استراحة (الجمعة)
المرأة هي ملهمة الشعراء في كل العصور والعهود من الجاهلية وحتى عصر الانترنت.. وقليل جداً من الشعراء والأدباء انصرفوا لضروب أخرى من الإلهام كالوطنيات في أشعار “علي نور” شاعر مؤتمر الخريجين الذي نعى السودانيين وحالهم حتى قبل أن ينالوا استقلالهم، حينما قال:
كل امرئ في السودان يحتل غير مكانه
المال عند بخيله والسيف عند جبانه
وحينما تسند للبخلاء مفاتيح خزان المال تثور العامة وتسخط على الحكام، وقيل في سنوات المهدية الأخيرة إن الخليفة “عبد الله التعايشي” أسند إلى أخيه الأمير “يعقوب” (جراب الرأي) إدارة مال المهدية، وجاء يوماً “الحاردلو” في زهوه وخيلائه لزيارة الأمير “يعقوب” ولكنه خرج خالي الوفاض لم يمنحه درهماً ولا ديناراً كما جرت العادة، فغضب “الحاردلو” أشد الغضب وأنشد قائلاً:
ود بيت المحل ما تدور معاه مودة
وما تتغشى بي رزقوا عمر الحجر ما اتكده
كل يوم الفرع لي أصلو ماخد مدة
مو قضاي قروض ود الايدو قاطع المدة
ولكن المرأة في عهد الحقيبة في السودان هي التي سيطرت على عقول وعواطف الشعراء .. بينما سيطر حب السلطان على قلب شاعر مثل “أبو الطيب المتنبي”.. وشغف “التجاني يوسف بشير” بتأملات في الحياة والطبيعة والجمال .. ولكن شاعراً مثل “عوض جبريل” الذي غرد بشعره العزب مطربو البلاد قديمهم وحديثهم، جعل من حسان أم درمان ملهمات لمخيلته الإبداعية. وغنى لعوض جبريل مبكراً جداً الفنان “أبو عركي البخيت” أغنية ست التوب التي نظمت في امرأة كانت تقطن جوار الشاعر “عوض جبريل”، هام بها شغفاً حتى قال في الأغنية التي تفرض عليها الأجهزة الإعلامية تعتيماً لا يعرف أسبابه ويقول:
شفت التوب وما لاقاني أجمل منو
بس التوب وسيد التوب يكون كيفنو
نظرة سريعة مرت بيها وامتنعت
خطوة وحيدة بيني وبينا لو أسرعت
خلت طيباً مالي الساحة وبيه اتشبعت
زيها ما في لا شاهدت لاني سمعت
ولم أجد مثالاً قريباً من هيام “عوض جبريل” بست التوب إلا في بعض أشعار شيخ العرب “محمد أحمد الطاهر أبو كلابيش” التي ظل يخفيها من عيون الناس والسياسيين، وهو ضنين يكشف ما وراء الشخصية السياسية الصارمة، حيث كتب في سنوات صباه بقرية الخوي ريفي دار حمر يقول :
البيت الجميل أوصافوا
الساكننو ما بتشافوا
لولا الحياء وربنا البنخافو
نعيد بالسبح الديسو غطى أكتافو
وحرمان الشاعر من مجرد نظرة عابرة للمرأة التي هام بها هي التي جعلت “عوض جبريل” نفسه يقول في قصيدة تغنى بها المطرب “عبد المنعم حسيب” وهي أيضاً من الأغنيات حبيسات مكتبة الإذاعة:
لو عرفت الشوق والحنان الفي
كان عزابك لي تتركو وتنفي
كان ما نسيتني وكان وراك طرفي
والمحب بالعين نظرة بتكفي!!
غير أن “مصطفى سند” في بحره القديم كان أكثر حسرة وولهاً بمن أحب وهام في أودية الخيال البعيد ليقول:
أنا الذي حرق الحشاشة في هواك
ممزق الأضلاع مطلول النزيف
ولكن سنوات العمر تقادمها عند الشاعر ونضارتها عند فتاته قد حرمته من متعة عشق الصبايا ووله الشباب حينما يشدو في ذات القصيدة ويقول:
بيني وبينك سكة السفر الطويل من الربيع إلى الخريف
تعلو قصور الوهم أنت ومرقدي في الليل أتربة الرصيف
هم ألبسوك دثار خد ناعم الأسلاك
منغوم الحفيف
والمرأة في العصر الحديث قتلت بيدها أسباب الهيام بها والغرام لرؤيتها.. وعشق حفيف سيرها .. حينما أصبحت المرأة اليوم في الشوارع والمكاتب والأسواق وفي المقاهي، ولذلك تخلى عنها شعراء الحب والغزل وما عادت تلك الكلمات تدغدغ المشاعر، فعصر الحرمان قد ولى وانتهى.. ولعز الدين هلالي محاولة للجمع بين مشاغل العصر الحديث ومشاغل الأمس البعيد حينما يقول في قصيدته:
لما أكتب عنك أنت
بلقى نفسي بقول كلام مسؤول وواعي
كلام بتاعي ما كلام ما ليهو داعي
كلام يحدد لي معالم ويبدا لي درب المسيرة
ولما أسرح في البعيد وفي مكاتبنا ومصيرها
صورتك أنت تجيني في عز الهجيرة
زي نسائم ليلية باردة
ليلة نائمة على جروف
في ريف بعيد ما فيهو خوف
وهل صحيح أن الريف البعيد ما فيه خوف أم الخوف قد سكن المدن والأرياف، وبات الغناء للمرأة ضرباً من الوله في غير مكانه.. وجفت ينابيع الشعر في العيون وما عادت خصلات الشعر تدغدغ المعجبين ولا تثير فيهم لواعج الحب والحنين ولنا لقاء (الجمعة) القادمة.