منطقة بحر العرب من الرحل يفوق نصف المليون نسمة.. ولا توجد جهة تحصى العرب في البادية.. ولا يصل ديوان الضرائب أو الزكاة إلى دحيل الدابي وبحر العرب.. ولا يحظى هؤلاء بالخدمات البيطرية، لأن الموظفين لا يختارون الصعاب.. ومشاق السفر . ينتظرون قدوم العرب إلى الشمال في فصل الخريف لجمع ضرائب القطعان وربما تقديم بعض الخدمات.
في الصباح الباكر تجمعت أعداد كبيرة من الرعاة للإصغاء لخطاب نائب الرئيس وابن المنطقة.. ولكن قبل أن يتحدث “حسبو”.. كانت مطالب هؤلاء الناس قد وضعها ممثل المنطقة.. وهي أولاً أن تدعم الدولة قوات الدعم السريع.. وتطلق يد الرزيقات لتحرير أرضهم في سماحة.. اليوم قبل الغد.. ثانياً أن مشكلة نقص المياه في فصل الصيف تجعل السكان يشربون مياها ملوثة من الرهود والبحر.. تسببت في تفشي أمراض كثيرة وبسببها مات العشرات من الناس.. ويطالبون الدولة بحفر آبار.. لشرب الإنسان والحيوان.. ثالثاً أن تقوم الدولة بواجبها نحو مواطنيها في تقديم الخدمات العلاجية، حيث لا طبيب ولا ممرض ولا معاون صحي.. وأخيراً أن نساء المنطقة يواجهن خطر (التعسر) في الولادة.. لعدم وجود (دايات) وليس أطباءً أخصائيي ولادة.. حيث لا أخصائي في كل ولاية شرق دارفور.. فهل هؤلاء المواطنون لهم حقوق مثل بقية أهل السودان ،أم هم شعب بلا حقوق!!
تحدث النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” طويلاً عن ثلاث قضايا، أولها أن الحكومة الآن انتهت من معركة الشرعية، وحسم المؤتمر الوطني الانتخابات بأغلبية تجعله حاضراً في السنوات الخمس القادمة، وأن السودان لن يتخلى عن شبر واحد من أرضه.. وقال (تحرير سماحة هو مسؤولية الدولة) كيف؟ ومتى؟ هي سياسات عليا في الدولة. وعلى المواطنين التحلي بالصبر.. والانضباط.. وحماية حدودهم.. وطالب بشراكة بين المواطنين والحكومة لتقديم الخدمات، وحث الأهالي على دعم هيئة تنمية بحر العرب.
ووجدت دعوة “حسبو” استجابة فورية من الرزيقات، بالتبرع بالمئات من رؤوس الماشية لتطوير المنطقة.. وأكد أن التعليم ضرورة وأولوية قصوى.. “ودق الرجل صدره” لتوفير الخدمات الصحية الضرورية، بتدريب القابلات من البدو الرحل.. وقال: (نيابة عن الرئيس “البشير” نعلن عن قيام نفير شعبي ورسمي لتعمير بحر العرب.. وتوفير مياه الشرب وتقديم الخدمات الصحية).
{ وين (سوداني) و(زين)!!
هتف الشباب في بحر العرب وين سوداني وزين؟ وهم يتوقون إلى خدمات الهاتف السيار، لأكثر من نصف مليون نسمة.. ومساحة تصل إلى (200) كلم من الضعين جنوباً.. ودولة الجنوب الوليدة تمتد شبكة اتصالاتها حتى الضفاف الجنوبية من بحر العرب، بينما (زين) بعالمها الجميل.. و(سوداني) بحماس المهندس “طارق حمزة” ورؤيته الثاقبة ومسؤوليته نحو الاتصالات في السودان، رغم كل ذلك، فقد افتقدهما المواطنون. هل يعنى ذلك تقاصر همة الشركات من الوصول لبحر العرب؟ مثلما تقاصرت همة المسؤولين في حكومة السودان، منذ الاستقلال وحتى اليوم من الوصول لهؤلاء المواطنين وحل مشكلاتهم.. ومخاطبة قضاياهم؟.
ونواصل..