مستقبل الحوار على ضوء متغيرات صنعتها المعارضة
من باريس إلى أديس أبابا
تقرير – صلاح حمد مضوي
في اللحظة التي وقع فيها رئيس حزب الأمة القومي الإمام “الصادق المهدي” على (إعلان باريس) كطرف أول مع الجبهة الثورية بقيادة رئيسها “مالك عقار” كطرف ثان أخذت الرياح تهب على سارية الحوار الوطني لا لتدفعه إلى الأمام بل لتهيج عليه أمواج (الوطني) العاتية، ثم أخذت هذه الرياح تزيد مع الأيام لتتسع منابتها من “باريس” وصولاً إلى “أديس أبابا”، حتى باتت تهدد سفينة الحوار مهددة بالغرق دون أن تلوح في الأفق أية بوادر لتخفيف هذه الرياح حتى توصل السفينة لشط الأمان.
وتضمن (إعلان باريس) بين (الأمة) و(الثورية) وقف الحرب، وتوحيد قوى التغيير والتحول الديمقراطي وبناء دولة المواطنة بلا تمييز. كما تناول الإعلان التأكيد على الحفاظ على وحدة السودان وفقاً لأسس جديدة قائمة على المواطنة المتساوية، باعتبار أن وقف الحرب هو المدخل الصحيح لأي (حوار وطني) وعملية دستورية جادة مع شرط توفير(الحريات) والوصول إلى ترتيبات (حكم انتقالي). ومن بين ما اتفق عليه الطرفان مبدأ (عدم الإفلات من العقاب) وتحقيق المحاسبة ورفع الظلم ورد الحقوق، كما أن بين ما تضمنه الإعلان التنويه إلى أهمية (التهيئة للحوار) بأعتبار أنها عملية مطلوبة، وتم الاتفاق على عدم قيام انتخابات إلا في وجود حكومة انتقالية توقف الحرب وتتيح الحريات وتجري حواراً وطنياً لا يستثني أحداً.
وكان “المهدي” أول من ابتدر الحوار الوطني، إلا أنه اعتقل على خلفية انتقاده لقوات الدعم السريع، وما إن خرج من (كوبر) حتى وقع على (إعلان باريس) ولم يعد بعد ذلك إلى السودان، ليستقر بعدها في مصر مبتعداً عن (الحوار الذي لم ينتج) شيئاً، بل شهد تراجعاً على مستوى الحريات ومطلوبات الحوار، وخروج “المهدي” منه قلب الموازنة وأدت بشكل مباشر إلى تعطيل مسيرة الحوار الوطني وتراجع العديد من الأحزاب عن المضي في تلك المبادرة ومنهم حركة “الإصلاح الآن”، ي حين ظلت بعض الأحزاب المتوافقة مع الحكومة على نهجها في المضي قدماً في الحوار باعتباره السبيل الوحيد لإنقاذ السودان من المشاكل والتحديات التي تواجهه، وخاصة المشكلات الاقتصادية التي تفاقمت خاصة بعد نشوب الحرب بدولة جنوب السودان وتوقف ضخ النفط، فضلاً عن استمرار العقوبات الاقتصادية الأمريكية المفروضة على البلاد منذ فترة طويلة، في وقت ظلت فيه تيارات ضد الحوار وأصبحت رافضة له داخل المؤتمر الوطني نفسه، وحتى داخل حزب الأمة القومي وداخل حزب (المؤتمر الشعبي) الذي ظلت قيادته متماهية مع الحزب الحاكم بشكل كبير. ومن جانب آخر هناك دول خارجية تقف ضد الحوار الوطني في السودان، وفي الوقت الذي ظل فيه الحزب الحاكم يؤكد على قيام الانتخابات في موعدها المضروب له في أبريل المقبل مع دعوته للحوار، ظلت قوى الإجماع الوطني على موقفها الرافض للحوار في ظل استمرار القوانين المقيدة للحريات، واعتقال السياسيين و التضييق على الحريات العامة.
ومعلوم أن القضايا الرئيسية للحوار التي طرحها الرئيس “البشير” تتمثل في محاور السلام والأمن والوضع الاقتصادي والهوية والعلاقات الخارجية، إلا أن الوضع آخذ في التآكل حيث يواجه الحوار الوطني الشامل جملة من التحديات والمهددات أبرزها غياب الثقة بين الحكومة والمعارضة، بالإضافة لجملة من الاستحقاقات التي تتطلب الإيفاء بها من قبل الأطراف وبخاصة الحكومة لمد جسور الثقة من أجل إنجاح الحوار، ولكن ظلت الوقائع على الأرض تدفع بتآكل الثقة، وخلق واقع جديد مختلف.
