أخبار

الفارس الأعزل

عاش في زمان غير زمانه ورحل عن الدنيا نظيفاً كيوم ولدته أمه.. “محمد عمر الفكي” كان عاملاً في مدرسة الحاجز المتوسطة.. يتلقى راتبه الوضيع آخر الشهر ليضعه برمته عند خزانة “التوم حامد” أكبر تجار البلدة.. يسدد نفقات طلاب المدرسة الفقراء.. ويجود بما تبقى لأصحاب الحاجات وهو الأكثر احتياجاً منهم.. في لحظة ما يصبح “محمد عمر” الشهير (بمدردم) أهم من ناظر المدرسة وجميع المعلمين.. يلجأ إليه الطلاب المعسرون ويلوذ بحضنه الخائفون.. ويطعم الجائع والمسكين من عشائه وينام على عنقريب صغير يدندن ببضع أغنيات “المردوم” ومدح الخيل وذكريات المعارك التي خاضها في صباه مع الحيوانات المفترسة من النمور والأسود والضباع ومغامرات في أعالي جبال النوبة.. وذكريات معارك خاضها دفاعاً عن نفسه وقبيلته (خزام) التي أنهكتها حرب (الناقة) في أقاصي دارفور فمزقت شملها وبعثرت قواها.. وفرقت بين الأخ وأخيه وأصبحت بعض بطونها يقطن دار الرزيقات وأخرى ديار البني هلبة وفي رمال دار حمر.. وبعضهم دفعته ثورة “المهدي” لنصرتها فتقطعت بهم السبل في الجزيرة أبا.. فما بلغوا الغرب عائدين حيث جاءوا ولم تطب لهم أم درمان التي استباحها الغزاة يوم سقوط “المهدية”..
قصص البطولة والشجاعة التي تسير بها الركبان عن حياة “محمد” (مدردم) جعلته منارة سامقة ورمزاً لا تخطئه العين.. تغنت بفراسته الشاعرة “خديجة الشباية”.. وكذلك “أم رخا الزريقة” و”زحيلية بنت السواق” و”فاطمة التومة بنت حسن”.. وآخريات من شاعرات بوادي الحوازمة.. و(الهدايين) وهم الشعراء الرجال.. عندما تصبح البطولة والشجاعة في كف والمال والثراء الفاحش في كف آخر.. فإن البطولة والشجاعة والمروءة والنخوة تميل كفتها لذلك كان “محمد عمر الفكي” فارساً شجاعاً اصطاد النمر والأسود في غابات جبال النوبة.. مغرماً بالخيول التي على نواصيها النصر والخير.. وهبه الله شجاعة وإقداماً وكرماً ومروءة ونقصاً في المال.. عاش حياته فقيراً.. ولكنه فقر غير مذل ولا فقراً يذهب بوقار الرجال في المجالس.. وجوده وإنفاقه على الآخرين من أسباب فقره.
يمتطي حصانه الأشقر.. يرتدي جلباباً أبيض ويحمل (حربة) وعلى ساعده الأيمن حجبات ويمشي زهواً في خيلاء وكبرياء.. وشموخ.. والخيل تصهل.. ونساء البقارة في ساحات الأفراح يرقصن النقارة في فرح.. و”محمد مدردم” يبشر ويهلل.. وشاربه الكث.. هو جزءٌ من شخصيته.. حينما يصغي لغناء الحكامات وهن شاعرات القبيلة.. يحمر وجهه الصبوح ويفور الدم في عروقه وتتبدل عيونه الحمراء يتطاير منها الشرر كان توأم روحه الآخر وزميل صباه وابن عمه الغائب “حسن” قد حملته الأقدار بعيداً عنه للأبيض أبو قبة، وبالمصادفة والغرابة.. كلاهما يعمل في وظيفة حارس الغائب “حسن” يصارع الأفاعي والحيوانات في غابة الأبيض وقد اختارته وزارة الزراعة لتلك المهمة لأنها اكتشفت فيه شجاعة الفراس وإقدام الرجال.. وتآلفت روح الغائب “حسن” و”محمد مدردم” حد التماهي والتشابه.. (مدردم) قصير القامة نحيف الجسد والغائب “حسن” طويل فارع.. شعره سبيبي يشبه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما يقول بذلك شقيقه الشيخ “حسن”.
في أحد الأيام هجم النمر على بضع نعاج تملكها امرأة من قبيلة كنانة ذات حسن وجمال.. وكنانة يقولون إنهم قرشيون ضلوا طريقهم إلى بلاد السودان.. احتمى النمر بغصون شجرة عرديب وارفة الظلال وتجمع سكان القرى والفرقان.. وزغردت النساء لدفع الشباب لقتال النمر والقضاء عليه.. كلما أقدم أحد على النمر المتوثب زأر.. واصطكت أسنانه.. وتأهب لمعركة في مواجهة خصمه.. جاء “محمد” (مدردم) ممتطياً حصانه.. زغردت نساء خزام وكنانة.. لقدوم الفارس.. لم يكترث كثيراً لحصانه تركه وأسرع يحمل على يده حربة.. وسكيناً.. وتسلق الشجرة.. وسط ذهول الناس وحيرتهم.. لف عمامته على يده اليسرى وواجه النمر مد إليه يده اليمنى.. حينما غرس النمر أسنانه باليد غرس (مدردم) السكين في عنق النمر سقط الاثنان من أعلى الشجرة على الأرض وانهال الرجال على النمر (فقتلوه) وزغردت الحسان لشجاعة (مدردم).. وسارت بركب واقعة النمر قوافل العرب ومجالس الحضر.
في أحد الأيام كان “محمد” خفير المدرسة يجلس على عنقريب صغير.. ومدير المدرسة المتوسطة بالحاجز أخذ في معاقبة الطلاب الذين سجلت لهم مخالفات سلوكية.. ومن بين هؤلاء الطلاب “علي الحبيب الهدي” الناشط حالياً في التجارة بمدينة الأبيض وهو ابن أخ الخفير “محمد” (المدردم) ضرب المعلم الطالب ضرباً موجعاً حتى نزف الدم من جسده فأخذه حاج “محمد” عصاه واتجه للمعلم الذي أطلق ساقيه للريح.. ولكنه في المساء اعتذر وعفا وصفح، كان “محمد الفكي” الشهير بـ(مدردم) مرحاً فرحاً يزرع الابتسامة في الوجوه العابسة كأنه يقتفي أثر “جبرائيل غارسيا ماركيز” القائل إن الموت لا يأتي مع الشيخوخة بل بفعل النسيان.. غادر الدنيا وترك بصمته وكلمته وأسرة مستورة بالعفاف وسمو الأخلاق والقيم الفاضلة.. وحب الناس ألا رحم فارسنا الأعزل “محمد عمر الفكي”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية