تقارير

(الخرطوم).. هل تنزع فتيل الخلاف بين (القاهرة) و(أديس) حول سد النهضة؟؟

بتوقيع رؤساء الدول الثلاث على اتفاق مبادئ اليوم
الخرطوم – عقيل أحمد ناعم
قمة ثلاثية بالغة الأهمية بين رئيسي السودان ومصر ورئيس وزراء إثيوبيا تلتئم اليوم بالخرطوم، وملف سد النهضة الإثيوبي وتوقيع القادة الثلاثة على وثيقة إعلان مبادئ حوله هو البند الأساسي الذي سيكون مطروحاً على طاولة القمة الثلاثية، توقيع أعلن عنه السودان ووقفت خلفه الخرطوم بما يشبه الإنجاز السياسي والدبلوماسي الكبير في حسم خلافات متطاولة بين إثيوبيا ومصر- والسودان بدرجة أقل- حول الآثار السالبة للسد على دولتي الممر والمصب.
ورغم الإعلان السوداني والتأكيدات بوصول الرئيس المصري ورئيس الوزراء الإثيوبي للخرطوم اليوم (الاثنين) إلا أن غموضاً كثيفاً يحيط بالاتفاق المزمع توقيعه، الذي حرصت الدول الثلاث على إحاطته بدرجة عالية من السرية والتكتم بما يلقي بظلال من الالتباس حول ماهية ما سيوقع عليه الرؤساء الثلاثة اليوم. الأمر الذي يجعل التخوفات من سد النهضة والخلافات حوله تمسك بتلابيب المشهد في الدول الثلاث، وإن كان مجرد التوقيع في الخرطوم وبإشراف مباشر منها يُعد إنجازاً غير مسبوق قد يجنب المنطقة مخاطر الانزلاق في منازعات غير محمودة العواقب. ويصب في جانب تعزيز الدور السوداني في الإقليم والمنطقة بما يجعله لاعباً أساسياً في تقريب وجهات النظر وفي إطفاء الحرائق القائمة والمتوقعة.
{ التردد المصري
آخر ما يمكن أن تتعجل مصر في حسمه هو كل ما يتعلق بمياه النيل وما يمكن أن يمس بحصتها التي أقرتها اتفاقية 1955، لذلك ظل سد النهضة الإثيوبي من الملفات المصرية الخارجية الأسخن منذ الإعلان عنه. والآن ورغم أن قدوم الرئيس المصري “عبد الفتاح السيسي” للخرطوم لسبب معلن هو التوقيع على الاتفاق حول السد، إلا أن التردد المصري وربما التحفظ على التوقيع يظل قائماً وحاضراً بقوة بدليل أن “السيسي”- حسب وسائل إعلام مصرية- شكل لجنة أمرها بالاستمرار في دراسة الاتفاق، وإعداد صياغة بديلة تزيل التحفظات المصرية. بجانب ما نقلته تلك الوسائل المصرية بتخوف مصر من عدم التزام إثيوبيا بما يتم التوقيع عليه، في إشارة لتحفظ إثيوبيا على ما تسرب من تضمين الاتفاق بنداً ينص على التزام الدول الثلاث بما يصدر عن اللجنة الاستشارية الدولية التي تعكف على دراسة آثار السد، ومطالبتها بالنص على (احترام) الدول الثلاث- بدلاً عن (التزام)- بتوصيات اللجنة الاستشارية. وهو الأمر الذي دفع كثيراً من المراقبين هنا وهناك إلى التساؤل عن فحوى الاتفاق الذي سيوقع عليه الرؤساء في الخرطوم في ظل عدم حسم مصر أمرها حول نص الاتفاق الموجود حالياً الذي لم تتكشف تفاصيله، وإن كان ما تكشف هو استمرار التحفظ المصري حوله، خاصة وأن وزير الري الإثيوبي أكد لوسائل إعلام محلية إثيوبية عدم موافقة إثيوبيا في الاتفاق الذي وقع عليه وزراء خارجية الدول الثلاث على الالتزام بتنفيذ توصيات المكتب الاستشاري الدولي المنفذ لدراسات سد النهضة، نافياً تطرق الاتفاق للتحكم في السعة التخزينية للسد، قائلاً: (إن إثيوبيا لا يمكنها أن توافق على شيء من هذا القبيل).
