من "الخرطوم" إلى "واشنطن" سياسة الدبلوماسية الناعمة
“غندور” رجل المهام الصعبة
تقرير – نجدة بشارة
لم يُخفَ للعيان حجم الحراك الواسع للمشهد السياسي والتغييرات التي بدأت تطرأ على سياسات الحزب الحاكم في إدارة الحوار بالداخل والخارج، فيما يثار جدلاً في الساحة بين متقبل ومبارك ومشارك للخطوة، ومتشكك في عملية التغيير برمتها. ولا تزال الآراء متوجسة في التغيير الذي كان قد طال قيادات الصف الأول ومن الاختراق الكبير الذي أحدثه التغيير وقتها في سياسات المؤتمر الوطني، التي اتسمت ومنذ بواكيرها بالصلابة في تعاطيها.. ما يجعل برحيل منسوبيها في إدارة الدولة وقيادتها.
ووجد التغيير استحساناً واسعاً وسط شرائح المجتمع خاصة تلك التي ترفض التعصب والعفوية، فيما اعتبر البعض أن رياح التغيير لم تقتلع الخلافات حول إدارة الدولة من جذورها، وأن هذه الخطوة لها ما بعدها من تكهنات بعودة الصقور عقب هدوء العاصفة، إلا أن عاصفة التغيير تلك امتدت لتضرب ملفات شائكة في أجواء السياسة وتستقطب أحزاباً كانت قد أعلنت القطيعة مبكراً وتمردت منذ سنوات، إلا أن الخطوة التي جذبت شيخ “الترابي” عراب الإنقاذ الأول للعودة والجلوس في طاولة واحدة للحوار مع الفرقاء جعل البعض (يستقوي) رياح التغيير تلك، وتساءل الشارع السياسي عن صاحب العصا التي حركت البركة الساكنة وحرك المياه الراكدة لسنوات عجاف.
إن ما جذب انتباه المراقبين، تحركات مساعد رئيس الجمهورية بروفيسور “إبراهيم غندور” في قدرته على تهدئة الخواطر، ورأب التصدعات التي أحدثها الحزب الحاكم في مسيرته الربع قرنية.
وكان أن فاجأ الساحة السياسية عندما دخل العرين وأحدث تقدماً ملحوظاً في ملف دارفور بإعلانه توصله إلى اتفاق مع “موسى هلال”، وصفها محللون بأن وجود “موسى” في الخرطوم يعني استقرار المناطق الواقعة شمال دارفور.. ولتظهر دبلوماسية الرجل في اعتبار هذه الخطوة الأولى من نوعها ضمن محاولات الوطني لترضية الغاضبين.
وقال “غندور” وقتها إن هنالك استعداداً من قبل حزبه للجلوس مع كل غاضب وأن جلوسه مع “هلال” اعتراف ضمني بمطالبه، مؤكداً أنهم يفتحون صدورهم وعقولهم للآخرين.. بهذه الأريحية استطاع أن يلين جانب “هلال” ويدفعه إلى الداخل عقب خلافات ومراشقات طويلة.
ورغم لين الجانب إلا أن قوته ظهرت في مفاوضات “أديس أبابا” ورفضه تقديم أي تنازلات أو توقيع أي اتفاقية لا ترتقي لمطالب الشعب السوداني، متمترساً في الموضوعات التفاوضية التي تخص الشأن الأمني والقومي في جنوب كردفان والنيل الأزرق.
تم تجاوز قضايا الداخل ليحلق بمهارته عالياً إلى أمريكا ولتكن خطوته الأكثر إدهاشاً والأقوى جرأة منذ أن رفع المؤتمر الوطني شعاره ضد (أمريكا)، ولتفرض الأخيرة العقوبات التي قصمت ظهر السودان بالأزمات المتلاحقة اقتصادياً ويستمر الصراع البارد بينهما لزهاء الـ(25) عاماً.
