التفحيط : ظاهرة أقلقت مضاجع الأسر والأجهزة الأمنية
(علي طريقة الكاوبوي)… فرد العضلات وفتح الصدر لمواجهة لعبة الموت معظم المفحطين أبناء أسر ثرية ومتنفذين.
ــ مدير شرطة المرور: عقوبات رادعة حد السجن والغرامة
ـــ حملات التفحيط أسفرت عن إحصائية عالية ثم بدأت في الانخفاض
ـــ استشاري نفسي: التفحيط تعبير عن الشعور وإظهار القوة البدنية والتباهي والتفاخر
ـــ ميكانيكي يشرح لـ(المجهر) عملية التفحيط
تحقيق ـ هبة محمود
يقوم السائق باستخدام سرعة جنونية ويحدث حركة مزدوجة ومفاجئة تستدير على إثرها السيارة في المكان وينعكس اتجاهها فيتطاير الدخان والغبار حد حجب الرؤية معرضاً بذلك حياته للهلاك، لأنه يمارس هواية أو لعبة مفضية للموت تعرف بـ(التفحيط).
منذ أكثر من عامين بدأت هذه الظاهرة ـ التفحيط ـ تشق طريقها داخل شوارع وأحياء بعينها في ولاية الخرطوم، تناولتها وسائل الإعلام المختلفة على خلفية وقوع حوادث وصدامات نجمت عنها، فضلاً عن بلاغات وشكاوى من الأسر. وبحسب شرطة مرور ولاية الخرطوم فإن بدايات الحملات للتفحيط أسفرت عن إحصائية ضبط عالية سرعان ما بدأت في الانخفاض بفضل الحملات المستمرة، بيد أن الأجهزة الأمنية قبل أسابيع مضت دقت ناقوس الخطر واعتبرت التفحيط من المهددات الأمنية أسوة بالمخدرات والتشدد (التطرف الديني).. (المجهر) استعرضت هذه الظاهرة من خلال التحقيق التالي..
ما بعد منتصف الليل
ما إن يخلد الجميع للنوم ليزيحوا عن أجسادهم عناء يوم طويل مشمس وشاق كيما يفيقوا أكثر نشاطاً وحيوية، ينشط في الجانب الآخر من مدينة الخرطوم ببعض شوارعها وأحيائها بعض من الشباب بعد منتصف الليل وتحديداً عند الواحدة والثانية صباحاً ليمارسون هوايتهم ـ التفحيط ـ حيث لا يفصل حينها بينهم والموت والعاهات المستديمة سوى شعيرات قليلة نتيجة ما يمارسونه بالسيارات التي يعطبون محركاتها ومكابحها ويسحقون (إطاراتها) التي سرعان ما يضطرون لاستبدالها خلال أيام الأمر الذي يعكس مدى الرفاهية التي يعيشها هؤلاء.
و(المفحطون) في السودان يُصنفون على أنهم أبناء (ذوات)، وبحسب مصدر لـ(المجهر) فإن هؤلاء الشباب أبناء أسر ثرية ومتنفذين يقومون بتغيير مواقع (تفحيطهم) من وقت لآخر هرباً وتضليلاً لرجال المرور، كما أنهم يقومون بالتجمع بعد الثامنة مساء في بعض المحال الشهيرة بالخرطوم لتنسيق موعد بداية السباق وفي أي الطرقات سيكون. ولفت المصدر إلى أن بعضهم يتعمد (التفحيط) في أوقات غير متأخرة بشارع النيل ليجذب انتباه الفتيات ما يؤدي لوقوع حوادث كثيرة.
تهديد السلامة المرورية
اللواء عمر نمر معتمد محلية ولاية الخرطوم بدأ أكثر اهتماماً بتنامي ظاهرة التفحيط التي يمارسها الشباب، حيث اعتبرها من المهددات الأمنية التي تضر بالمجتمع إلي جانب التشدد (التطرف الديني) والمخدرات وذلك من خلال الندوة التي أقيمت في إطار أمن ولاية الخرطوم الأسابيع الماضية بمركز التنوير المعرفي.
من خلال الندوة اشتكى ممثل شرطة ولاية الخرطوم العميد “علي محمد عثمان” من ظاهرة التفحيط التي ظلت تؤرق الأجهزة الأمنية بأحياء الرياض والمنشية، مشيراً إلى أن يوم (الخميس) من كل أسبوع تبذل الشرطة جهداً كبيراً وتكاليف عالية عبر رجال المرور والدوريات لمكافحتها. وكشف “اللواء نمر” في تصريح سابق عن اتخاذهم إجراءات عقابية صارمة تجاه المخالفين تصل لسحب رخصة القيادة من ممارسي (التفحيط) وحجز سياراتهم لإخلالها وتهديدها للسلامة المرورية. وقال: (إن الفترة المقبلة ستشهد حملات مكثفة وتواجداً شرطياً دائماً في المناطق المستهدفة التي تمارس فيها هذه الهواية).
معظمهم أبناء موظفين
رغم أن الأجهزة الأمنية دقت ناقوس الخطر من تنامي هذه الظاهرة بالولاية إلا أن مدير شرطة مرور ولاية الخرطوم اللواء “عمر بن الخطاب الصادق” قلل من خطورة الأمر، معتبراً أن ما يحدث لا يعدو كونه ظاهرة موجودة داخل المجتمع انحسرت كثيراً، لافتاً إلى أنه تم تكثيف حملات توعوية وإرشادية وحملات ضبط مروري بواسطة قوة مرور ولاية الخرطوم ضمت مباحث المرور التي استعين بها لتجنب المطاردات حيث يتم استدعاء مالك المركبة بعد مراجعتها في الحاسوب.
وأوضح اللواء ابن الخطاب لـ(المجهر) أن بداية حملات (التفحيط) أسفرت عن إحصائية ضبط عالية سرعان ما بدأت في الانخفاض تحت استمرار الحملات والعقوبات الرادعة التي تصل حد السجن والغرامة، مشيراً إلى أن الحملات تستهدف يومياً مواقع مختلفة بقوة كبيرة تحت إشراف ضابط برتبة عقيد شرطة، لافتا إلى أنهم ـ أي المفحطين ـ كثيراً ما يتواجدون بجوار مستشفى دريم وشارع الستين. وقال: (ليس الأمر كما يقال إنهم ينتمون لأسر ثرية بل بينهم شباب ليسو من الرياض أو المنشية معظمهم أبناء موظفين.
واستنكر محدثي مقارنة ظاهرة (التفحيط) وتشبيهها بالمخدرات والتطرف الديني من قبل الأجهزة الأمنية، مبيناً أن طرقهم لمحاربة الظاهرة أتت أكلها وذلك من خلال التواجد الفعلي لرجال المرور والغرامات والمحاكمة، داعياً إلى ضرورة إرشاد هؤلاء الشباب وتوعيتهم بعواقبها.
تمرد وتعبير عن الذات
اعتبر استشاري الطب النفسي والعصبي وأستاذ الصحة النفسية “د.علي بلدو” أن (التفحيط) ما هو إلا تعبير عن الشعور بالجموح والرغبة في التمرد والتعبير عن الذات ووسيلة للفت الانتباه ونيل إعجاب الآخرين ومحاولة إظهار القوة البدنية والذهنية، لافتاً إلى أن بعض الأشخاص من فئة الشباب تحديداً يميلون للتباهي والتفاخر وإبراز الإمكانات المادية، أيضاً محاولة للتغطية على الثقوب النفسية التي يعانون منها بحد قوله. وقال إنهم يعانون من الاغتراب الداخلي حال سفر الوالدين أو انفصالهما.
وألمح “بلدو” في إفاداته إلى أن (التفحيط) يعتبر صورة من صور الاستلاب الحضاري من خلال نقل ثقافة مجتمعات أخرى إلى داخل المجتمع المحلي والرغبة في خلق واقع مشابه لواقع عاشه المفحط سابقاً ويعتبر الأمر في حد ذاته هروباً نفسياً ورغبة في التعايش والتأقلم بهذه الطرق الخطيرة.
تفحيط حتى بعد المحاسبة
ودعا بروفسور “بلدو” إلى ضرورة تعديل هؤلاء الشباب سلوكياً وإعادة برمجتهم سيكولوجياً حتى يبتعدوا عن هذه الظاهرة، موضحاً إن بعض (المفحطين) تكون لديهم نزعة نحو العنف والرغبة في إيذاء الآخرين وروح المخاطرة وعدم الاعتراف بأعراف المجتمع وتقاليده والذي في الغالب تكون لديهم صعوبات في إيجاد الذات وتكوين الشخصية وعدم القدرة على التماسك الداخلي واحترام النظم والقوانين. وزاد أن الكثير منهم يعود للتفحيط مرة أخرى حتى بعد محاسبته وزجره غير مبالين بالغرامات والعقوبات نسبة لعدم حل إشكالاتهم النفسية وعدم تلقيهم جرعات في الإرشاد النفسي ودعمهم اجتماعياً.
كيفية لعب المفحطين
وبعيداً عن المشكلات النفسية التي يعاني منها (المفحطون) التقت (المجهر) بميكانيكي السيارات “مهدي التجاني حسين” حول حقيقة إجراء تعديلات علي ماكينة العربة تتناسب والتفحيط إلا إنه نفى ذلك. وأوضح أن السيارات المستخدمة لممارسة هذه الهواية يجب أن تكون (جديدة ونظيفة).
وطفق “مهدي” يشرح الكيفية التي يتلاعب بها المفحطون بالعربة لتصدر أصواتاً وهي نتيجة ضغطهم لـ(الكلتش بالشمال) و(الأبنص باليمين) فتزداد سرعة الإطارات الخلفية وتدور أكثر من الأمامية مخلفة سحابة من الأتربة مصحوبة بأصوات مزعجة، الأمر الذي يلحق أضراراً بالغة بالعربة ويؤدي لتآكل إطاراتها.
وبعد…
تشير (المجهر) إلى أنه حتى كتابة هذا التحقيق لم تتسلم إحصائية بعدد البلاغات والحوادث والوفيات الناجمة جراء (التفحيط) ولا حتى عددية إحصائية الضبط العالية التي تحدث عنها مدير شرطة مرور ولاية الخرطوم اللواء عمر بن الخطاب الذي وعد بتمليكنا هذه الإحصائيات بعد ذهابنا إليه في مكتبه عدة مرات، إلا أنه لم يستجب لمكالماتنا ورسائلنا. في الوقت ذاته أكدت مصادر موثوقة وقوع حوادث جمة نتيجة ممارسة الشباب للعبة الموت، واستشهد بحادثة طلبة كلية الطب الثلاثة الذين (فحطوا) بتهور واستقروا بشجرة بشارع النيل أودت لوفاتهم في الحال وغيرها من الحوادث.