وتمثل القضايا الخلافية الكبرى بين نظام حزب (المؤتمر الوطني) الحاكم ومختلف القوى والرموز السياسية المعارضة العائق الأكبر أمام الدخول في حوار وطني حقيقي، بينها الجدل حول شرعية النظام، وقضية طعن المعارضة في شرعية الحكم بشكل مستمر كأحد أبرز القضايا المعقدة التي تواجه الحوار بين الطرفين، حيث لم تتوقف عند مستوى التصريحات، بل امتدت إلي اتخاذ إجراءات عملية كان أبرزها صياغة ما يسمى بـ(الميثاق الدستوري للمرحلة الانتقالية)، والذي تضمن تكوين مجلس رئاسي انتقالي وحكومة وبرلمان يتم التوافق عليها لفترة انتقالية لا تقل عن ثلاثين شهراً ولا تزيد عن أربع سنوات، فضلاً عن إلغاء جميع القوانين المقيدة للحريات، وبالتالي فإن خيار تفكيك النظام أصبح يمثل هدفاً رئيسياً للمعارضة السودانية باعتباره نظاماً غير شرعي أدخل البلاد في دوامة عنف وفشل اقتصادي وسياسي واجتماعي. وفي المقابل يتمسك النظام بالبقاء، ويطالب المعارضة بالاعتماد على الأدوات الشرعية لتغييره، خاصة عبر الانتخابات المزمع إجراؤها في العام ( 2015).
فقبل أن يجف الحبر الذي كتب به (إعلان باريس) جاء اتفاق “أديس أبابا” ، ثم تلته وثيقة (نداء السودان) التي وقعت عليها القوى السياسية المعارضة بالإضافة للجبهة الثورية، وتضمنت الوثيقة التي زاد عدد الموقعين عليها من القوى السياسية المعارضة “تفكيك دولة الحزب الواحد” لصالح دولة المواطنة المتساوية، واعتماد وسائل الاتصال الجماهيري اليومي وصولاً إلى “الانتفاضة الشعبية لتحقيق ذلك الهدف”. وشن مسؤولو الحكومة حملة فور التوقيع على (نداء السودان)، استهلها مساعد الرئيس “إبراهيم غندور”، بوصفه الاتفاق بأنه (حلف غير مقدس) مصيره الرفض والركل من السودانيين. كما أعلن نائب الرئيس “حسبو عبد الرحمن” حملة ضد موقعي الاتفاق، وأمر ولاة الولايات بفتح معسكرات الدفاع الشعبي وإعلان التعبئة والاستنفار، بعد أن وقعت المعارضة بشقيها المسلح والمدني بأديس أبابا، وثيقة (نداء السودان) التي نصت على تأسيس دولة المواطنة والديمقراطية في السودان والتزمت بمنح الأولوية لإنهاء الحروب والنزاعات وبناء السلام على أساس عادل وشامل بجانب الالتزام بالحل الشامل بوقف العدائيات في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق.
ويرى مراقبون أن اصطفاف المعارضة المدنية والمسلحة يمثل خياراً أنهي تطلعات الحزب الحاكم في الوصول بالحوار إلى نهايات لا تمثل تهديداً جدياً لسلطته، بينما يفتح المعارضون الخيارات إلى مداها بما في ذلك إسقاط النظام كخيار إستراتيجي وحيد، الأمر الذي جعل محطة الحوار الوطني محطة تجاوزها الزمن ولا يمكن الرجوع إليها بأي حال من الأحوال، وبينما تكسب المعارضة التي قدمت للداخل والخارج شواهد كثيرة على عدم جدية الحكم في التوصل إلى اتفاق سياسي حقيقي بداها باعتقال رئيس حزب الأمة ليختمها أخيراً باعتقال رئيس التحالف المعارض “فاروق أبوعيسى” وممثل منظمات المجتمع المدني الدكتور “أمين مكي مدني” الذي يحظى بعلاقات دولية واسعة عبر المنظمات الدولية الحقوقية وهو ما يسلط الضوء أكثر على عمق الأزمة السودانية.