{ اتفاق يلفه الغموض
 مدير كرسي الـ(يونسكو) للمياه بالسودان، المهتم بملف سد النهضة ومياه النيل بروفيسور “عبد الله عبد السلام” حين استطلعته (المجهر) عن رأيه في الاتفاق الذي سيتم التوقيع عليه حول سد النهضة، أكد أن الاتفاق محاط بالتكتم وأن من يعلم تفاصيله بالسودان لا يتجاوزون أصابع اليد الواحد، من بينهم الخبير في مجال المياه ووزير الري الأسبق د. “سيف الدين حمد”. ولأهمية الأمر طرحت (المجهر) ذات السؤال على د. “سيف الدين” وهو أحد أعضاء اللجنة الفنية السودانية المعنية بدراسة سد النهضة، فلم يتردد في التأكيد على حالة السرية والكتمان العالية التي فرضتها الدول الثلاث على الاتفاق بقوله: (لا أحد رأى هذا الاتفاق، فهو مغلق داخل أدراج مسؤولي الدول الثلاث ولم يتم الإعلان عن أي من  تفاصيله).. ولإغلاق الباب على مزيد من الاستفسارات أضاف د. “حمد”: (الدول الثلاث اتفقت على عدم الإفصاح عن الاتفاق وأن لا تتم إتاحته لأية جهة). وأنهى الأمر بأن هذه الاستفسارات يمكن أن نطرحها عليه إن قرر الرؤساء طرحها للرأي العام عقب التوقيع عليها، الأمر الذي يشي بأن التكتم قد يلازم تفاصيل الاتفاق حتى بعد توقيع القادة الثلاثة عليه.. هذا التكتم والغموض استنكره غالب الخبراء السودانيين في مجال المياه ومجال السياسة، حيث إن مدير كرسي اليونسكو د. “عبد الله عبد السلام” وصفه بالأمر الخاطئ في ما يتعلق بقضية تمثل أمناً قومياً للسودان لا يحتمل أن يكون سراً مخفياً عن الخبراء والمختصين.
{ استبعاد عدم التوقيع
حالة التردد المصري وما يبدو أنه عدم زوال تخوفاتها تجاه السد، دفعت كثيراً من الخبراء والمراقبين إلى عدم استبعاد امتناع مصر عن التوقيع على الاتفاق المطروح، إلا أن الناطق الرسمي باسم الخارجية السودانية “علي الصادق” استبعد بشدة تخلف الرئيس المصري عن التوقيع، مستدلاً بأن وزير الخارجية المصري وقع على الاتفاق مع وزيري خارجية السودان وإثيوبيا، وقال: (لا أعتقد أن وزير الخارجية المصري يعمل بمنأى عن رئيسه)، وأشار “الصادق” إلى أن الاتفاق التفصيلي سيتم إعلانه اليوم.
بالمقابل تساءل المحلل السياسي د. “خالد التيجاني” أشار إلى احتمال حدوث تراجعات مصرية عن التوقيع، لافتاً إلى أن الرئيس المصري شكل لجنة لمراجعة نصوص الاتفاق. وأكد “التيجاني” مطالبة مصر بضمانات تزيل تحفظاتها قبل التوقيع، لكنه استبعد استعداد إثيوبيا لتقديم هذه التنازلات، وقال: (عموماً مؤكد جداً أن هناك خلافات لم تحسم، الأمر الذي يدفع بالتساؤل حول ما يمكن أن يوقع عليه الرؤساء الثلاثة اليوم). ولا يخفي د. “التيجاني” تخوفه من تضرر السودان سياسياً ودبلوماسياً جراء ما يعدّه تسرعاً في الإعلان عن التوقيع قبل حسم الخلافات خاصة بين مصر وإثيوبيا.

{ حالة الأمر الواقع 
يبدو أن إثيوبيا، وتحسباً لأي خلافات يمكن أن تعيق إقامة السد الذي تعول عليه كثيراً في نهضتها، لم تتوقف إطلاقاً عن العمل في بناء السد رغم التحفظات والتخوفات المصرية لدرجة وصولها الآن مراحل بعيدة في إنجازه بنسبة يقدرها بعض الخبراء بـ(46%) من العمل الكلي، الأمر الذي يجعل التوقيع على اتفاق حوله أمراً حتمياً بتقديم كل طرف تنازلات تحفظ له حقوقه دون أن تمس بحقوق الآخرين. لذلك فخبير المياه بروفيسور “عبد الله عبد السلام” يصف الحديث عن إلزام الاتفاق المزمع توقيعه الدول الثلاث بتوصيات اللجنة الاستشارية الدولية بأنه (الجس البعد الضبح) باعتبار أن بناء السد قطع شوطاً بعيداً. ولم يخف “عبد السلام” تخوفاته من ضخامة حجم السد التي تجعل سعته (74 مليار متر مكعب)، الأمر الذي يشكل خطورة على السودان بالأخص ومن بعده مصر في حال تعرضه لأي تصدعات، وقال: (كنا نتوقع أن يضغط السودان ومصر أكثر على إثيوبيا حتى لا يكون السد بهذا الحجم)، وعدّ تحديد سعته تحديداً بـ(74 مليار متر مكعب) يعطي إشارة سالبة، إذ إن هذا الرقم يساوي بالضبط حصتي مصر والسودان في مياه النيل (55.5  ـ 18.5) وتساءل: (هل هذه رسالة إثيوبية أم نتاج دراسات علمية)؟؟
{ تخوفات ومعالجات ممكنة
كثير من المصادر في مصر والسودان تتحدث عن تفاصيل محددة للتحفظات التي ما زالت تقض مضجع الجانب المصري في مقدمتها ما تناقلته وسائل إعلام عربية عن كيفية ملء السد والفترة النهائية لملئه، ومدى إمكانية ملئه على مراحل زمنية وبكميات مياه محددة متفق عليها، وهو ذات ما نبه إليه خبير كرسي اليونسكو للمياه “عبد الله عبد السلام” بضرورة احتواء الاتفاق المطروح للتوقيع على كيفية ملء السد وطريقة تشغيله، وهو الأمر الذي أكدته تسريبات حول الاتفاق بأنه يطرح مقترحاً بصيغة لإدارة مشتركة للسد عقب تشغيله. وتمتد التخوفات المصرية إلى مدى إمكانية تأثر حصة مصر من المياه خلال فترة التعبئة، وهو تخوف يؤيده د. “عبد السلام” بأن الاتفاق المقترح حول سد النهضة قد يلغي اتفاقية 1959 حول مياه النيل. لكن ما رشح عن الاتفاق أنه راعى هذا التخوف بالتأكيد على تجنب الإضرار بأي طرف من خلال تشكيل لجنة فنية مشتركة ووضع قواعد فنية بموافقة خبراء الدول الثلاث لمنع وقوع أي ضرر بأية دولة عقب تشغيل السد. 

{ لا بديل للحوار والاتفاق
(ليس من مصلحة أية دولة التمترس حول مطالباتها، فالتنازلات أمر ضروري تجنباً لما يمكن أن نصل إليه من نزاعات).. هكذا حذّر الخبير بالشأن الإثيوبي سفير السودان الأسبق بأديس أبابا “عثمان السيد”، كما حذّر من الجنوح نحو الخلاف حول ملف السد، مؤكداً أن أي تعنت أو رفض للاتفاق حول سد النهضة سيجر الضرر على الجميع، وقال: (يجب قبول السد بحسن نية تجاه الجانب الإثيوبي وإلا قد يتضرر الجميع فأنا بخبرتي بشؤون إثيوبيا أعلم أنها لا ترغب في الإضرار بمصالح السودان أو مصر). ويلفت السيد إلى دور السودان الذي وصفه بالمتميز في إقناع مصر وإثيوبيا بالتوقيع على الاتفاق. وهو ذات الموقف الذي عبر عنه الأمين العام الأسبق للأمم المتحدة المصري “بطرس غالي” لوسائل الإعلام المصرية بمطالبته بأن يكون سد النهضة قاعدة انطلاق لبناء تعاون بين دول حوض النيل لتحقيق التنمية المستدامة، وأن لا يتحول لمحور للصراع والصدام، داعياً إلى معالجة خلافات السودان ومصر وإثيوبيا عبر الحوار، مؤكداً أن زيارة “السيسي” للسودان وإثيوبيا تعبر عن إستراتيجية جديدة تنتهجها مصر لتنمية وتطوير التعاون بينها وجاراتها من الدول الأفريقية. وعدّ “غالي” مخاطبة “السيسي” نواب البرلمان الإثيوبي- الأولى من نوعها- رسالة تأكيد على حرص مصر على فتح صفحة جديدة مع إثيوبيا واستئنافاً  لـ(العلاقات القديمة المتميزة) بروح جديدة قوامها الشراكة الإستراتيجية والمنافع المتبادلة.
{ إنجاز سوداني
وإن كانت حالة الغموض التي تحيط بالاتفاق قد حجبت بعض ملامح الجهد السوداني وإفلاحه في جمع الفرقاء المصريين والإثيوبيين في الخرطوم للتوقيع على اتفاق رغم حالة التحفظات والتخوفات المصرية وربما السودانية أيضاً، إلا أن عوامل متضافرة على رأسها أن السد أصبح واقعاً يحتم على الجميع التعامل معه، وأن مبدأ التقاسم المشترك لمنافع مياه النيل الذي يطرحه السودان هو الحل الأنسب للخلافات، بجانب أن المنطقة لا تحتمل أي شكل من أشكال التنازع والتخاشن بين دولتين من كبرى الدول الأفريقية.. كل هذا، وفي ظل هذه الضبابية المحيطة بتفاصيل الاتفاق، يجعل التوقيع بين الدول الثلاث على اتفاق حول السد الإثيوبي أمراً ملحاً ولا بديل له، الأمر الذي يصب في صالح أمن واستقرار المنطقة، ومن ثم في مصلحة الدور السوداني في المنطقة والإقليم.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية