الصناعة في السودان.. حاضر مؤلم ومستقبل مخيف
توقف المصانع خلق واقعا إنسانيا مؤسفا وأغلب العمال تحولوا لعطالي
(60%) من المصانع معطّلة وشبح الإنهيار أدي لتشريد الأسر
الإمتيازات والإعفاءات الممنوحة للمحاسيب عجلت بخروج التجار الحقيقيين من السوق !!
علي الدولة حماية المنتجين من فوضي تحصيل الاموال وإيقاف مافيا الجبايات !!
الخرطوم – مي علي
يقضي “أحمد. م” جل يومه جالساً في ظل ذلك المتجر الذي يبعد عن بيته حوالي المائة متر تقريباً، تجده تارة يحدق في نقطة بعيدة في الفراغ الذي أمامه، وتارة أخرى يعود للواقع الذي حوله ويتجاذب أطراف الحديث مع رواد المحل من الرجال والنساء. هكذا باتت أيام “أحمد” في خواتيم عقده الثالث متشابهة منذ أن أبلغهم مدير المصنع الذي كان يعمل به منذ أكثر من ثلاثة أعوام والذي كان متخصصاً في صناعة المنسوجات، أنه لا يستطيع توفير مرتباتهم، وبالتالي سيغلق المصنع.
يروي “أحمد” لـ(المجهر) كيف أنه يعاني من وضع نفسي سيئ جداً منذ أن أصبحت صفة عاطل ملازمة له، إذ إنه لا يتوفر لديه ما يساعده على إعالة أسرته المكونة منه ومن زوجته فقط. وهذه الأخيرة (لا ترحمه) حسب وصفه، إذ تظل معظم الوقت تلاحقه بطلباتها التي لا تنتهي، وأحياناً تتعالى أصواتهما حينما يحتد النقاش بينهما. يقول “أحمد” بصوت فاتر: (على الرغم من أنني عاطل منذ نحو عام إلاّ أن زوجتي تلح عليّ في توفير كل مستلزمات المنزل الضرورية كانت أم الثانوية، وهو أمر يجعلني في وضع نفسي لا أحسد عليه).
لم تكن حالة العامل “أحمد” هي الحالة الوحيدة التي تدلل على الوضع السيئ الذي يعاني منه معظم العمال الذين تم تسريحهم من مصانعهم بسبب إغلاقها وإعلان إفلاسها، فالعامل الأربعيني “علي عبد الرحيم” يعيل أسرة متوسطة ولديه أربعة أطفال يدرسون بالمراحل التعليمية المختلفة، كان يتقاضى راتباً لا يتعدى الـ(800) جنيهاً- (100) دولار تقريباً- في الشهر، يقول إنه لا يكفي لمتطلبات الأسرة واحتياجات أبنائه اليومية من مصروفات الدراسة ووجبة الفطور، لكنه وبالرغم من ذلك لا يملك إلا أن يتمسك بهذا الراتب.. لكن الآن وبعد توقف المصنع الذي كان يعمل به عن العمل، وجد “علي” نفسه بلا عمل لأكثر من خمسة أشهر، وطيلة تلك المدة يقول إنه ظل يبحث عن عمل جديد، ولما لم يكن قد أكمل دراسته الجامعية وليس له سبيل في الوظائف الحكومية، فقد طرق أبواب كل المصانع لكن دون جدوى، فحتى تلك التي ما زالت تعمل وجد أنها تسعى لتخفيض العمالة الموجودة ولا ترغب في استيعاب عمالة جديدة، ويضيف بصوت مرهق: (أضطر للعمل كعامل يومية ببعض المصانع والمخازن متى ما وجدت فرصة)، ويستطرد: (هي مهنة ليست ثابتة وغير مجزية في ذات الوقت). ويختم حديثه قائلاً: (لا نملك إلا أن ننتظر الفَرج من الله وحده، وأن يعود المصنع للعمل من جديد، ليس من أجلي أنا فقط، ولكن لأن مصير ومستقبل أبنائي مرتبط بعودته للعمل).
{ مصانع تحولت إلى مخازن
على غير العادة بدت الشوارع الفرعية والشارع الرئيسي الذي يمتد بطول المنطقة الصناعية بالخرطوم بحري، بدت شبه خالية في هذا الوقت من نهاية دوام العمل الذي عادة ينتهي في الثالثة عصراً، والذي كان يشهد ازدحاماً كبيراً لسيارات ترحيل عمال المصانع إلى منازلهم.
