(المجهر) تغوص داخل إمبراطورية المشردين وتكشف المثير !!
ما بين المجاري وطرقات الأحياء العشوائية ..
شماسة الشوارع يحكون غرائب وأسرار عالمهم الخاص والغامض ..
شلليات تتجمع بمكب النفايات وتبيع جوالات من الكرستالات الفارغة عبر الكارو
أحدهم قال صارخا أبوي طردني من البيت واتخذت من السوق العربي ملجأً
متشردة تنجب ثلاثة أطفال من آباء مختلفين بينهم كفيف ومعاق
مجموعات تنام بالنهار وتتجول بالليل وأخري تتسكع بالأسواق وتتعاطي السلسيون
تحقيق – آمال حسن
قضية المشردين الذين يهيمون على وجوههم أثناء النهار وآناء الليل ليست بالجديدة، لكن موجة البرد التي ضربت أوصال العاصمة هذه الأيام ودفعت بالمواطنين للاحتماء ببيوتهم ينشدون الدفء ما جعل حركة المدينة كسولة، دفعت بنا أيضاً لتلمس أوضاع هؤلاء الذين يلتحفون الأرض ويتغطون بالسماء، وما إذا كانت هناك أيدٍ شفوقة قد امتدت إليهم وإذا لم يحدث ذلك كيف استطاعوا معايشة وتخطي هذه المشكلة المفضية للموت، ولعل هذا ما حدث فعلياً، فقد توفى أحدهم ممن يهيمون بمدينة “بحري”، ففي الوقت الذي حضنت كل أسرة صغارها واحتوته وهي تحاول حمايته من البرد ، بيد أنه وفي الوقت نفسه هناك أطفال ومسنين يقضون سحابة نهارهم ويبيتون في العراء دون أن يلتفت إليهم أحد اللهم إلا قلة ينتهي دورهم بانتهاء العلة.
(المجهر) اخترقت عالم المشردين وتقصت عنهم لمعرفة ما يدور في مملكتهم الخاصة وللتعرف علي معاناتهم مع الظروف والأجواء الراهنة خاصة خلال وبعد موجة البرد العاصف وبشق الأنفس ولحساسيتهم من الإعلام تحايلت عليهم وانتزعت منهم بعض الإفادات مستصحبة رأي علم الاجتماع.
الغطاء بالكراتين
سبق وأن أوردت إحدى المنظمات نشرة خاصة بها تؤكد مدى المعاناة التي يجدها المشردون سيما في فصل الشتاء بولاية الخرطوم، مستشهدة بصورة لعدد منهم كانوا يتغطون بجوالات الخيش وكراتين بالقرب من مطبعة بالسوق العربي، حيث قام (دفار) وفي تلك الحادثة الشهيرة بدهسهم، وفي التحري قال صاحب (الدفار) إنه لم يتوقع أشخاصاً داخل هذه الكراتين.
للتشرد أسبابه
تشرد الأطفال من المشاكل الاجتماعية والإنسانية، وقد تولدت نتاج متوقع للكوارث الطبيعية من جفاف وتصحر، وسني المجاعة التي فرضت النزوح على قبائل بأكملها من مناطقها الأصلية إلى مناطق أخرى، هذا بجانب الحرب الاهلية اللعينة التي كانت تدور رحاها لين الشمال والجنوب أو تلك التي تجري بالمناطق الطرفية في بعض مواقع المواجهات المسلحة بجبال النوبة والنيل الازرق ودارفور وكذلك ساعدت بعض السياسات التنموية على تفاقم المشكلة، نتج عن هذه الأوضاع مشاكل عدة اجتماعية واقتصادية أهمها الهجرة من الريف إلى المدينة بحثاً عن العمل والخدمات وهرباً من مناطق طاردة لم تعد مؤهلة للإعاشة، إضافة إلى اتساع دائرة الفقر وارتفاع تكاليف التعليم والصحة والخدمات، والتفكك الأسري بأشكاله المختلفة، كما تسببت الحروب الأهلية بالبلاد في زيادة النازحين إلى المدن خاصة العاصمة.
قصص مأساوية
(المجهر) وبعد جهد مضنٍ اقتحمت تجمعات بعض المشردين واستنطقتهم، وقال أحدهم يدعى “قاسم” لـ (المجهر) وهو يحمل في يده معدات الورنيش التي يسترزق بها ومن ريعها يصرف على أسرته بعد أن تم سجن والده بتهمة المخدرات لمدة (20) سنة ورحلت والدته إلى جبل أولياء، وكان عمر شقيقته الوحيدة (19) سنة وهي التي تساعده في تصريف أمور الأسرة التي تتكون من ثلاثة أفراد، وأضاف “قاسم” أنه تأقلم على شوارع الخرطوم ولا يستطيع ترك أصحابه الذين يجوب الشوارع معهم مهما كانت الظروف، لكن رغم هذا التآلف إلا إنه لم ينس والدته التي يسجل لها زيارة شهرية.
وقال “قا” في معرض حديثه إن جمعيات خيرية تقوم بتوزيع العشاء كل ليلة وأخرى تقوم بتوزيع بطاطين لهم، ولكن هناك جهات أحياناً تقوم بمصادرة هذه البطاطين.
طرده زوج أمه
ولـ “علي ع” رواية مأساوية تذهب إلى أن للأسرة ضلعاً كبيراً في تشرد أطفالها وهذا ما أكده في حديثه، إذ يقول إن زوج والدته هو السبب في تشرده لضربه المستمر له، وذات مرة بادله الضرب فقام الزوج بطرده وقال له بالحرف (ما تسكن معاي)، لذلك فأنا ما عندي ملجأ سوى السوق العربي ومجاراة المشردين.
وعن كيفية أكلهم قال “علي ع” إنهم يأكلون بقايا الطعام في المطاعم، وهناك منظمات وجمعيات توزع لهم الملابس والبطاطين لكنهم وفي كثير من الأحيان يضطرون لبيع الملابس الجميلة والبطاطين لشراء حاجيات أخرى ضرورية من وجهة نظرهم.
زواج إجباري
ورواية أخرى لفتاة دفعت بها تفاصيلها إلى الشارع فـ”سعاد ج” فتاة من “جنوب السودان” تركت منزل أسرتها بسبب إصرار شقيقها الأكبر على زواجها من شاب تمقته ما اضطرها للهرب لتصبح مشردة تساكن وتجالس وتتبع بل وتضاجع المشردين حتى بلغ بها الأمر إنجاب ثلاثة أبناء من آباء مختلفين كلهم متشردين، وزاد من عبئها وضاعف مأساتها إنجابها مشرداً كفيفاً وآخر معاقاً، وعندما سألناها عن ما إذا كان هؤلاء الأبناء يتلقون تعليماً ردت بأن هناك منظمة تسمى (الصباح) تقوم بتعليم المشردين وتمدهم بالأكل كل ليلة، ورغم أن “سعاد” لم تتلق تعليماً كافياً، لكن لكونها نشأت في بيئة متحضرة ونالت قسطاً من التعليم قبيل أن تصبح من بنات الشوارع استطاعت أن تعالج واحداً من الأطفال المتشردين عن طريق (الفسخ) وقد شفي تماماً.
زوجها مشرد
أما “صباح ف” وفي حديثها لـ(المجهر) قالت إنها غير مشردة، لكنها تقوم بمصاحبة زوجها المشرد يومين من كل أسبوع وهي تقطن بمنزلها بمنطقة (الأزهري) وتعمل بمنظمة خيرية براتب قدره (700) جنيه شهرياً ولها طفل عمره “عام واحد” تأخذه لوالده كل أسبوع، إلى جانب عدد من الأبناء الكبار يساعدونها في مراقبة إخوتهم الصغار عند خروجها للعمل، وأضافت “سعاد” وهي ممتعضة أن جميع محاولاتها لإرجاع زوجها للبيت باءت بالفشل ولأنها متمسكة به ولا تقدر على فراقه، فهي تذهب إليه تبيت معه يومي (الجمعة) و(السبت) من كل أسبوع.
عمتها فقأت عينها
نموذج آخر أسهمت الأسرة في طرده وتحويله لمتشرد فـ”خديجة ب” وفي روايتها لـ(المجهر) وهي تقص سبب لجوئها للشارع قالت أن أسرتها قست عليها بعد أن توفت والدتها، حيث اتهمتها زوجة والدها بعدم الانضباط الأمر الذي حدا بوالدها لطردها، وبعد فترة رجعت مجدداً لكنها تشاجرت مع عمتها وأثناء عراكهما قدت عينها وكان ذلك سبباً رئيسياً في فراق بيت أبيها نهائياً لتنضم لطاقم المشردين في الخرطوم، متخذة من (سينما أم درمان) قديماً بيتاً وملجأً لها.
علاج مجاني
“عائشة غ” أم مشردة تقول: إنها تزوجت من متشرد يرعاها ويمدها بالأطعمة نهاية كل يوم، وهو يعمل في نفايات محلية الخرطوم، ولفتت في حديثها إلى أن هناك جمعيات ومنظمات تقوم بتقديم العلاج المجاني لهم، أيضاً هناك عربات إسعاف تقوم بإسعاف الحالات الصعبة، وتسكن “عائشة” في العمارات تحت التشييد قرب محلية الخرطوم.
الباحثة الاجتماعية الأستاذة “ثريا إبراهيم الحاج” قالت في حديثها لـ(المجهر) إن شريحة الأطفال تتأثر بالإفرازات والأوضاع أنفة ذكرها، وذلك لصغر سنهم وضعف بنيتهم واعتمادهم الكلي على الكبار في توفير احتياجاتهم ومتطلباتهم في توفير المأوى والكساء والرعاية الصحية والتعليمية والاجتماعية والنفسية، وبما أنهم لا يجدون هذه الرعاية والحماية من ذويهم، فإن الكثيرين منهم يصبحون عرضة لانتهاك حقوقهم والتعرض للعنف بجميع أشكاله.
وعرفت “ثريا” المشرد بأنه الطفل المعرض للخطر بسبب وجوده في بيئة تعرض سلامته الأخلاقية أو النفسية أو الجسدية أو الحماية الأسرية والمجتمعية كلياً أو نسبياً ذكراً كان أم أنثى دون سن الثامنة عشر والذي عجزت أسرته ومجتمعه عن إشباع حاجاته الأساسية والجسمية والنفسية والثقافية كنتاج لواقع اجتماعي تعيشه الأسرة في إطار مناخ اختيار حقيقي.. وفي الشارع يمارس أنواعاً من النشاطات لإشباع حاجاته من أجل البقاء مما يعرضه لأخطار صحية ونفسية ومجتمعية.
وقسمت الباحثة الاجتماعية “ثريا” أطفال الشوارع إلى أربع مجموعات وهم الأطفال الذين يبحثون عن مصدر للبقاء والمأوى، والأطفال الهاربون من أسرهم ويعيشون في جماعات مؤقتة أو منازل أو مبانٍ مهجورة أو ينتقلون من مكان لآخر، والذين لا يزالون على علاقة مع أسرهم لكنهم يقضون معظم اليوم في الشارع بسبب الفقر أو تزاحم مكان المعيشة مع الأسرة أو تعرضهم للاستغلال داخل الأسرة.
أما الأطفال في مؤسسات الرعاية الاجتماعية فهم ما زالوا يصرون على العودة إلى الشارع مجدداً، واستطردت يختلف هؤلاء الأطفال من حيث تصنيفهم وذلك لاختلاف أسباب وجودهم في الشارع من أسرة لأخرى ومن إقليم لآخر، كما تتباين أعمارهم وأعمالهم ونشاطاتهم التي يقومون بها ويختلفون من حيث مستوياتهم التعليمية وقدراتهم واحتياجاتهم، كما يوجد تعدد ثقافي وأثني كبير بينهم.