تقارير

الاقتصاد السوداني بين محنة الحرب وسطوة الدولار

حديث السبت
يوسف عبد المنان

هل تفتح (مبادرة البشير) عن ليبيا باب تسويات بين الإسلاميين والعلمانيين؟؟
قضيتا “عوضية عجبنا” والنقيب “أبو زيد” في عرين الشرطة
المبادرة التي أطلقها السودان لتسوية خلافات الفرقاء الليبيين بعد زيارة وزير الخارجية “علي كرتي” الأخيرة إلى طرابلس وإعلانه عن موافقة جميع الفصائل الليبية المتناحرة على المبادرة السودانية التي تحمل اسم (مبادرة البشير)، تمثل خطوة نحو استعادة السودان لموقعه في المنطقة العربية والأفريقية، واكتشاف خصائص دولة تملك أن تقدم الكثير للمنطقة لنزع فتيل التوترات التي تحيط بها.. لكن بتعاون أطراف أخرى مثل مصر والسعودية وتونس وتركيا.. والأزمة الليبية التي بعثرت صف الثوار وأقعدتهم عن النهوض بدولتهم تعود في الأساس إلى الصراع بين الإسلاميين والعلمانيين، وهو ذات الصراع في مصر واليمن وتونس، وحتى في السودان الدولة التي قدمت مساعدات كبيرة للثوار الليبيين، وبفضل مساعدات السودان لليبيين تمت الإطاحة بالنظام السابق، وتمت إزاحة العقيد “القذافي” من السلطة.. ولعب الإسلاميون الليبيون دوراً جوهرياً في إسقاط “القذافي”، حيث صمدوا في مواجهة آلة الموت.. وقدم الشباب الليبي روحه فداءً من أجل حرية شعب رزح طويلاً تحت قيد نظام دكتاتوري قمعي.. ويحتفظ السودان بعلاقة جيدة مع الإسلاميين الليبيين وغير الإسلاميين من الفصائل الليبية.. وجاءت المبادرة السودانية بعد زيارتين مهمتين للرئيس “البشير” إلى كل من القاهرة والرياض، التقى خلالهما بالقيادتين المصرية والسعودية.. وكلاهما لهما اهتمامات شديدة بالأوضاع في ليبيا، وتدعم مصر والسعودية “خليفة خفتر” الذي يمثل الوجه العلماني للصراع.. لكن بعد أكثر من عامين أيقنت القاهرة والسعودية أن حل النزاع في ليبيا يمر عن طريق الخرطوم التي تحتفظ أو ينبغي لها أن تكون ذات علاقة جيدة بالإسلاميين في المنطقة، الذين يشكلون رقماً صعباً في معادلة استقرار المنطقة ومكافحة الإرهاب.. ومحاولات إقصاء الإسلاميين بالقوة الجبرية والبطش والتنكيل ستنتهي إلى فشل ذريع يجعل المنطقة بؤرة للصراعات والأحداث الدامية.. وما يحدث في سوريا الآن دليل إثبات على أن الثوريين في المنطقة هم الإسلاميون!! ومصر التي يقودها تحالف العسكر والعلمانيين مهما اتخذت من تدابير القمع ومحاولة إلغاء وجود فصيل إسلامي مهم جداً في المجتمع، لن تستطيع.. ومهما طال الزمن وفاضت السجون بالأحرار فإن الفريق “السيسي” سيبحث يوماً ما عن حل سياسي مع التيارات الإسلامية حتى تستقر بلاده ويحافظ على سلطته.. وكذلك الوضع في اليمن الذي اختارت دول الخليج إسناد (الحوثيين) الشيعة على حساب الإسلاميين السنّة.. وفي هذا المناخ يجد السودان نفسه قادراً على فعل الكثير جداً وإحداث التقارب بين الإسلاميين والعلمانيين إذا ما حافظ على علاقته بالتيارات الإسلامية، رغم الضغوط الكثيفة التي تنهال عليه.. وهي ضغوط تأتي من دول الخليج ومصر دون تدبر وقراءة لمآلات الصراع في المنطقة.. فالسودان إذا فقد صلته بالتيارات الإسلامية، وركب قطار التيار العلماني سيفقد كل شيء وستبحث دول المنطقة عن وسيط يكون مقبولاً للإسلاميين لإنجاح أي حوار بين مكونات الساحات المصطرعة في اليمن ومصر وليبيا وسوريا.
ونجاح مبادرة “البشير” رهين بإشراك مصر والسعودية والكويت والإمارات، لأن هؤلاء حلفاء لجماعة “خليفة حفتر” وقادرون على حمله على التواثق مع بقية الثوار لتقاسم السلطة من أجل استقرار الدولة الليبية، وليت الإسلاميين في ليبيا اتخذوا من “راشد الغنوشي” وتجربته هادياً لهم وهم يواجهون محاولات إقصاء من مستوى الفعل إلى مستوى الوجود.. لقد أدرك “الغنوشي” بتعليمه الرفيع وفلسفته العميقة أن التنازل مؤقتاً من أجل الحرية والديمقراطية مكسب للتيار الإسلامي أكثر من التشبث بالسلطة والحرص على مقاعد الحكم، فآثر أن يحافظ على النهضة في الساحة السياسية بدلاً عن فقدان وجودها وتقديم بلاده لقمة سهلة للتيار العلماني المتحالف مع المؤسسة العسكرية.. ومع اختلاف الوعي بين “الغنوشي” وكثير من زعماء الإسلام السياسي في المنطقة، فإن مدرسة الفلسفة قد نجحت في تونس، بينما فشلت مدرسة المواجهة في مصر، حيث خسر الإسلاميون سلطتهم وحرية بلادهم بإصرارهم على المواجهة مع الآخر.
إن نجاح مبادرة “البشير” سيفتح باب التسويات واسعاً لاستقرار المنطقة إذا أصدق الشركاء والفرقاء الليبيين.
{ محنة الاقتصاد والدولار
هل أثمرت الإجراءات التقشفية التي اتخذتها الحكومة العام الماضي تحسناً في الأوضاع الاقتصادية؟؟ وهل الانخفاض الذي شهده سعر الدولار الأمريكي في الشهر الماضي هو نتاج لتلك السياسات؟؟ ولماذا تصاعدت أسعار السلع الاستهلاكية وانخفضت في ذات الوقت أسعار المحصولات الزراعية من سمسم وكركديه وفول، ما جعل المزارعين يجأرون بالشكوى ويطالب اتحاد المزارعين بتدخل الدولة لشراء المحاصيل الزراعية وإعلان سعر أدنى لشراء الذرة والسمسم حماية للمزارعين من الإعسار والفشل في الوفاء بالتزاماتهم مع البنوك التي (مولت) القطاع الزراعي غير التقليدي؟؟
العام الماضي شهد (موضة) سياسية لخفض الإنفاق وتقليص هياكل الدولة، وقد ذهب جراء تلك (الموضة) عدد محدود جداً من الدستوريين بدعوى ترشيد الإنفاق.. وتم إلغاء محدود لوظائف المستشارين والخبراء الوطنيين.. لكن الحكومة لم تكشف بالأرقام لشعبها العائد من تلك القرارات، أي خفض عدد الدستوريين وإلغاء وظائف بعض المستشارين.. وفي الواقع هي مبالغ ضئيلة جداً لا تشكل عبئاً حقيقياً على الخزانة العامة، حيث يتقاضى الدستوري في حكومة السودان راتباً ضعيفاً جداً، بل في ظل الحكومة وشركاتها هناك موظفون يتقاضون مرتبات تفوق الـ(40) ألف جنيه في الشهر ولا يتعدى راتب الوزير الـ(10) آلاف جنيه.. لكن الإجراءات التي كان لها أثر حقيقي في تحسن إيرادات الدولة هي جهود وزير المالية الحالي “بدر الدين محمود” في مكافحة ومحاربة تجنيب المال العام في صمت وبعيداً عن وسائل الإعلام، حيث نجح “بدر الدين” في ما فشل فيه “علي محمود” ومن قبله د. “عوض الجاز”.. وأرغم “بدر الدين” الوزارات الحكومية بما في ذلك الشرطة والجيش على الالتزام بأورنيك (15) في تحصيل المال من جبايات شرطة المرور وعائدات الخدمة الوطنية.. إلا أن الفشل السياسي في الوصول إلى تجفيف منابع الدم ووقف الحرب قد أثقل على الخزانة العامة.. وأي جهود اقتصادية لتحسين الإيرادات وزيادة الضرائب والحصول على قروض ومساعدات مالية من الخارج لن يكون لها أثر على الاقتصاد في ظل استمرار الحرب، حيث يمتص أزيز الرصاص المال كما حوض الرمال للمياه في صحارى كردفان.
