الخرطوم تمد بصرها لأفريقيا الشرقية
حديث السبت
يوسف عبد المنان
أيام في أرخبيل القرنفل والزنجبيل
د. “الخضر” من أزمات الداخل إلى جزر القمر وشراكة اتحاد أصحاب العمل
شكل الانتماء الأفريقي للسودان ثغرة الضعف التي تسللت منها مشكلات وأزمات أدت لفقدان أرض المليون ميل مربع سابقاً لثلث تلك الأرض.. بينما أخذ انتماء السودان الثقافي للأمة العربية الكثير منه، وهو يدفع ثمن ذلك حصاراً، وضربات مباشرة من إسرائيل لبعض المنشآت.. وقديماً انقسمت الساحة الفكرية والثقافية والأدبية بين تيار للغابة وآخر للصحراء.. وتدثر الأخير بثياب السلطة التاريخية، وجلس الآخر على الرصيف.. وإذا كانت رمزيات أفريقية مثل “باتريس لوممبا”، و”جيلوس ناييرري” من قادة التحرر الأفريقي، و”نلسون مانديلا” و”أحمد سكتوري” و”كوامي نكروما” قد شكلوا حضوراً في مخيلة وذاكرة السودانيين، فإن “عبد الناصر” و”بن بيلا” و”عبد الكريم قاسم” في العراق.. و”رشيد رضا” والملك “سعود” و”أحمد بن بيلا” كان حضورهم في ذاكرة الشعب طاغياً، وفي سنوات خصب السودان الممتدة من السبعينيات وحتى النصف الأول من الثمانينيات تفتقت عبقرية الإسلاميين وهم يشاركون “جعفر نميري” الحكم قبل أن يغدر بهم ويغدرون به، إلى مد البصر لأفريقيا المسلمة، لأن الحركة الإسلامية في سنوات غرس زرعها في التربة السودانية كانت لها أبعاد أفريقية وفي قيادتها شخصيات مثل “مبارك قسم الله”، “وأحمد محجوب حاج نور”، و”أحمد الرضي جابر”، و”عبد الله دينق نيال”، ود. “الأمين محمد عثمان”، والبروفيسور “يوسف حامد العالم”، و”عبد السلام سليمان سعد”.. هؤلاء فكروا وقدروا أن قيام مركز إسلامي أفريقي في الخرطوم من شأنه تعويض الفاقد التاريخي لاهتمامات السودان بوطنه أفريقيا.. من خلال المركز الإسلامي الأفريقي ومن ثم جامعة أفريقيا العالمية الآن يعرف الصوماليون والتنزانيون والبورنديون والمدغشقريون.. والسنغاليون والماليون والبوركينيون السودان أكثر من معرفتهم ببلدان أفريقية عربية أخرى.. وأينما ذهبت اليوم لقطر في أفريقيا وجدت ثمرة غرس القيادات التي أنشأت المركز الإسلامي وجامعة أفريقيا قد أصبحوا قادة ووزراء.. ووزراء دولة ورؤساء.. ورسالة السودان نحو أفريقيا لا ينبغي لها أن تنحسر لمجرد انفصال الجنوب وذهابه إلى سبيله.. وفي أقاصي شرق القارة الأفريقية حيث الصراع الحضاري والثقافي بين الإسلام والفرانكفونية العلمانية المتدثرة بثياب المسيحية يتجلى من خلال بعض بلدان الساحل الشرقي من القاهرة الأفريقية، حيث الفقر قد أخذ قسطاً من راحته وأرخى سدوله على تلك الشعوب فنالت حظها من الشقاء والعسر في الحياة.. هبطنا صباح (الثلاثاء) الماضي دولة جزر القمر.. الشعب المنسي والجزر الصغيرة المتناثرة التي يجهلها العالم.. وينصرف عنها العرب والمسلمون.. والجزيرة الصغيرة تصلي بلسان عربي مبين.. وتتخذ من المذهب الشافعي مذهباً وحيداً يعرفه علماؤها.. وشعبها ونساؤها اللاتي يزغردن لمن يقرأ القرآن تجويداً.. وطائرة شركة (تاركو) البوينج تهبط مطار العاصمة القمرية مورني.. يتساقط المطر على الجزيرة الخضراء.. وحاكم ولاية الخرطوم د. “عبد الرحمن أحمد الخضر” ينوب عن الرئيس “عمر البشير” في دعم شعب من حقه علينا أن يتعلم.. ومن حقه علينا أن يشاهد التلفاز.. ويشفي الأطباء مرضاه.. ويبني المهندسون عمرانه.. ويزرع الزارعون الأرض الخصبة.. والأرخبيل الذي منه تحصد فرنسا مليارات الدولارات من العطور التي تأتي من تلك الجزيرة النائية التي تقع في آخر الدنيا.. وهامش الجغرافيا.
{ الخرطوم في مورني
جزر القمر، بفتح القاف كما يحب أهلها وليس بضمها كما ينطق بذلك السودان، تقع في سواحل شرق أفريقيا وشمال جزيرة مدغشقر وقيل إن الارتفاع الشاهق للجزر فوق سطح البحر جعل القمر أكثر بريقاً ولمعاناً، لذلك سميت بجزر القمر.. وتتكون من ثلاث جزر وجزيرة رابعة ضمنتها إليها فرنسا بوضع اليد والاستعمار الدائم حتى اليوم وكبرى الجزر القمرية هي (أنجازيجا)، حيث مقر رئيس الدولة والوزارات والسفارات الأربع فرنسا، السودان، السعودية وقطر.. والجزيرة الثانية هي (أنجوان) والثالثة (موالي)، وتعدّ الميناء أما جزيرة (مايوت) فقد اغتصبتها فرنسا وعدّتها جزءاً منها.. ومنحت سكانها من الوطنيين الجنسيات الفرنسية وسكان الجزيرة هم مزيج من السلالات الأفريقية والعربية والآسيوية لكنهم مسلمون بنسبة (98%) حسب تقديرات الغربيين و(100%) وفقاً لتقديراتهم هم، جميعهم شافعية ويتحدثون اللغة القمرية والفرنسية والعربية الأكثر شيوعاً في الأوساط الشعبية وتأثيراً.. وقد نالت الجزر الثلاث استقلالها عن فرنسا عام 1975م .. ولكن منذ ذلك الحين ظلت منسية يتوق أهلها للعرب والعرب عنهم في شغل باستثناء السودان والسعودية وقطر.. ومئات الموظفين في الدولة من خريجي الجامعات السودانية، وربما لهذا السبب أو لغيره وقف رئيس جمهورية جزر القمر في الأمم المتحدة ورفض علناً وجهراً استهداف المحكمة الجنائية للقادة الأفارقة، وقال لا لتوقيف المشير “البشير”.
وفي سنوات مضت مدت ولاية الخرطوم بصرها إلى تلك البلاد النائية مثلما نظرت لدولة تشاد أيام فقرها وعوزها قبل أن يغشاها البترول وتصبح تشاد اليوم قبلة لبعض من السودانيين في جزر القمر.. وضعت حكومة السودان لبنة صغيرة في حجمها.. كبيرة في مقاصدها.. أضفت ابتسامات الرضا وسط الآلاف من سكان تلك الجزر وأرخبيل شرق القارة السمراء.. اختارت ولاية الخرطوم أن تنهض نيابة عن حكومة السودان بأعباء أكبر مركز تدريب مهني في العاصمة موروني ليتعلم القمريين الحدادة والنجارة والصناعة وصيانة السيارات، والهندسة الميكانيكية، لتدريس (60) طالباً يتم تخريجهم بعد الحصول على درجة الدبلوم.. ويوم افتتاح المركز الذي يعدّ الأكبر للتدريب المهني في دول سيشل وموزمبيق وتنزانيا، وزنجبار، ويباهي رئيس دولة جزر القمر بوجود مركز الخرطوم للتدريب المهني، تداعى يوم الاحتفال آلاف الجماهير.. يرقصون ويهتفون.. وكل وزراء الحكومة.. وحاكم الجزيرة الأم كانوا حضوراً في الاحتفال.. الوفد السوداني الذي ضم “كمال إسماعيل” وزير الدولة بالخارجية، و”يحيى مكوار” وزير التربية والتعليم، ومن رجال الأعمال “فضل محمد خير” رئيس مجلس إدارة بنك الخرطوم و”فادي الفقيه” المدير العام للبنك و”هاشم محمد خير” و”صالح عبد الرحمن يعقوب” ممثلي اتحاد أصحاب العمل، إضافة لـ”هاشم التركي” وسفير السودان بجمهورية جزر القمر.. وقال د. “عبد الرحمن الخضر” والي الخرطوم إن حكومته قد نفذت مشروع مركز الخرطوم للتدريب المهني، ومشروع استزراع السمك البلطي في البحيرة الوحيدة بالجزيرة ذات المياه العذبة وتصلح لأسماك النيل إضافة لمساعدات تقنية لتلفزيون وإذاعة جزر القمر، وتقديم خدمات طبية وعلاجية، حيث تقوم الآن بعثة طبية من وزارة الصحة بولاية الخرطوم بتقديم خدمت لإنسان جزر القمر بإجراء ألف عملية عيون.. وتوزيع (5) آلاف نظارة مجاناً للمواطنين و(5) آلاف قطرة عيون، والكشف المجاني للمرضى، كل ذلك نيابة عن الحكومة الاتحادية وإنفاذاً لتوجيهات الرئيس “عمر البشير” بمساعدة دولة جزر القمر.
{ “إكليلو ظنين” والسودان
الرئيس القمري “إكليلو ظنين” يقيم في قصر متواضع جداً.. ومكتب أقل فخامة من مكتب معتمد مروي في الولاية الشمالية.. ويحيط بالمبنى الرئاسي الذي يتكون من غرف محدودة الزهور والنباتات العطرية ويتخذ من تلة مرتفعة جداً عن سطح البحر مقراً للرئاسة.. وقد أثنى “إكليلو” لدى استقباله الوفد السوداني يوم (الأربعاء) الماضي على السودان الذي يقف معهم كدولة محدودة الموارد ولا يزالون يتطلعون إلى مزيد من التعاون مع السودان، وطالب بإتاحة الفرص للأطباء القمريين للحصول على درجات التخصص في الجامعات السودانية، حيث يبلغ عدد الأطباء في الدولة (60) طبيباً، جميعهم أطباء عموميون ليس بينهم اختصاصي مطلقاً.. دولة يبلغ عدد سكانها (750) ألف تعتمد في علاجها على الأطباء العموميين.. وفي الحال تبرع والي الخرطوم بمنحة للأطباء القمريين بالتخصص في أمراض الباطنية والنساء والتوليد والعيون والجراحة ليشكلوا إضافة لوجود (750) طالباً من جزر القمر في كل الجامعات السودانية.. وتعهدت ولاية الخرطوم بتحسين سلالات الماعز والأبقار ومكافحة الآفات، ولإنقاذ القمريين حتى يتخصص الأطباء المقرر ابتعاثهم للسودان فإن حكومة ولاية الخرطوم ستساهم بابتعاث أطباء منها من حين لآخر لمساعدة القمريين.
{ المنار.. وتاركو.. ومليون دولار
شكل وجود أعضاء من اتحاد أصحاب العمل ضمن وفد ولاية الخرطوم الذي زار جزر القمر إضافة كبيرة لجهد الدولة، حيث تبرع رجل الأعمال “فضل محمد خير” بطائرة خاصة من شركته تاركو التي حاز مؤخراً على أكثر من (55%) من أسهمها، نقلت الوفد من الخرطوم إلى جزر القمر وتنزانيا.. وأنفق “فضل محمد خير” على الرحلة آلاف الدولارات، وأمام الرئيس القمري “إكليلو” تبرع بـ(40) منحة دراسية سنوياً في جامعته (المنار) للطلاب من جزر القمر لدراسة كل التخصصات الحديثة في الكلية.. ووجدت طائرة تاركو الثناء من أعضاء البعثة.. وطالبت دولة جزر القمر باستثمار الشركة في النقل الجوي بين موروني ودار السلام في تنزانيا والخرطوم، وتفتقت عبقرية رجل الأعمال “هاشم محمد خير” عن تكوين شركة مساهمة برأس مال مليون دولار يتم دفعها شراكة بينه ورجل الأعمال “صالح عبد الرحمن يعقوب”، لتقوم الشركة السودانية القمرية بمساعدة الدولة في تنفيذ مشروعاتها وتدريب القمريين على تقانة صناعة البترول، حيث ينتظر دخول الدولة الفقيرة مجال إنتاج البترول في السنوات القادمة.
وحينما تغنت فرقة (البالمبو) السودانية لجمهور القمريين في العاصمة موروني ويوم افتتاح مركز الخرطوم للتدريب المهني، رقصت الجماهير، وتغنت على الأنغام السودانية، ورسمت الفرقة الابتسامة على الوجوه.. وأزاحت عنهم الكدر والفاقة والعوز.. فشعب جزر القمر تجده جالساً في أرصفة الشوارع تلفه الحيرة والدهشة وترقب المجهول.. وعند زيارة الوفد السوداني لمقر هيئة الإذاعة وتلفزيون جمهورية القمر، تبدت مأساة الدولة وفقرها وحاجتها للدعم والسند والتلفزيون الرسمي بكاميراتين فقط وأستوديو من القرن الماضي.. وأصدر الوالي توجيهات لـ”عابد سيد أحمد” المدير العام لتلفزيون الخرطوم بتقدير احتياجات تلفزيون جزر القمر وتقديم الدعم والسند لهم.. في الوقت الذي طالب فيه القمريون بأن ينضم إرسالهم إلى تلفزيون السودان لبث برامج تلفزيون ولاية الخرطوم لمدة سبع ساعات في اليوم.
{ صور ومشاهد وحكايات
} جزيرة موروني العاصمة بها شارع وحيد يمتد طوله لأكثر من (100) كلم.. على جانبي الشارع المؤسسات الحكومية التي تسمى مفوضيات، مثلاً وزارة الداخلية هي مفوضية الشرطة وقائدها خريج كلية الشرطة وأغلب ضباطها درسوا في السودان.
} افتتحت ولاية الخرطوم مكتب (التوأمة) الذي يمثل السفارة الثانية بعد السفارة الرسمية.. يتولى المكتب الإشراف على المنشآت كالمعهد التقني الذي يقوم عليه نخبة من الفنيين والمهندسين.. وقد طلب حاكم العاصمة موروني من الوالي د. “عبد الرحمن الخضر” تقديم مساعدات للطلاب بإنشاء داخلية لاستيعاب الدارسين في المعهد حتى يتسنى للطلاب القادمين من بقية الجزر القمرية الدراسة، ووعد الوالي بالمساهمة في الداخلية، إلا أن الأراضي في جزر القمر يمتلكها الأهالي وليس الدولة وتكلف الإنشاءات مبالغ طائلة.
} لماذا لا تنهض وزارة التربية والتعليم بافتتاح مدرسة سودانية في جزر القمر على غرار المدرس السودانية في أنجمينا والإنفاق عليها لمساعدة القمريين، الذين هم في حاجة للتعليم ويعدّون السودان قدوتهم؟!
} أسندت ولاية الخرطوم للأستاذة “إخلاص التجاني” و”زينب محمد الحسن” اللتين تمثلان المرأة السودانية في الوفد بمراجعة كل حسابات مكتب التوأمة ومساعدته في أداء مهامه.. و”إخلاص التجاني” المرشحة لمنصب الوزير في ولاية الجزيرة يعدّونها القلب النابض لوزارة المالية.
} فرقة (البالمبو) التي تمثل جماع ثقافات السودان تعدّ الوجه التراثي والثقافي الذي يجد القبول من الأفارقة والعرب، فلماذا لا تصبح هذه الفرقة (رسمية) تتبع لرئاسة الجمهورية أو وزير الثقافة المركزي؟؟ وذلك لما للفرقة من مقدرة مدهشة في تطريب الأفارقة ودغدغة مشاعر الجمهور الذي تأخذه أجراس الموسيقى أكثر من مضمون الكلمات.
} جمهورية جزر القمر مقبلة على انتخابات في شهر يونيو القادم، والمتنافسون على رئاسة الجمهورية ثلاثة أحزاب رئيسية، لكن في استقبالات والي الخرطوم ومبعوث الرئيس “البشير” التقى المرشحون الثلاثة وهم يرافقون د. “الخضر” في زيارته، ولا تبدو بينهم حدة تنافس أو حالة استقطاب.
} الوفد الصحافي الذي كان في جزر القمر لتغطية الزيارة ضم الأستاذ “فتح الرحمن النحاس” رئيس تحرير (المستقلة)، و”أسامة عبد الماجد” (أخبار اليوم)، و”عبد الباسط إدريس” من صحيفة (السوداني)، و”هاشم القصاص” أمين الإعلام في المؤتمر الوطني، و”عابد سيد أحمد” المدير العام لتلفزيون ولاية الخرطوم.
} الوالي د. “عبد الرحمن الخضر” عقد مؤتمراً صحفياً مصغراً في مطار موروني، تحدث فيه في ختام الزيارة عن حصاد يومين من اللقاءات والاجتماعات، وقال إن السودان يمد يديه لإخوانه في أفريقيا، وأضاف: (لسنا دولة تنتظر فقط أن يقدم لها الآخرون.. نحن أيضاً نقدم للمحتاجين).
{ اتحاد عمال ولاية الخرطوم شارك في الزيارة لجزر القمر، وضم وفد الاتحاد “سيد أحمد الشريف” الأمين العام لعمال الولاية، و”أبو عبيدة أبو زيد” أمين المال، والأستاذ “محمد عبد القادر دارفور” مدير الإدارة العامة لتعليم الأساس بوزارة التربية.. وساهم اتحاد عمال ولاية الخرطوم بقدر في نجاح الزيارة، وقدم دعماً من العمال لصالح مشروع التوأمة.