نشطت التحليلات والتكهنات المتضاربة يمنة ويسرى بشأن مآلات مستقبل العلاقة بين الدولتين المتناحرتين وهل يستطيع رجل الدبلوماسية الأول بالوطني، أن يقتلع العصا من البيت الأبيض في زيارته الأخيرة.
وعن ما بعد هذه الزيارة وما يمكن أن تحققه من تهدئة للنفوس والخواطر السائرة هل سيفلح “غندور” في جذب تعاطف اللوبيات الأمريكية المختلفة، لترفع عقوباتها المفروضة على السودان؟ تبقى التساؤلات ويرتفع سقف التوقعات والآمال العراض وإعلان وزارة الخارجية السودانية عن وجود تفاهمات بين الحكومة والإدارة الأمريكية، حول عدد من القضايا وبين أطراف متعددة كانت قد تعمقت في قطيعتها للخرطوم.
وفتحت ملفات شائكة دون سقوفات ولم يستبعد وزير الدولة بالخارجية د.”عبيد الله محمد عبيد الله” إلى اتجاه “غندور” لمناقشة قضية استئناف الحوار بين الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال، بجانب مناقشة موضوع الانتخابات المزمع عقدها أبريل القادم واستكمال السلام في السودان، بالإضافة إلى ملف دارفور والحوار الوطني متوقعاً حدوث ما وصفه (بالذريعة) في مضامين هذه الزيارة.
واتجه بعض المحللين السياسيين إلى اعتبار ظهور السودان والدول الأفريقية مؤخراً بمظهر القوة في خطوتهم المطالبة والجادة، بإصدار قرار إنشاء محكمة أفريقية وإبعاد شبح سيطرة الدول العظمى، لينظروا في قضايا النزاع وحلحلتها بأنفسهم قد تكون الخطوة التي جعلت دول الغرب تلتفت إلى الدول الأفريقية وتنظر قوة شوكتها بعين الاعتبار، خاصة وأنه لم تبدأ أي فرص للتقارب بين حكومة الخرطوم وواشنطن كـ(العنقاء والغول)، ولكن خطوة رجل المهام الصعبة “غندور” قد تؤكد المثل الانجليزي (لا مستحيل تحت الشمس)، باعتبارها زيارة فوق العادة اكتسبت أهميتها من الأجواء المشحونة بين البلدين.
وكان وزير الخارجية قد عبر عن الاختراق الذي حدث في العلاقة بين البلدين، بأن السودان على عتبات الحوار الموضوعي والنظر إلى القضايا بالصورة المطلوبة من قبل.
فيما اعتبرت المتحدثة باسم الخارجية الأمريكية “ماري هارف” أن زيارة “غندور” تأتي لاستكمال المباحثات التي ابتدرها وزير الخارجية “علي كرتي”.
وتشير الأصابع إلى أن شخصية “غندور” تمتاز بالاعتدال والقدرة على الإقناع، والقدرة على الإقناع (أحد ركائز هندسة الدبلوماسية)، فيما لا تخلو من صرامة ودبلوماسية لينة ويراه آخرون بأنه رجل المفاجآت بالوطني في السياسة التي عرفت (بالغرف المغلقة)، خاصة في المقابلات التي يجريها مع القوى الأجنبية.
هذا الطبيب حسب مراقبين يرون أنه استطاع أن يشرح علل الإنقاذ ويجعل الحوار اللين بلسماً في وجه التغيير بذهنية التعامل البارد للأحزاب الداخلية في إدارة المسائل الوطنية المعقدة، حتى أن البعض أطلق عليه لقب رجل الدولة القومي في تفكيره وتوجهه، فهل يستطيع “غندور” أن يصنع المعجزة التي انتظرها الشعب السوداني طويلاً برفع العقوبات الأمريكية عن السودان بتطبيع العلاقات مع أمريكا، ووضع تغيير جذري في سياسة الحزب الحاكم هذا ما ستكشف عنه الأيام.