الوضع الاقتصادي الحالي لا يبشر بخير، فهناك ركود الآن في الأسواق، وبدأت بوادر شح في دقيق القمح لأن الحكومة (تحتكر) استيراد القمح لثلاث شركات فقط، وترفض فتح الباب واسعاً لغير شركات “أسامة داوود” و”جمال الوالي”.. ورغم أن هذين يمثلان مصدر ثقة ومن المقربين والمحظيين بالرعاية إلا أن دولة تمنح عنقها لرجلين فقط هي دولة غافلة.. فالقمح أصبح سلاحاً وسلعة سياسية، وتغير وتبدل نمط استهلاك المواطنين بعد أن أصبح نصف سكان البلاد يأكلون القمح فقط.. وقد فشلت كل محاولات زراعة القمح في السودان، وأنفقت الدولة أموالاً طائلة وأهدرت موارد كبيرة لتوطين زراعة القمح في الشمالية، ورغم ذلك تمثل اليوم فاتورة استيراد القمح أعلى نسبة واردات.. وفي ذات الوقت تشهد أسعار الذرة انخفاضاً في موسم الإنتاج حتى مارس لتبدأ الأسعار في التصاعد، وحينها يفقد المزارع البسيط كل إنتاجه وتستفيد فقط طبقة المزارعين الأغنياء.. أما ملح الأرض ومساميرها فهم يزرعون ويحصدون الدموع والفشل.. وفي هذا العام شجعت الدولة المزارعين على زيادة المساحات المزروعة بالسمسم، لكن في بدايات موسم الحصاد الآن تشهد أسعار السمسم انهياراً مخيفاً، قد يؤدي في المستقبل إلى عزوف المزارعين عن زراعة السمسم والفول السوداني.
والمشهد الاقتصادي في بلادنا، رغم التصريحات المتفائلة لبعض المسؤولين، لا يعبر إلا عن مزيد من التدهور في الإنتاج وشظف العيش وتدهور سعر العملة الوطنية، وقد بشرت لجنة مراجعة الأجور بزيادات في مرتبات العاملين في الدولة بحلول يناير القادم، إلا أن الزيادات غالباً ضررها أكثر من نفعها.. ومع زيادة مائة جنيه أو خمسمائة جنيه تتضاعف أسعار السلع في اليوم التالي مباشرة، وترتفع معدلات التضخم وتتدهور العملة الوطنية مقابل الدولار الأمريكي.. ومن المفارقات أن الدولار الأمريكي ظل سعره يشكل هبوطاً في كل البورصات العالمية، وفقد وجوده تماماً في كل أوروبا وحل مكانه اليورو، وقد أعلنت الحكومة من قبل أنها تتجه للتعامل مع اليورو، إلا أن الدولار حافظ على وجوده في الساحة الاقتصادية.. وما بين السودان والولايات المتحدة الأمريكية قطيعة كاملة إلا أن اقتصاد السودان ظل مرتبطاً عضوياً باقتصاد دول الخليج ومصر التي يسيطر عليها الدولار الأمريكي.
{ الشرطة بين قضيتي “عوضية” و”أبو زيد”
خلال الأسبوعين الماضيين شغلت قضية “عوضية عجبنا” الرأي العام مجدداً بعد صدور قرار ابتدائي بإدانة الملازم شرطة “حامد” بالإعدام شنقاً حتى الموت لارتكابه جريمة القتل.. وعاطفة السودانيين الجياشة مالت بعد صدور الحكم للضابط القاتل بعد أن تعاطف الرأي العام ووقف إلى جانب الضحية “عوضيه عجبنا”، وامتثلت الشرطة بكل تقدير واحترام للقانون إلى الحكم الصادر، وكيف لا تمثُل الشرطة للقانون وهي جهاز معني بتنفيذ أحكام القانون.. وحاولت بعض الأقلام إثارة الشرطة وهي تبدي تعاطفاً معها وتذرف دموعاً هي دموع مصنوعة لتحريض الشرطة على رفض قرار الحكم الصادر.. لكن ولوعي قيادة الشرطة ويقينها التام بأن القضاء هو الحاكم العادل بين الشخصيات الطبيعية والاعتبارية، وأن ساحة التقاضي لا تزال رحبة، أذعنت لحكم القضاء، واتجهت لاستئناف الحكم الصادر بحق ضابط صغير في السن وبالتالي قليل التجربة كان يؤدي واجبه وفق ما صدر إليه من توجيهات ممن هو أعلى منه رتبة.. لكنه حسب قرار المحكمة أساء التصرف وتقدير السلطة التي بيده، وأزهق روح فتاة بريئة خرجت دفاعاً عن شقيقها لتدفع ثمن ذلك روحها الغالية.
وأُسقط في يد جهات عديدة (نفخت) في كير العصبية والجهوية والعنصرية بأن القضاء لن (يحاكم) الجاني خاصة بعد أن تم تأجيل جلسة النطق بالحكم لعدة جلسات.. وفي مهرجان غنائي وفولكلوري ثقافي للشعوب الأصيلة كما ادعى منظموه في أمبدة رفعت صورة “عوضية عجبنا” تضامناً معها، واستغلالاً لحادث مقتلها.. لكن صدور الحكم أخرس كثيراً من الألسنة التي أخذت تلوك في سيرة القضاء دون تدبر.. والآن أمام الجميع فرصة للمراجعة وإعمال مبدأ العفو والتصالح إذا ما أقبلت أسرة الملازم “حامد” كأسرة وليست الشرطة كجهاز حكومي.. وتبعاً للأعراف والتقاليد فإن العفو والدية لهما شروط ومطلوبات، أولها أن تواسي أسرة القاتل أسرة القتيل، وتعترف بخطأ ابنها وتطلب العفو والصلح.. وهنا يجلس كبار القوم من القبيلتين، لا أهل السلطة ولا منتسبي الشرطة، في جلسات ليبلغوا مرحلة العفو وقبول الدية والتواثق على حلف اجتماعي يجمع الأسرتين أو القبيلتين (لها المتلها)، أي في مقبل الأيام والسنين إذا حدثت جريمة قتل بين القبيلتين فإن واجب التعافي والتصافي وقبول العفو والدية مثلما قبلت القبيلة التي قتل ابنها أو ابنتها اليوم.. ولكن التعويل على السلطة والقوة والنفوذ في الدولة لن يصل إلى نتائج قريباً، ودرجات التقاضي تمتد والسنوات تتطاول، وقد ماتت “عوضية” ولن تعود للحياة، لكن سيبقى الملازم في السجن وينتظر حكم الإعدام إذا لم تسع أسرته وعشيرته لصلح اجتماعي مع ذوي القتيلة.
القضية الثانية التي أثارت جدلاً في الساحة هي قرار المحكمة الدستورية القاضي ببطلان قرار طرد النقيب شرطة “أبو زيد عبد الله” من الخدمة، وإعادته مرة أخرى إليها.. من جهة عدلية تعدّ أحكامها ملزمة ونهائية لكل أجهزة الدولة.. وقد وجد النقيب “أبو زيد” تعاطفاً من الرأي العام بعد أن نجح اللواء د. “الطيب عبد الجليل” وهو خبير قانوني وصحافي حاذق، جمع ثلاث مهن في وقت واحد ضابط شرطة محترف وفي ذات الوقت قانوني ضليع، وأخيراً كاتب صحافي أنيق العبارة ورشيق الكلمة.. وظف “الطيب عبد الجليل” كل هذه المواهب والخبرات في قضية النقيب “أبو زيد” حتى صدر الحكم النهائي من المحكمة الدستورية.. لكن بعد صدور الحكم ثمة أسئلة تنتظر الإجابة.. هل تعدّ قضية “أبو زيد” سابقة قد يلجأ بعدها أي ضابط تمت إحالته للتقاعد وفق القانون لمناهضة قرار الإحالة.. والسعي ليعود إلى الخدمة مرة أخرى؟؟ وكيف يتم تقييد أيدي الشرطة بالقوانين والمحاكم وللشرطة تقاليدها الخاصة في حفظ أسرار منسوبيها وعدم الكشف عن الأسباب التي تؤدي إلى إحالتهم للتقاعد بتقارير أداء خاصة جداً لا يطلع عليها إلا مدير عام قوات الشرطة والقائد العام.. وبموجبها تتم إحالة الضابط للتقاعد؟؟ وهل صدور مثل هذه الأحكام النهائية من المحكمة الدستورية ستترتب عليه مراجعات كبيرة لتقارير الأداء.. وقد نقلت الصحف الصادرة (الثلاثاء الماضي) تقديم ضباط آخرين شكاوى مطالبين بإعادتهم للخدمة؟؟ وهل ضابط أو ضابط صف تمت إعادته للخدمة بموجب حكم قضائي يستطيع مزاولة عمله دون رضا قيادته؟؟ وهل مثل هذا الحكم القضائي يعدّ عاصماً له عن أية محاسبات قادمة؟؟ تلك أسئلة نضعها أمام الرأي العام بعد أن أصبحت قضية النقيب “أبو زيد” شأناً عاماً.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية