تقارير

الاستقلال بين مصالح الحزبين الكبيرين … بحث عنّا أم بحثنا عنه

 نظرة من زوايا مختلفة
تقرير- عقيل أحمد ناعم
كل الأمم تحتكم إلى حد أدنى من المسلمات والمتفق عليه من الثوابت، ولاغرو أن تكون أهم قضايا السيادة الوطنية هي الأحق بالتوافر على قدر من الاتفاق أقرب للقداسة. ولعل ملف استقلال السودان هو الأجدر بذاك الاتفاق ـ على الأقل حول حقائقه التاريخية ـ والأدعى لإبعاده عن ساحات الاختلاف والخلاف التي وسمت مسيرة الحياة السياسية السودانية. ولا شك أن الاستقلال  من  أهم الأحداث التاريخية  التي  عاشها  السودان، ولكن الواقع يحكي أن الاستقلال الذي ظلت الأجيال تتغنى به باعتباره العمل البطولي الأعظم لساسة السودان ينطبق عليه قول “الفيتوري” (الجاهل من ظنّ الأشياء هي الأشياء)، ورغم أنه من الظلم تجريد هذا الحدث الضخم  بدءاً من كونه إنجازاً، ومن كونه عملاً بطولياً،  إلا أنه وبعد (59) عاماً من جلاء دولتي الاحتلال عن السودان تأبى الأسئلة الصعبة إلا أن تطل برأسها: هل كان الاستقلال عملاً مقصوداً لذاته، وهدفاً تم التخطيط له وبذل الجهد لتحقيقه، أم أنه كان بعيداً عن أذهان ساسة ذلك الزمان خاصةً الحزبين والطائفتين الكبيرتين، وأن ظروفاً دولية تضافرت مع عوامل داخلية لا علاقة لها باستماتة السودانيين طلباً للتحرر، جعلت الاستقلال يتدحرج في (حِجر) أحزاب ذلك الزمان، أو حولته من خيارٍ بديل إلى خيار الأمر الواقع؟
         نشوء القوى التقليدية
بعيداً عن المغالطات التاريخية، وفي ظل الصراع بين دولتي الاستعمار بريطانيا ومصر  لا يمكن إغفال أن نشوء ورعاية الحزبين الكبيرين تمت على يدي القوتين المستعمرتين. الأستاذ “سليمان صديق” الباحث في التاريخ السوداني والمهتم بالتخطيط الإستراتيجي، يؤكد أن الوقائع التاريخية تثبت أن حزب الأمة أنشأته  الحكومة البريطانية  بعد أن أتت بالسيد “عبد الرحمن المهدي”، ووفرت له الدعم المادي والمعنوي، في سبيل تحجيم تأثير الحركة الاتحادية التي ترعاها مصر بشكل مباشر. وهو الأمر الذي نسج على منواله الأستاذ الجامعي والباحث التاريخي البروفيسور “محمد زين العابدين” أحد أبرز قيادات الاتحاديين ورئيس المكتب السياسي للحركة الاتحادية، مؤكداً أن حزب الأمة تم إنشاؤه بإيعاز من الحاكم العام البريطاني  لمواجهة الحزب الاتحادي، إلا أنه أقر في ذات الوقت  بأن مصر  كانت الراعي الأساسي للحركة  الاتحادية، وأن الرئيس المصري “محمد نجيب” هو الراعي الأساسي لتوحيد كافة القوى الاتحادية في حزب واحد هو الحزب الوطني الاتحادي صاحب الأغلبية في أول انتخابات نيابية. هذه الوقائع تسهم في فهم الأحداث اللاحقة التي انتهت بإعلان استقلال السودان.
  الاستقلال لم يكن في البال
من أبرز الإحداث التاريخية قبيل الاستقلال هي انتخابات الحكم الذاتي في 1953م والتي اكتسحها الوطني الاتحادي بزعامة “إسماعيل الأزهري”، وحتى لحظة قيام هذه الانتخابات كان تفكير القوى السياسية السودانية الكبرى يتركز على فكرة الحكم الذاتي للسودان، دون التطرق لفكرة الاستقلال عن دولتي الاستعمار، فالوطني الاتحادي كان يتحدث صراحةً عن الاتحاد مع مصر، بالمقابل كان يتحدث حزب الأمة عن توطيد العلاقة مع بريطانيا.
القوة الثالثة
وحتى لا يكون الأمر كأنه تجريد للقوى السودانية  من فضيلة النضال ضد المستعمر لابد من ذكر حقيقة أن هناك قوة ثالثة  كانت بمعزل حتى بعد قيامها بفترة من الزمن عن الطائفتين الكبيرتين، وهي مجموعة مؤتمر الخريجين التي نشأت كمجموعات ثقافية واجتماعية، وما لبثت أن انغمست في السياسة بدفع من تأثرها بحركات التحرر المختلفة  فأعلت من المطالبة بالاستقلال، إلا أن الباحث في التاريخ وخبير التخطيط الإستراتيجي “سليمان صديق” لفت إلى أن القوى التقليدية سرعان ما احتوت مجموعة مؤتمر الخريجين، خاصة بعد أن تفاجأ (السيدان.. علي الميرغني و”عبد الرحمن المهدي”) بنتائج الحزب الوطني الاتحادي في انتخابات الحكم الذاتي،  بدعم مباشر من الحكومة المصرية حينها بقيادة “محمد نجيب”.
عوامل ظهور مطلب الاستقلال
في ظل ما ذكرنا عن عدم بروز فكرة الاستقلال لدى الحزبين الكبيرين، في وقت لملمت فيه الحرب العالمية الثانية أطرافها تاركةً (الإمبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس)، وقد خارت قواها وأصبحت منهكة وعاجزة عن الإحاطة بمستعمراتها المترامية، وبالتزامن مع هذا الوضع برزت أحداث خارجية مرتبطة بالحزبين الكبيرين ومؤثرة بشكل كبير على مواقفهما، أولاها موقف الحكومة الجديدة في مصر ـ بعد سيطرة “عبد الناصر” عليها ـ  تجاه  السودان وبقائه تحت الحكم المصري، فقد كان واضحاً أن رؤية “عبد الناصر” كانت مختلفة عن رؤية الحكم الملكي وزاهدة في بقاء السودان تحت السيطرة المصرية. والعامل الآخر المهم والمؤثر جداً في مصير السودان هو بروز الدور الأمريكي لأول مرة  في الأوضاع السودانية وسعيها نحو  مصالحها في المنطقة على حساب السودان، من خلال إبرامها صفقة بين دولتي الاستعمار قضت بمنح أمريكا امتيازات ملاحية واسعة في البحر الأحمر وقناة السويس، مقابل تنازل بريطانيا لمصر عن السودان. تشكل هذه الأحداث وتفاعل القوى السودانية الرئيسية معها جعل المطالبة باستقلال السودان تطل برأسها بشكل عملي.
موقف الحزبين… وتنصيب “المهدي” ملكاً 
الوقائع السابق ذكرها كان وقعها جلياً على الحزبين الكبيرين، وردة الفعل الأقوى كانت من حزب الأمة الذي أثار غضبه (منح) بريطانيا السودان لمصر التي يكل لها حزب الأمة كثيراً من العداء. ويروي الباحث والإستراتيجي “سليمان صديق” عن “جراهام توماس” مؤلف الكتاب الشهير ( السودان.. موت حلم)، أنه زار السيد “عبد الرحمن المهدي” في بيته ووجده غاضباً أشد الغضب من الصفقة (الثلاثية)،  معتبراً أن بريطانيا خذلته بتركها السودان لمصر، وبتخليها عن وعدها له بتنصيبه ملكاً لدولة السودان المرتبطة بوثاق قوي مع بريطانيا، وهذا ما أكده أيضاً البروفيسور “محمد زين العابدين” الذي اعتبر أن مطالبة حزب الأمة بالاستقلال كانت مدفوعة ومستمدة من الوعد البريطاني بتتويج السيد “عبد الرحمن” ملكاً على الدولة الوليدة، ولاحقاً أصبحت مطالبتهم بالاستقلال نكايةً في مصر حتى لا تستأثر بالسودان. وبدأت مواجهة حزب الأمة للتوجه الجديد الذي فرضته الصفقة الثلاثية مع زيارة الرئيس المصري حينها “محمد نجيب” للسودان التي كانت تهدف لترويج ومباركة صفقة تبعية السودان لمصر واتحاده معها، فكانت أحداث مارس الشهيرة التي تزامنت مع زيارة “نجيب”. بالمقابل تبدل موقف الحزب الوطني الذي كان متمسكاً بالوحدة مع مصر في ظل الرعاية الكبيرة التي كان يسبغها على الحزب الرئيس “نجيب”، وطرأ  التبدل عقب إبعاد جمال عبد الناصر” لمحمد نجيب، وأسهم موقف الإدارة البريطانية في السودان الذي كان مختلفاً مع توجهات الحكومة البريطانية القاضية بترك السودان لمصر، أسهم في إجبار الوطني الاتحادي على الميل نحو الاستقلال بدلاً من الوحدة مع مصر. وجاء الضغط عبر ورقة التمرد الذي انتظم جنوب السودان حينها، الأمر الذي أقنع الاتحاديين بأن كلفة الاتحاد مع مصر باهظة للغاية، وفي هذا يؤكد بروفيسور “زين العابدين” أن المصريين لازالوا حانقين على الاتحاديين بدافع شعورهم بأن الاتحاديين خذلوهم بتوجههم نحو الاستقلال. ويروي “زين العابدين” أنه التقى قريباً بأحد أبرز قادة المخابرات المصرية وهو نائب رئيسها السابق “أحمد رجب”، وقال: (تحدث معي بمرارة عن الاتحاديين وعن ما يعتبره خذلانهم لمصر). وأضاف “زين العابدين”  قال لي رجب نصاً  (إحنا مشكلتنا مع بتوع “الأزهري” مش مع بتوع “الميرغني”). ويبرر “زين العابدين” تبدل موقف الاتحاديين من الوحدة مع مصر بقوله: (الاتحادي غير موقفه من الوحدة مع مصر لانعدام الظروف الموضوعية للوحدة عقب ضرب “عبد الناصر” لنجيب راعي الاتحاديين وموحد الأحزاب الاتحادية). ولفت إلى أن “الأزهري” تحسس واستقرأ مواقف الاتحاديين فوجدها تميل للاستقلال .
كل هذه العوامل مجتمعة جعلت الصوت الأعلى والموقف الأبرز هو توافق الحزبين الكبيرين على المطالبة باستقلال السودان، فكان إعلانه من داخل البرلمان باقتراح من قبل حزب الأمة وتثنية ومساندة حزب الأغلبية  الوطني الاتحادي.
        القوى   الحديثة  والحفاظ على الاستقلال
رغم كل شيء فإن  السودان انعتق من ربغة  الاستعمار ونال حريته، ولكن يظل التحسر  يكسو  وجه  كل سوداني  على عدم حفاظنا على ذاك الاستقلال، لدرجة أن بعض المحبطين يرددون (ليت المستعمر لم يخرج). ومعلوم أن الأحزاب التي عاصرت  الاستقلال تتحدث دائماً أنها لم تجد الفرصة الكافية لتثبيت  قيم  الاستقلال وترسيخ معانيه، ولا تفوت الفرصة في تحميل مسؤولية إعاقة تطور السودان ما بعد الاستقلال للقوى الحديثة (اليساريين والإسلاميين)، وهو ما أكده القطب الاتحادي بروفيسور “زين العابدين” بقوله: (هذه القوى كانت المعول الأساسي في تهديم معنى وقيم الاستقلال، لافتاً إلى أن هذه القوى وقفت وراء الانقلابات العسكرية التي شهدتها حقبة ما بعد الاستقلال. وقال: (هؤلاء أوقفوا مسيرة التطور الطبيعي للديمقراطية وحجر عثرة في وجه تأسيس الاستقلال)، واعتبر أن أزمة السودان سببها النخبة المتعلمة سواء كانت مدنية أو عسكرية،  ووصم (المثقفين) بأنهم يتبنون أفكاراً مخالفة لأفكار الشعب. ولم يختلف الباحث والقيادي الإسلامي  “سليمان صديق” عن رؤية بروفيسور “زين العابدين” كثيراً، مشيراً إلى أن القوى اليسارية كانت مرتبطة بشكل أساسي بـ(الإمبراطورية) السوفيتية، في حين أن القوى الإسلامية كانت تتجه ناحية العالم العربي، إلا أنه أكد أن الإسلاميين أفضل في التوجه الوطني من اليساريين.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية