السفير "مصطفى مدني" يفتح حقيبة الذكريات لـ(المجهر) (2-2):
“المحجوب” أقنع “عبد الناصر” بالانسحاب من (حلايب) لولا تدخل وزير داخليته “زكريا محيي الدين”
الدبلوماسية السودانية فقدت إبداعها القديم وطموحاتها
في قمة (اللاءات الثلاث) احتج “عبد الناصر” لأن (السرير) كان أقصر من قامته
عندما أنشأنا القسم السياسي بالخارجية لم تكن به ولا ورقة واحدة
حوار – مي علي
{ قلت إن استضافة الخرطوم للقمة العربية كانت في حد ذاتها نجاحاً.. كيف نجح السودان في إقناع كل أولئك الرؤساء والملوك العرب للاجتماع في ذلك الوقت الحرج؟
_ السودان كان في وضع ديمقراطي أفضل وليس له عداءات لا مع “عبد الناصر” ولا الملك “فيصل” ولا مع لبنان. ولم يكن من المناسب عقد المؤتمر في أية دولة أخرى غير السودان، فهو الدولة الوحيدة التي لم يعترض أحد على الحضور والمشاركة في القمة التي يحتضنها، وهذا هو الإنجاز- الإجماع العربي على الخرطوم- كان حضور القادة العرب كاملاً فحضر الملك “حسين”، “بومدين”، أمير الكويت والملك “فيصل”.
{ وكيف تمت المصالحة بين “عبد الناصر” والملك “فيصل”؟
_ مصالحة “عبد الناصر” والملك “فيصل” هي الحل العظيم الذي خرجت به قمة الخرطوم والسبب الأساسي لنجاح القمة، فقد قاد “المحجوب” جهوداً جبارة لعقد تلك المصالحة، بدأها بدعوة الملك “فيصل” والرئيس “عبد الناصر” قبل انعقاد المؤتمر بيوم في منزله على وجبة العشاء. وروى لنا “المحجوب” أنه عندما ذهب لدعوة الملك “فيصل” في جدة للحضور إلى المؤتمر رفض الملك الدعوة في بادئ الأمر غير أن “المحجوب” نجح في إقناعه، وكان هذا هو الاختراق الحقيقي في المؤتمر. وفي الجلسة الافتتاحية للقمة قدم الرئيس “عبد الناصر” الملك “فيصل” لاختيار من سيرأس القمة.. كما أن الأزهري و”المحجوب” هما اللذان أقنعا الرئيس الجزائري “بومدين” لدفع تكلفة الجسر الجوي لحمل الأسلحة الروسية لـ”عبد الناصر”.
{ وماذا عن جهود السودان المادية؟
_ السودان في ذلك الوقت لم يكن يمتلك حتى قيمة إيجار الفنادق للضيوف.. أذكر أن الرئيس “جمال عبد الناصر” وجد أن السرير في مقر إقامته بفندق السودان كان (قصيراً) وطلب أن يتم استبداله، ولم نجد له سريراً آخر بطول قامته حتى تصرف أحد الضباط وجلب سريراً طويلاً من منزله.
{ كيف كان “محمد أحمد المحجوب” يدير وزارة الخارجية؟
_ كان يحضر إلى الوزارة عند الثامنة صباحاً، وكان يعد لنا الشاي بنفسه، وكانت العلاقة التي تجمعنا به نحن كناشئة السلك الدبلوماسي علاقة أبوة.. مثلاً أذكر “كوامي نيكروما” عندما كان يحضر إلى “المحجوب” في اجتماعات الدول المستقلة في غانا كان “المحجوب” يحيطنا علماً بكل ذلك.
الآن رئيس الرابطة الدبلوماسية ومنذ تكوينها قبل أربعة أشهر لم يتمكن من مقابلة الوزير حتى الآن بالرغم من أن موضوع المقابلة يمكن أن يكون في غاية الأهمية.. الدبلوماسية الآن أعتقد أنها فقدت إبداعها القديم وطموحاتها.
{ أين كان موقع الوزارة في بداياتها؟
_ كانت تقع على شارع النيل قبالة (جنينة السيد علي)، وكان المبنى منزلاً للسكرتير العام الإنجليزي قبل الاستقلال، وكان الموظفون في باقي الوزارات يتندرون علينا ويقولون لنا إن مكاتبنا في (إسطبلات السكرتير العام). وأذكر في مرة كان لنا صديق يتمتع بحس الفكاهة، وشاءت الظروف أن يعود السكرتير العام الذي كان قد انتدب للعمل في نيجيريا بعد استقلال السودان، عاد مرة أخرى للخرطوم في طريقه إلى إنجلترا، فقال لنا صديقنا ساخراً: (هيا أخلوا للرجل بيته).
{ كم كان عدد الدبلوماسيين في الرئاسة؟
_ كنا اثنا عشر شخصاً.. كنا في القسم السياسي ثلاثة أشخاص.. عندما بدأنا العمل فيه لم تكن به ولا ورقة واحدة.. كنا نأتي في الصباح الباكر ونقوم بتلخيص التقارير الوافدة من السفارات الخارجية، وفي المساء نحضر مرة أخرى لتلخيص الملفات المهمة في القضايا الكبرى في العالم ونقوم بوضعها في ملفات. كما قمنا بإنشاء المكتبة السياسية. تقارير السفراء في الخارج كنا نقوم بتلخيصها ونرسلها للوزير الذي طلب منا لاحقاً ألا نلخّص تقارير “جمال محمد أحمد” و”التني” لأنها (حلوة) حسب وصف “المحجوب”.
{ مع بداية الدبلوماسية السودانية ظهرت قضية (حلايب) في العام 1958.. ماذا فعلت الخارجية وقتذاك إزاء هذا الملف المستمر حتى الآن؟
_ في العام 58 كنت ما زلت في الرئاسة في القسم السياسي.. عندما دخل الجيش المصري أرض (حلايب) تحرك رئيس الوزراء “عبد الله خليل”، وتم إيفاد “المحجوب” إلى القاهرة للحديث مع “عبد الناصر”، وفي حال لم تحل المشكلة يتم رفع شكوى للأمم المتحدة، وهو ما حدث، لم تُحل ورفعت الشكوى التي تجدد سنوياً، لكن الشاهد أنه وطيلة عملي كمندوب للسودان في الأمم المتحدة لم يطلب مني تجديد تلك الدعوة.
{ على الرغم من العلاقات الوثيقة التي كانت تربط “عبد الناصر” بالسودان إلاّ أنه لم يضع حداً لمشكلة (حلايب) في بداياتها؟
_ سأقول لك شيئاً لم يكتب قبل الآن.. كانت تجمعني علاقة وثيقة مع “المحجوب” منذ أن كان يأتي لزيارة أبنائه الذين كانت تربطني بهم علاقة صداقة في بريطانيا، وتطورت العلاقة قبل الاستقلال وعندما التحقت بالعمل في وزارة الخارجة وكان هو وزيراً للخارجية أصبحنا أصدقاء.. بعد عودته من مهمة حل مشكلة (حلايب) مع المصريين ذهبت لزيارته في منزله، وقال لي: (تعرف يا ابني عندما ذهبت لمقابلة عبد الناصر كنت أجلس أنا وعبد الناصر ومعنا وزير الداخلية المصري زكريا محيي الدين، وبعد أن طرحت أمامه المشكلة كان عبد الناصر مرناً وقال لي بالحرف: خلاص يا محجوب ما فيش مشكلة، هو نحن ح نعمل مشكلة مع السودان في حاجة بسيطة، اعتبر الموضوع محلول– الحديث لعبد الناصر– قال لي المحجوب في هذه اللحظة تحديداً التي قال لي فيها عبد الناصر إن الموضوع محلول، أخرج زكريا محيي الدين سيجارة وأعطى عبد الناصر أخرى ونفث من سيجارته دخاناً كثيفاً وقال مخاطباً عبد الناصر: يا ريس أنا ح أقول للشعب المصري أيه؟ نحن دخلنا حلايب قلنا دي أراضينا، لما نطلع منها أقول للشعب أيه كنا بنهزر.. واستمر “زكريا” في حديثه لـ”عبد الناصر”: أنك إذا أردت مجاملة المحجوب فليكن ذلك بطريقة تانية).
قال لي “المحجوب” إنه ومنذ تلك اللحظة تغيرت الأمور في الاتجاه الآخر، وقال له “عبد الناصر”: نترك الحديث في القضية هذه لوقت آخر.. وهذه الرواية لأول مرة تخرج للعلن وهي على ذمة “المحجوب” رواها لي بصورة شخصية. حتى أن التقرير الرسمي الذي قدمه “المحجوب” أمام مجلس الوزراء لم يتضمن تفاصيل المقابلة التي جمعته بـ”عبد الناصر” و”زكريا محيي الدين”.. وهي لسوء الحظ أصبحت قضية معقدة جداً.
{ وماذا عن اتفاقية مياه النيل بين مصر والسودان؟
_ أذكر في عام 1958 وكنت سكرتيراً أول جديداً في القاهرة، بعثت لنا (حكومة عبود) برقية تفيد بأن وفداً من الحكومة سيأتي للقاهرة، وأيضاً كتبت لنا الحكومة المصرية أن المفاوضات بين الجانبين ستشمل اتفاقية مياه النيل والحدود المشتركة.. ويبدو أن المصريين أرادوا استغلال ضعف (حكومة عبود) في ذلك الوقت لتمرير مسألة الحدود هذه، لكننا كدبلوماسيين رفضنا ذلك تماماً وأخطرناهم بأن وفد السودان يأتي لمناقشة اتفاقية مياه النيل واتفاقية التجارة فقط، وأن موضوع الحدود المشتركة هذا ليس محله، وأعتقد أن ذلك كان عملاً دبلوماسياً مميزاً. وقمنا بإرسال برقية إلى الخارجية المصرية أكدنا لهم فيها أن هذا هو موقفنا الثابت، وأرسلنا نسخة من البرقية لحكومتنا في الخرطوم وطلبنا منهم أن يكونوا منتظرين ومستعدين.. رفضت الخارجية المصرية سحب طلبها، وأصبح الوضع معقداً جداً وكتبنا لخارجيتنا وطلبنا منهم ألا يأتوا إلا عندما يسحب المصريون مسألة الحدود، وخاطبنا الخارجية المصرية مرة أخرى وقلنا لهم إن الوفد السوداني لن يأتي ما لم يتم سحب المطلب المصري، وردوا علينا للمرة الثانية بأنهم لن يسحبوا طلبهم.
وكانت لدينا علاقة بمكتب الرئيس “عبد الناصر”، وذهبنا أنا ومعي المستشار بالسفارة “محمد ميرغني” وشرحنا لشخص بالمكتب تعنت الجانب المصري وتمسكهم بمسألة الحدود، وقام بنقل الأمر إلى الرئيس “عبد الناصر”، وفي الساعة الثانية عشرة منتصف تلك الليلة اتصل بنا ذلك الشخص وقال لنا إن الرئيس قد وافق على سحب مسألة مطلب الحدود وسيبلغ وفده به صباح الغد. وبالفعل في صباح اليوم التالي اتصلت بنا الخارجية واستدعت سفيرنا وأبلغته رسمياً بأنهم سحبوا بند الحدود المشتركة من المفاوضات. وجاء السفير وأخبرنا بموافقة المصريين بسحب موقفهم، ولم نخبره بما قمنا به وأصلاً لم نكن نظن أن محاولتنا ستنجح.. وجاء الوفد السوداني بالفعل ووقع الاتفاقية ووافق على تسليف مصر مليار متر مكعب من المياه كما هو معروف للجميع.. وكان الوفد يضم وكيل وزارة الخارجية، وحدث أن قابل المستشار “محمد ميرغني” وسأله عن كيفية نجاحهم في إقناع المصريين بسحب بند الحدود، وقال له: (إنتو بتخلصوا الحاجات دي كيف؟) لأنه كانت قد حدثت مشكلة أخرى في اتفاقية مياه النيل وقمنا أيضاً بالاتصال بمكتب “عبد الناصر” الذي تدخل في الأمر، فما كان أمام “محمد ميرغني” إلا أن يعترف للوكيل باتصالنا بمكتب الرئيس “عبد الناصر”، فاندهش الوكيل وسأله إن كنا قد أخبرنا السفير “محمد مختار” بذلك، فقال له لا لم نخبره. ويبدو أنه غضب من تصرفنا وبعد شهر من تلك الواقعة تم نقلنا أنا و”محمد” من سفارة السودان بالقاهرة ببرقية واحدة.. وأقول لك إننا كنا نثق تماماً بأننا لو أخبرنا السفير بتلك الاتصالات التي قمنا بها لما وافق عليها ولتمسك المصريون بموقفهم.
{ ومن أين أتتكم الثقة بأن “عبد الناصر” يمكن أن يستجيب لموقفكم؟
_ نحن كنا نعرف أن “عبد الناصر” يفكر في بناء السد العالي، وأن هذا الأمر سيتطلب لاحقاً تهجير سكان وادي حلفا حسب الدراسات الموضوعة، وكنا ندرك بأن “عبد الناصر” سيفكر في المستقبل، ونحن أردنا أن نستخدم هذه المسألة كورقة ضغط عليهم إذا لم يسحبوا بند الحدود، وخاطبنا الحكومة في الخرطوم بذلك وطلبنا منهم ألا يأتوا إلا بعد الاستجابة لمطلبنا، فالرئيس “عبد الناصر” فكر في كل هذه الأشياء؛ ماذا إذا لم يأت الوفد السوداني ولم تُوقّع الاتفاقية ولم يتم التهجير وهكذا..؟؟ لذلك عمل على تسهيل الأمور وصالح (حكومة عبود) وأعاد العلاقات إلى طبيعتها.
{ إلى أي مدى كانت العلاقات متوترة قبل ذلك بين الخرطوم والقاهرة؟
_ كلما توترت العلاقة بين البلدين كان ذلك يظهر أكثر شيء في الإعلام، حيث كانت الصحافة المصرية تهاجمنا وتوجه إلينا الشتائم وتقسو على السودان، فذهبت أنا إلى القاهرة لمعالجة هذا الموضوع وتهدئة ما يحدث من الصحافة المصرية، وقابلت “السادات” وكان يشغل حينها رئيس (الاتحاد القومي)، وأذكر أنني جلست إليه وكنت صغيراً في السن وبدأ يتحدث معي عادّاً إياي ابنه، وقال لي ممازحاً: (ده أنا أسمر منك يا ابني.. هات إيدك حطها جنب إيدي.. ده أنا حبوبتي سودانية). ووعدني ببحث الأمر وحسمه مع الصحافة، وأوضحت له بأن علاقتنا بمصر هي علاقة إستراتيجية والعلاقة بين الشعبين هي مسألة أزلية ومصالح مشتركة لا يمكن أن يفسدها بعض الصحفيين ويقومون بشتمنا وإفساد العلاقة بيننا، وقام “السادات” كما علمت بالاتصال بالصحفيين وبدأوا في تهدئة الأجواء.. وطبعاً حدث ذلك كما أوضحت لك لأن “عبد الناصر” كان قد شرع في مسألة بناء السد العالي.