لقد بدت المنطقة الصناعية بضاحية الخرطوم بحري شمال الخرطوم العاصمة كأنها مدينة أشباح خالية تماماً إلاّ من بعض الحراس موجودون أمام بعض المصانع المتوقفة. وكأنما اتفق جميع أولئك الحراس على إجابة واحدة ومكررة: (المصنع واقف)، وذلك في أثناء جولة الصحيفة في المنطقة الصناعية ومحاولتها إيجاد إجابة لمسببات توقف المصانع عن العمل. وحده ذلك الموظف بإحدى الشركات والذي كان يهم بركوب عربته، هو مَن لخّص لنا ما تشهده المنطقة الصناعية في كلمات مختصرة: (ثلاثة أرباع المصانع هنا تحولت لمخازن)، وأشار بيده إلى مقر كبير بالقرب من شركته كان مصنعاً للأحذية، قائلاً إن مستثمراً اشتراه ليحول مساحته الكبيرة إلى مخازن.
{ المستورد يهزم المحلي
“أشرف عبد الرحمن”، صاحب مصنع (طحنية) و(حلويات) وهو من المصانع المعروفة بالمنطقة الصناعية بالخرطوم بحري– متوقف حالياً- قال إن مصنعه تأسس في العام 1985 وبدأ الإنتاج فعلياً في العام 1991، ويشرح “أشرف” في حديثه لـ(المجهر) أسباب توقف مصنعه عن الإنتاج، ويقول إن أحد أهم أسباب توقف العديد من المصانع هو عدم قدرتها على منافسة المنتج المستورد، لأن الفرق في تكلفة الإنتاج بينهما كبير جداً ويتراوح بين (40- 50%)، ويشير إلى أن الدولة فتحت الباب على مصراعيه لدخول السلع المستوردة، وهي سلع تكلفتها منخفضة، وتُفرض عليها ضرائب منخفضة أيضاً– حوالي (3%) فقط– وبالتالي تكون أسعارها في الأسواق منخفضة مقارنة بما ننتجه محلياً. لكنه يعود ويؤكد أن المشكلة ليست في استيراد تلك السلع فقط، بل في عدم مطابقتها للمواصفات، ويجزم بأن كثيراً منها (غير صالح للاستهلاك الآدمي).
ويشير “أشرف” إلى مشكلة ارتفاع سعر الدولار وعدم استقراره وإيقاف التحويلات الخارجية، ويضيف إن هذه مسألة خاضعة لسياسات الدولة، لكن ذلك يضطرهم إلى شراء الدولار والعملات الحرة من السوق السوداء، وبالتالي زيادة تكلفة الإنتاج أضعافاً مضاعفة. وعن تقديره لحجم خسارته المادية جرّاء توقف مصنعه، يقول إن هناك خسائر مادية كبيرة، ولكن الخسارة الأكبر هي خسارة السمعة و(أنك تخرج من السوق وتفقد اسمك)، فالخسائر المادية مقدور على استرجاعها، أما استرجاع قوتك وأرضك في السوق فهي مسألة صعبة في ظل الظروف الراهنة. ويضيف إن هذه الأوضاع جعلت الكثير من أصحاب العمل والمستثمرين ينقلون أعمالهم واستثماراتهم إلى بعض دول الجوار وخاصة أثيوبيا، حيث تُقدم لهم العديد من التسهيلات والإغراءات، تصل إلى إعفائهم من الضرائب لمدة عشر سنوات.
{ مافيا الجبايات
الخبير الاقتصادي د. “عبد العظيم المهل”، يُرجع ظاهرة توقف عدد من المصانع عن الإنتاج إلى عدة أسباب، أهمها، التحيّز الحزبي الذي أدى إلى خروج التجار الحقيقيين من السوق وظهور دخلاء في مجال الصناعة، موضحاً أنه في السنوات الأخيرة ومع إنشاء كل مصنع جديد كانت تُغلق ثلاثة مصانع، وذلك بسبب الامتيازات والإعفاءات الممنوحة للمصانع الجديدة مما جعل قدرة المصانع القديمة على المنافسة تقل كثيراً إلى أن تتوقف تماماً عن الإنتاج، مشيراً إلى أن معظم هؤلاء التجار الجُدد ينتمون إلى الحزب الحاكم في السودان، أو على صلة ومصالح مشتركة به، وهم أنفسهم من يتم منحهم العطاءات الحكومية.
ويمضي “المهل” معدداً أسباب توقف المصانع عن الإنتاج، ويقول لـ(المجهر) إن الضرائب والرسوم والجبايات، الرسمية وغير الرسمية، خلقت نوعاً من الفساد المالي والفوضى في تحصيل الأموال، فصاحب المصنع يأتيه في اليوم الواحد أكثر من شخص بإيصالات تحصيل من جهات عديدة، فيدفع لهم مجبراً ولا يملك أن يرفض أو يمتنع، ويتابع الخبير الاقتصادي قائلاً: (لا بد من حماية الصناعة من مافيا الجبايات، حتى لا يهرب أصحاب المصانع إلى الخارج). ويضيف إن ارتفاع أسعار مدخلات الإنتاج مع تصاعد سعر الدولار، جعل تكلفة الإنتاج والتشغيل تصبح عالية جداً، بالإضافة إلى السعر العالي للكهرباء التجارية، والأعداد الكبيرة من العمالة، ففي ظل كل تلك التكلفة لا تستطيع المصانع منافسة السلع المستوردة منخفضة الأسعار، والتي تتسبب في إغراق السوق، كالسلع الصينية مثلاً. ولا ينسى “المهل” الإشارة إلى ضرر الحصار الاقتصادي الذي يتعرض له السودان، ويقول إنه أضر بالصناعة كثيراً وباتت المصانع غير قادرة على استيراد ماكينات أو قطع غيار من دول المنشأ، وصارت تستوردها من دول آسيوية ذات كفاءة أقل.
ويفصِّل الخبير الاقتصادي “المهل”، الآثار الاقتصادية المترتبة على توقف وإغلاق المصانع، ويقول إن تدهور الصناعة يعني تدهور الناتج القومي الإجمالي للبلد، لذلك كل الدول تحمي صناعتها وتدعمها، ليس للصادرات فقط بل لإحلال الواردات.
{ البرلمان يقر بصعوبة المشكلة
يشير رئيس لجنة الصناعة بالبرلمان “عمر آدم رحمة”، إلى أن تدهور الصناعة يعود إلى أسباب متعلقة بالتمويل، وأخرى متعلقة بمدخلات الإنتاج وبطبيعة نشاط المصنع. وكشف عن أن نسبة المصانع المتوقفة عن العمل تصل إلى (60%) من جملة المصانع بولاية الخرطوم، وقال إن هنالك مصانع عديدة متعطلة بالمنطقة الصناعية بالخرطوم بحري وأم درمان، وكذلك بمدينة ود مدني، مشيراً إلى أن معظم تلك المصانع تمتلك تقنيات قديمة ولا بد من إبدالها بتقنيات حديثة، وهذا الأمر يكلف ميزانية كبيرة في التمويل. وأقر “رحمة” في حديثه لـ(المجهر) بصعوبة علاج هذه المشكلة، مشيراً إلى أنها مشكلة قديمة وموجودة قبل حكومة الإنقاذ الحالية، موضحاً أن علاجها يتطلب جهداً من أصحاب المصانع، وكذلك توفير التمويل والمواد الخام من الدولة. وضرب مثلاً بمصانع النسيج، وقال إن الكميات المنتجة منها لا تنافس في السوق المحلية ناهيك عن العالمية، بالرغم من حدوث تأهيل فيها واستخدامها تقنيات حديثة.
ولفت “رحمة” إلى أن (90%) من المصانع المتوقفة تتبع للقطاع الخاص، وقال: (يجب على الدولة أن تقف وقفة جادة لإعادة تشغيل هذه المصانع أو إيجاد حلول لها، لأن تعطيل المصانع أدى إلى تشريد العمالة، وزاد من نسب العطالة الموجودة).
{ تراجع القدرات المهنية
ولا يقتصر ضرر توقف المصانع على الاقتصاد فقط، بل له آثار اجتماعية كبيرة، فوراء كل عامل أو فني بتلك المصانع أسرة يعيلها. ويشير أستاذ علم الاجتماع الدكتور “عبد المنعم العطا” إلى أن هناك أثراً مباشراً يتمثل في فقدان الوظائف، أي المركز الاجتماعي للأسر، وازدياد معدلات البطالة بشكل مباشر. أما الأثر غير المباشر فهو أن الدولة تضطر عند توقف الإنتاج المحلي إلى الاستيراد، وهذا يتسبب في ارتفاع سعر الصرف وزيادة الأسعار، وبالتالي يؤثر على الحالة المعيشية للأسر، ويزيد معدلات الفقر، فالدخل ثابت والأسعار في ارتفاع متواصل وليس هناك توافق بينهما.
ويضيف “العطا” في ختام حديثه قائلاً إن هناك أيضاً آثار أخرى، منها أن توقف الإنتاج يؤدي إلى تدهور قدرات البشر المهنية والمهارية وتراجع خبراتهم، مقابل تزايد انتشار المهن الهامشية، في بلدٍ نسبة الإعالة الديموغرافية فيه عالية أصلاً.