منزل "عائشة" (الفلاتية) بالقضارف .. تفاصيل بددها الهجران
(المجهر) تقف على دلالات الزمان والمكان
القضارف – محمد جمال قندول
اختلفت الروايات حول معنى كلمة (القضارف) المدينة النائية بشرق السودان وسبب التسمية، ولكن الرواية الأكثر شيوعاً أن موقع مدينة القضارف كان يقام عليه سوق لمرتين في الأسبوع، يرتاده سكان القرى المجاورة وتجمعات الرحل، وكان منادياً يعلن دائماً على الملأ عند مغيب الشمس إغلاق السوق، داعياً إلى المغادرة. ويقول باللهجة العربية السودانية (اللي قَضَى يَرِفْ .. اللي قَضَى يَرِف) أي الذي قضى أموره عليه أن يغادر. ومن هناك انساب تداول العبارة، فكانوا يخاطبون بعضهم لنذهب إلى سوق (القضى يرف) وبتحريف بسيط في العبارة أطلق على السوق اسم (القضا – يرف). وهكذا مع تزايد الاستقرار حول السوق تحول إلى قرية حملت اسم القضايرف، فالقضارف.وبتسبب المنفعة في شيوع المدينة أكثر من الاسم، اجتذب الشاعر”علي عثمان إحيمر”، الوجدان والمزاج وهو يسطر غزليته الخفيفة الرائعة الرائجة القصيدة التي يصدح مطلعها: (يا سمسم القضارف …الزول صغير ماعارف …. يا قليب الريد كلما هديتك شارف).الإمتاع والدهشة وحدهما سيسيطران على حواسك وأنت تتجول في شوارع وأزقة وحواري أحياء المدينة، ولصخب سوقها الكبير والممهور بجلسات التسامر بقهوة (عجبين) طعم غريب بمزيج من الضجة والهدوء والإلفة والحنين.الطواف بأحيائها العريقة، العباسية، الرابعة وغيرها، ولكن لا محالة سيستوقفك حي أكتوبر وربما ينبهك شئ أو تتوقف من تلقاء نفسك .. فالمرور بمنزل الفنانة “عاشة الفلاتية” فرض عين وكفاية والذي يقع شمال سوق (ديم بكر) أحد أشهر أسواق المدينة وجوار خور أبو رفاعة أحد أكبر خيران القضارف ويحوي ثلاث قطاطي وكرنكاً. أبصرت “عائشة” النور في العام 1922 في القضارف، والدها “موسى أحمد إدريس” كان شيخاً ونشأت في أسرة دينية ونهلت من التصوف مقاماً لها.
(2)
وبرز المنزل كأحد أشهر المنازل نسبة لأنه كان خلوة دينية لوالدها الشيخ، كان يرتادها الكبار والصغار في القضارف في بداية القرن الماضي. وشهد حي أكتوبر الميلاد الحقيقي لمسيرتها الفنية حيث بدأت بالغناء متخذة رونق ومذاق الأغاني الخفيفة المعروفة بــ(التمتم)، مما جعلها مطلباً للمناسبات الاجتماعية المختلفة بالحي العريق، إضافة إلى الغناء برطانة الفلاتة مما ألصق بها لقب (عاشة الفلاتية). ولم تكن “عائشة” تجيد القراءة ولا الكتابة بالرغم من أنَّ والدها كان شيخاً وفقيهاً، وفي هذا الصدد لها قصة شهيرة إذ سئلت في إحدى الحوارات مع إذاعة مصرية هل أنت بالفعل أمية وتحفظين هذا الكم الهائل من الأغنيات. وكانت إجابتها بأنها أمية هي وأخيها الكاشف(أنا والكاشف أخوي)، ولاقت هذه القصة استحسان الناس لها لما عكست به “عائشة” عن وضوحها الشديد، ويحسب لها أنها كانت سريعة الحفظ مما جعلها محبوبة لدى الجميع.تزوجت “عائشة” وهي في سن مبكرة وأنجبت ولداً إلا أن زواجها لم يكتب له النجاح وانتهى بالطلاق، لتتفرغ “عائشة” تماماً لحياتها الفنية وتكرس باقي عمرها في الغناء والموسيقى. ويقال إن ابنها استقر بأم درمان والبعض يقول في سنار، لها أخت تقطن بحي الميدان ومازالت بنات أختها موجودات في حى الميدان، وتقدمت بهن السن وكن يمارسن الغناء في المناسبات الاجتماعية بالقضارف.كما لها أخت تقطن حالياً بحي الميدان اسمها “جدواية” وما زال صدى أسرة “عاشة” يذكر بالخير بأحياء القضارف. وثمة من يقول إنه لولا القضارف لما كانت “عائشة الفلاتية” وغيرها ممن أنجبتهم (القضارف)، وربما لو تركت الإجابة للراحلة الشفيفة الرقيقة “عائشة” نفسها لما وقفت كثيراً في محطة الاعتراف بأن (القضا يرف)، كما أنها أثرت في حياة من سبقها وأجبرتهم على ضرب خيامهم ومساكنهم البسيطة يتوسطون منفعتها وسمرها، ضربت بعيداً في أعماق (الفلاتية) وجعلتها تتدفق نغماً وشجناً ذاع كما ذاع اسم القضارف.