في الجزء الأخير من زيارة خاصة لأسرة "المحجوب"
“سميرة” ابنة الزعيم: “المحجوب” من أسرة “الميرغني”.. وهذا سر انضمامه لحزب (الأمة)…!!
سكرتيره الشخصي: “المحجوب” لن يتكرر.. وهذه طقوس حياته بالمنزل..!!
أعدها – نجل الدين آدم – سعدية إلياس
من هذا المنزل الكلاسيكي الراقي بحي الخرطوم(2) سطر زعماء الاستقلال (منفيستو) تقرير المصير، ورسموا معالم لمستقبل جديد، اتحدوا على جلاء المستعمر على وجه السرعة.. إنه منزل أول رئيس وزراء منتخب بعد الاستقلال، المحامي والمهندس “محمد أحمد المحجوب”، الذي كان محط اجتماعات القيادات التاريخية ما قبل الاستقلال وبعده، شأنه شأن منزل الزعيم “الأزهري” الذي كان يدير حراكاً موازياً في مدينة (أم درمان).
(المجهر) سجلت زيارة استثنائية لهذا المنزل العتيق الذي تظهر معالمه المعمارية الجاذبة بالخرطوم، ووجدته خاوياً هجره أبناء “المحجوب” منذ وقت ليس ببعيد.. لكن تفاصيل ما قام به من أدوار وطنية ما تزال باقية تفوح عطراً كلما أطلت ذكرى الاستقلال.. زيارة هذا المنزل كانت امتداداً لرحلة توثيق شاملة للراحل “المحجوب” بدأت من مسقط رأسه في مدينة “الدويم” بـ(النيل الأبيض) وتحديداً منطقة (الطلحة)، مروراً بمنزله الشخصي بالخرطوم(2)، ليكون منزل ابنته وكاتم أسراره “سميرة محمد أحمد المحجوب” هو محطة النهاية للتوثيق.. وقفنا عندها على تفاصيل لم تنشر من قبل عن الرجل، كيف لا وهذا المنزل شهد المصالحة الشهيرة بين الملك “فيصل” والرئيس المصري “عبد الناصر”.. ابنها الحفيد الحافظ لتاريخ نضال جده “أمير” حدثنا هو الآخر بالتفصيل عن الأسرة الممتدة والنشأة والميلاد.. (المجهر) نقلت في الجزء الأول من الزيارة تفاصيل لقاء (الطلحة) حيث مسقط الرأس، وفي هذا الجزء الثاني والأخير ننقل تفاصيل الحوار المختلف من حديث داخل منزل ابنته “سميرة” بالخرطوم التي وصلنا إليها بعد رحلة بحث مضنية.
{ سر انضمام “المحجوب” لحزب الأمة
وعن سر انتماء “المحجوب” إلى حزب الأمة رغم انتماء أهله لطائفة الختمية تقول ابنة المحجوب “سميرة” إن والدها كانت تربطه علاقة دم بآل “الميرغني”، إلا أنه كان مستقلاً، ينتمي وآخرون إلى حزب المستقلين، لكن عندما اقتربت الانتخابات ونظراً إلى أن المستقلين كانوا أقلية انقسم “المحجوب” وصحبه ما بين حزب الأمة والحزب الاتحادي.. وكان الكثير من المراقبين يرون أن “المحجوب” سينضم إلى حزب عشيرته وهو الحزب الاتحادي، لكنه اختار حزب الأمة، وهنا تروي “سميرة” حديثاً دار بين السيدين، حيث قال السيد “علي الميرغني” للسيد “عبد الرحمن”: (دا ولدنا شلتوهو مننا كيف؟!).
{ جنود مجهولون في الاستقلال
تقول “سميرة” إن عملية الاستقلال تمت بتكاتف أهل السودان، وإن هنالك أشخاصاً كانت لهم أدوار وطنية رائدة في تحقيق الاستقلال لكنهم لم يجدوا اهتماماً إعلامياً وتشير هنا إلى الصحافي “أحمد يوسف هاشم” وكيف أن منزله كان قبلة لرموز الاستقلال يعقدون فيه اجتماعات التحضير لإجلاء المستعمر، وأن زوجته كانت شريكاً أسياسياً وهي تقوم بخدمة ضيفها.. وتمضي إلى أن نادي الخرجين كوّن (60) لجنة لإعلان الاستقلال من البرلمان، وكانوا يجتمعون في دار الخرجين من العصر حتى الصبح.. وهنا يضيف الحفيد “أمير أحمد حسب الرسول” وهو حافظ لذلك التاريخ إن كل التفاصيل التي طلبها المستعمر تم الوفاء بها وحدث التفاف حول ظاهرة الاستقلال بين كل السودانيين، على الوحدة أولاً (السودان للسودانيين)، ثانياً وحدة الفكرة بين الحكومة والمعارضة وثالثاً وحدة الجانب الفني فرق البوليس والقصائد.. وكان المشروع كبيراً بأن يمتد إلى الساحة الأفريقية، و”عبد الناصر” كان يريد تحرير الدول الأفريقية من الاستعمار وبعد نيل السودان لاستقلاله التفتوا إليه.
{ مواقف في منزل “المحجوب”
تقول “سميرة”: (في هذا المنزل سكن الشريف حسين الهندي ومبارك زروق زعيم المعارضة، وأذكر حسبما روي لنا أنه وفي إحدى جلسات البرلمان دار نقاش ساخن بين المحجوب وزروق والشريف حسين الهندي فمر أحد نواب الشرق بالقرب منهم عقب الجلسة وقال: “التيران اتشكلو الليلة”، فطلب المحجوب دعوة نواب الشرق لغداء ليوضح لهم أن النقاش هو طبيعة العمل ولا يعني وجود خلافات، وعندما حضروا إلى المنزل وجدوا زروق وقد قام بتغيير ملابسه التي جاء بها في الجلسة، وظهر بعده الشريف حسين الهندي فاستغرب هؤلاء من العلاقة، وعندما سألوا ذكر لهم المحجوب أن زروق يسكن معه في المنزل لأن أهله في مدني، والهندي برغم أن منزله في حي بري الخرطومي إلا أنه كان يقضي معه أياماً).
وتضيف “سميرة” إن “الشريف حسين” كان عندما يعود من سفرية خارجية يجد في انتظاره عدداً من الناس ليأخذوا ملابسه الموجودة في المنزل حتى لو كانت جديدة نظراً إلى أنه يكون قد اشترى ملابس خلال رحلته، وتشير إلى أن منزل والدها دائماً ما يكون مليئاً بالضيوف، وكان يستقبل أي شخص زائر أو طالب حاجة ويحل له مشكلته دون أي مراسم وأو بروتوكول، وأن أهله في الدويم كانوا يزورونه ويبقون بالمنزل لأيام.
وفيما يتعلق بعلاقتهم كأسرة لـ”المحجوب” مع أسرة الزعيم “إسماعيل الأزهري” تقول “سميرة” إن محبة شديدة ظلت تجمعهم مع أسرة “الأزهري” حتى بعد وفاة الزعماء إلا أن مشغوليات الحياة باعدت بينهم في الفترة الأخيرة.
{ “المحجوب” الأب
وعن كواليس حياة “المحجوب” داخل المنزل وكيف كان يتعامل مع الأسرة تقول “سميرة” إنه كان يحرص على تناول وجبة الغداء مجتمعين قبل وبعد أن أصبح رئيساً للوزراء، وتشير إلى أنه عطوف ومحب لأسرته، المكونة من “بهجة”، “سميرة”، “سلوى”، “سيد”، “سامي” و”أنور”، وأن حياتهم لم تكن محاطة بالبروتوكولات، وأنهم كانوا يذهبون إلى المدرسة بعربة الوالدة الخاصة، وكانت عربة الحكومة خاصته هو فقط حيث كان يلازمه دائماً سائق يدعى “عبد القادر”.. وتفخر “سميرة” بأن والدها “المحجوب” كان عفيفاً إذ يرد بقية نثرية السفر إلى خزينة الدولة عندما يعود، وتشير إلى دعوة عشاء الدبلوماسيين والمسؤولين في منزله التي كان يتم تجهيزها في المنزل وأن والدتها كانت تدعو أخواتها لمساعدتها عند كل برنامج كبير بالمنزل دون الحاجة إلى وجبات من الفنادق.. وتضيف: (والدي كان محبوباً من قبل الجميع حتى الذين يخالفونه في السياسة).. تقول سميرة إنها تأثرت كثيراً بوالدها وكانت قريبة منها، وإن شقيقها “سيد” كان الأكثر تأثراً بالوالد حيث إنه كان يسافر معه في الدعاية الانتخابية.
{ علاقته بأهله في الدويم
تذكر “سميرة” أنه عندما اشتد المرض بوالدها في إحدى المرات جاء ابن عمه “أحمد عبد الحليم” من الدويم وذبح ثيران (كرامة) للفقراء، وكان ذلك في العام 1968، ومن ثم سافر للعلاج، وتشير إلى أنه كان على تواصل معهم يسافر كثيراً وكانوا هم يبادلونه الزيارات.
{ اللحظات الأخيرة لـ”المحجوب”
تقول “سميرة” إن والدها كان يحس بالرحيل وظل طريح الفراش، وإنه كان لا يميل إلى الحديث عن وصايا، وكان ذلك في العام 1976.. وتروي هنا أنه كان يستمع إلى حديث بعض الذين عاودوه في مرضه، وقال لهم: (تتحدثون عن النميري، سيذهب بعد تسع سنوات ثم يأتي الصادق المهدي ليحكم ومن ثم يأتي عسكريون وتأتي من بعد ذلك ثورة جياع، ومن ثم سينفرج الحال ويصبح السودان قبلة للعرب ويتحسن الوضع).. وتشير هنا إلى أنه بالفعل ذهب “نميري” عن الحكم بعد تسع سنوات وحل الصادق المهدي من بعده رئيساً للوزراء ثم جاءت ثورة الإنقاذ وتقول أنها تأمل أن تتحقق نبوءة والدها ويتحسن الحال.
{ رسالة لأهل السودان
ابنه الزعيم “المحجوب” لم تنس أن تبعث برسالة لأهل السودان في الذكرى الـ(59) للاستقلال، وقالت: (لا بد أن يتحد الناس وتتحد الكلمة حتى يمضي السودان إلى الأمام لأن الناس قد تعبت، ولا بد من وقف القتال والحروب).
{ إفادات لسكرتير “المحجوب” الشخصي
العم “شرف الدين محمد أحمد” هو السكرتير الشخصي والساعد الأيمن لـ”المحجوب” في ترتيب متعلقاته المكتبية ومستنداته حتى ما بعد رحيله، حيث إنه يمسك الآن بكل المتعلقات، الصور والأرشيف الخاص بـ”المحجوب” لا تسأله عن صورة أو كتاب إلا وكان بين يديك.. التقيناه بمنزل ابنة الزعيم “سميرة” ورافقنا إلى منزل الأسرة، وحدثنا عن كل ركن فيه وذكريات عشرات السنين مع “المحجوب”.. العم “شرف الذين” قال إنه كان يعمل منسق مكتبة الزعيم الراحل وكان عمره لا يتجاور وقتها الـ(14) سنة عندما قدم من مسقط رأسه بشرق الجنينة بغرب دارفور، ومضى يحكي عن ذكرياته مع الزعيم وكيف كان يحضر له ما يطلب من مستند أو كتاب.. العم “شرف” بدا متأثراً عندما سألناه عن تعامل “المحجوب” معه واكتفى بالقول: (هو شخص لن يتكرر في الخلق والأخلاق).. أما عن أكثر الكتب التي كان يفضل “المحجوب” قراءتها قال إنه يقرأ باستمرار كتب القانون في كثير من الأوقات، بينما يقرأ الشعر عند الصباح، وكان يحرص على تناول الشاي في ركن بعيد.. وعن أكثر الأبناء محبة في قلب الراحل ابتسم العم “شرف الدين” وقال: (سميرة من أكثر الأبناء قرباً له).. وفي ختام حديثه، حكى عن آخر أيام الراحل وقال: (عندما عاد من بريطانيا كان تعبان شديد إلى أن توفاه الله.. وكان بمثابة والدي تعلمت منه الكثير من الأشياء التي أفادتني في حياتي).