محنة الإعلام
الإعلام الحكومي بطبيعته في البلدان مثل السودان يتم تسخيره لهدفين فقط لا أكثر، تمجيد إنجازات الحكومة الإدارية بكل الطرق والوسائل من قصائد الشعر وأغاني البنات ومديح الرجال، ومن ثم تجاهل أخطاء الحكومة وتبرير ما لا يمكن تبريره. والإعلام الحكومي فكرة قديمة تعود لأول وزير إعلام في حكومة شمولية في التاريخ الإسلامي والعربي “أبو الطيب أحمد ابن الحسين” الشهير بـ(المتنبي)، وحتى عصر “عبد الناصر” وإذاعة صوت العرب وانتهاءً بعصر الصحافة الدولية لشيوخ العرب. فالإعلام الحكومي هو شاعر هذا الزمان يفعل ما يقوم به “المتنبي” في قديم الزمان أي قبل ألف سنة.. وإذا كان “المتنبي” يهجو “كافور” في دمشق ويمدحه في “القاهرة”، فإن الإعلام الحكومي يهجو فلاناً في المعارضة، وعندما يصبح وزيراً يمدحه.. ومن المفارقات الكبيرة أن الراحل “كاربينو كوانين بول” أحد قادة التمرد في السودان القديم حينما عاد مع زمرته بعد اتفاق الخرطوم للسلام 1997م، خرجت تظاهرات في الخرطوم ويهتف الهتيفة( ثائر ثائر يا “كاربينو”.. خائن خائن يا “قرنق”!!
ولم تمضِ سوى بضعة شهور حتى انقلب “كاربينو” الثائر على الساحر وتمرد على السلطة.. فخرجت ذات الحناجر تهتف (خائن خائن يا “قرنق”).. يوم عودة “عبد العزيز آدم الحلو” ورهطه من المتمردين للخرطوم أقيم احتفال بمقاهي أنيقة في شارع النيل غرب مرسى توتي.. للقيادات العائدة.. وأخذ الخطباء في مدح “نيفاشا” حتى وصفها مقدم الاحتفال وهو بوق كبير في إذاعة أم درمان بالاستقلال الحقيقي للسودان.. وأن “نيفاشا” هي ميلاد الوطن الجديد.. فنهضت من مقعدي وتحدثت عن الفروقات الفكرية بين مشروع الحركة الشعبية الأفريقاني العلماني ومشروع الحركة الإسلامية. وتساءلت هل سيصبح المشروعان في عباءة واحدة وشراكة إستراتيجية؟؟ أم تكتيكات ظرفية اقتضتها تدابير دولية ورضخ لها قادة المشروعين من أجل شراكة كراسي سلطة، سرعان ما يكتشف الطرفان استحالة الجمع بينهما.. ثار في وجهي من ثار وتصدى “عثمان قادم” لما أقول بالرفض وحذر “محي الدين التوم حامد” وكان حينذاك نائباً لرئيس المؤتمر الوطني من أمثالنا المتشائمين والمستهدفين لإنجازات (الأمة) الحضارية، إلا أن الدكتور “أحمد عبد الرحمن سعيد” القيادي في الحركة الشعبية عندما تحدث أثنى على ما قلت ودعا لحوار فكري ثقافي من أجل (تعايش) المشروعين.. ولعب الإعلام الحكومي دوراً سالباً في إجهاض السلام الذي تحقق بعد 2005م، حيث تنازل عن دوره في التوعية وإهداء الحكومة سبل الرشاد إلى تفخيم الإنجازات.. إذا خرج تلاميذ المدارس لاستقبال مسؤول قال الإعلام إنها حشود جماهيرية، وإذا افتتح وزير مصنعاً للصابون أو الملابس الداخلية قالوا إنها قلعة صناعية، وعندما يتكلم المسؤولون الكبار تصبح أحاديثهم توجيهات وقرارات واجبة النفاذ، وتعتبر البلاغة والفصاحة لشد انتباه الجمهور وتصبح الكلمات قذائف وحمماً لمقاتلة الأعداء ويتطاير منها اللهيب حتى يسقط الأعداء صرعى.. دون أن تسيل الدماء.. مثل هذا الإعلام ضرره أكثر من نفعه!!
ومنذ سنوات ظل الإعلام الحكومي يطلب المال والعربات والنثريات والأجهزة الحديثة لمقارعة الإعلام الأجنبي ذو الإمكانيات الكبيرة.. والقدرات الهائلة.. ولكن إذاعة (حقيرة) جداً بإمكانيات أقل من ميزانية التعليم بمحلية سنكات هزمت إذاعتنا الفتية أم درمان.. أينما ذهبت في أرجاء وطنا البإسمو كتبنا ورطنا تجد شكوى المسؤولين من إذاعة (دبنقا) التي يعمل بها “أبو زيد صبي كلو” و”كمال الصادق” وكلاهما من الصحافيين الذين عملوا في سد ثغرة الإعلام الحكومي في يوم ما.. وإذاعة أم درمان تنفق على ألف وخمسمائة موظف ولا يسمع صوتها أحد، لأنها تحدث الناس عن (اتكاء المساء على شاطئ الحلم الجميل) وعن (ازدهار أوراق الصباح مع نسمة الصيف العليل) وتغني للطيور الما بتعرف ليها خرطة.. وتمدح “المصطفى” صلى الله عليه وسلم، (كنز ونوري كريم هون) ولا تضع المواطنين وهمومهم إلا في أسفل جدول أعمالها وخارطتها البرامجية، فكيف ينهض مثل هذا الإعلام؟؟ بدوره ومسؤوليته نحو وطنه وشعبه، وما بين رغبة الحكومة التي تنفق على الإعلام في تجميل وجهها وتحسين صورتها.. وتحقير معارضيها وتسفيههم وما بين رغبة المتلقي في معرفة الحقيقة تبدو المفارقة كبيرة والهوة شاسعة، والجمع بين إشباع رغبات الحاكم ورغبات الشعب من مزج مرج البحرين!!