المفكر ومستشار (مؤسسة روز اليوسف) المصرية المصري "د. محمد البغدادي" لـ(المجهر) (1-2):
الشيوعي السوداني كان من أقوى الأحزاب عربياً.. لكن “الترابي” قاد حملة ضده..
مشكلة “ناصر” أنه كان ينوب عن الشعب في اتخاذ القرارات
حوار – محمد إبراهيم الحاج
يعتبر المفكر والصحافي والفنان التشكيلي “د. محمد غريب” مستشار تحرير (مؤسسة روز اليوسف) المصرية من أقدر الناس على التحدث عن مآلات الفكر القومي والناصري وانحسار تلك التجارب بعد وصول “السادات” للحكم، لأنه عايش كل تحولات السياسة المصرية منذ حرب النكسة وكان ضابطاً في جيش الاحتياط وأحد أبطال (حرب أكتوبر) المصرية، وهو كذلك من الذين أثاروا جدلاً كبيراً أثناء كتابته سيناريو وحوار أكثر المسلسلات التي أثارت جدلاً عالمياً قبل عدة سنوات وهو مسلسل (فارس بلا جواد) الذي قام ببطولته الفنان “محمد صبحي”، يكشف لنا فيه “البغدادي” ما وجده من تهديدات إسرائيلية وأمريكية بعد كتابة العمل الدرامي الكبير.
“د. البغدادي” صاحب إنتاج فكري وثقافي وفني كبير، ومعروف أنه ألف أكثر من (38) كتاباً عن رموز الفكر والثقافة والفن في مصر، بالإضافة إلى كتابته عشرات الكتب عن الأطفال.
(الحوار الثقافي السوداني المصري)، كان هو عنوان الورشة التي بادر بها (مركز راشد دياب للفنون) والتي اختتمت خلال هذا الأسبوع، وأشرف عليها “د. البغدادي” بمشاركة عدد من المثقفين والفنانين.
(المجهر) التقته وأدارت معه حواراً متنوعاً تنقل فيه عبر الشأن الفكري والثقافي بـ”مصر” و”السودان”، فإلى مضابطه:
{ بداية مرحباً بك في “السودان” وندلف مباشرة إلى أهم المحطات التي شكلت فكر ووجدان “د. محمد البغدادي”؟
– أهم ملامحها أنني مواطن مصري محب للوطن ومحب للحياة ومحب للفنون والإبداع والمعرفة بشتى أنواعها.. بدأت علاقتي بالفكر منذ كنت طالباً بالمرحلة الثانوية حيث كنت أحرر مجلة حائط في عام 1966م عندما كنت في أولى ثانوي وكان “شعراوي جمعة” محافظاً لمدينة “السويس” وكانت تعلق في الميادين والمصانع، وعندما حدثت حرب (67) خرجنا من “السويس” قسراً لظروف التهجير.
{ وأين كنت وقتها؟
– كنت طالباً والتحقت بالجامعة عام (68) وهي كانت بداية علاقتي بالشباب الثوري، وشهدت تلك الفترة تمرداً عنيفاً بين طلاب الجامعات وكنت أحد الثائرين ضد الجنرالات الذين تسببوا في هزيمة (67) الذين صدرت ضدهم أحكام مخففة، وثرنا ضد هذه الأحكام وتم سجن بعض القيادات الطلابية، ثم توفى الرئيس “ناصر” وجاءت فترة “السادات” التي شهدت حالة تمرد عنيفة في عام 1972م وكنت وقتها رئيس اتحاد طلاب (جامعة عين شمس).
{ أنتم أبناء الحلم الناصري الذي لم يكتمل؟
– جيلنا وعد بالتطور والنهضة العظيمة والمشروع الناصري، وكل هذه المشاريع العظيمة تفتحت أذهاننا عليها وكنا وقتها قراء جيدين، ونعتقد أننا رجال الوطن القادم أو هكذا تم إيهامنا بأننا بالفعل هكذا وكنا مهيئين لذلك، ووقتها انتهيت من قراءة “نجيب محفوظ” و”يوسف إدريس” و”محمد عبد الحليم” وكثير من القراءات النقدية للدكتور “محمد مندور” و”لويس عوض” وأشعار “بدر شاكر السياب” و”نزار قباني” و”الفيتوري” و”صلاح عبد الصبور”، وتعرفنا على صوت “محمود درويش” من خلال أشجار الزيتون و”سميح القاسم”، وبدأنا مرحلة من التثقيف العميق، وكنا ندرك تماماً أن الثقافة والمعرفة هما سلاح الزمن القادم، وتعرفنا على سبل الكتابة وأساليبها وبدأنا كتابة الشعر وتحرير الصحف في المدارس الابتدائية والإعدادية، ثم انتقلنا للجامعة خلال فترة المد الثوري، وكنت أحرر (98) مجلة حائط أسبوعية.
{ (98) مجلة عدد كبير جداً؟
– أجل.. كانت توضع أكثر من عشر مجلات يومياً وترفع الأسبوع القادم واليوم التالي وهكذا ومعي أسرة تحرير لكل مجلة.. واحدة تكتب في الكاريكاتير وأخرى في السياسة والثقافة والفن.
{ هذه الفترة التي ظهرت فيها مقولة (القاهرة تكتب وبيروت تطبع والخرطوم تقرأ)؟
– ربما هذه المقولة تخص الحركة القومية العربية في الجانب الثقافي منها، ولكن كان الحراك الاجتماعي في ذلك الوقت سائرين على الردة التي أحدثها “السادات” في مواجهة المد الناصري والقومي العربي، وكانت هناك ردة ومقاومة لهذا التيارات الناصرية واليسارية والتقدمية، وكنا محسوبين على هذا الاتجاه.. ليس لأننا كنا منضمين لأحزاب سرية أو معلنة، ولكن كانت الاستنارة تأتي من هذا الجانب.
{ ما هي أبرز سلبيات الردة التي كانت بمثابة وبال على معظم أجيال تلك المرحلة؟
– انكسار الحلم بعد (67) وانهيار المشروع الناصري أدى إلى تواري مجموعة كبيرة من كبار مثقفي ورموز الثقافة اليسارية التقدمية وحدث لهم إخفاق مثلاً “صلاح جاهين” الذي كتب كل أشعار “عبد الحليم حافظ” وكان منشد الثورة التي تؤيد “جمال عبد الناصر” على ألحان “كمال الطويل” أصيب بالاكتئاب، وقال عن نفسه إنه ساهم في تضليل جيل بأكمله بهذه الأغنيات ولم يكن يعرف أن هذا النظام هش إلى أنه يهزم في ست ساعات، وتواري هذه الرموز جعلتنا نحن الوحيدين من الشباب في مواجهة الردة التي أحدثها “السادات” وأحدث الردة بأنه عندما حدثت وقائع الانقلاب عليه فيما عُرف بـ(ثورة التصحيح) وسجن كل رموز 23 يوليو من “علي صبري” و”شعراوي جمعة” ووزير الحربية الفريق “محمد فوزي” و”محمد فائق” مهندس السياسة، وعندما يسجن كل هؤلاء وبعد ذلك يبدأ خطوة في تقليص وجود المستنيرين واليسار ويقوم بسجن مجموعة كبيرة منهم ويعتقلهم وتصدر ضدهم أحكام ويتم إخراج جماعة الإخوان المسلمين من الاعتقال منهم “عمر التلمساني” وأعادوا إصدار (مجلة الاعتصام) و(مجلة الدعوة)، والتقى بجميع قيادات الإخوان المسلمين الذين خرجوا من سجون عبد الناصر، وأعطاهم حرية الحركة كي يقوموا بدورهم في الحياة السياسية بديلاً عن التيار التقدمي، وأدخلهم الاتحاد الاشتراكي على حساب طرد مجموعة كبيرة من الرموز السياسية والثقافية، وحل الإسلام السياسي محل التيار التقدمي، وأيضاً تعاونت أجهزة الأمن الساداتية مع طلاب تم تجنيدهم ليكونوا مقاومين للحركة الطلابية وكانت بدايتها تمزيق المجلات وضربنا بـ(السيخ) و(المطاوي)، وتم سجننا وإقصاؤنا وتم القبض على قيادات الحركة الطلابية وظلت مطاردة دائماً.
{ هذا الصراع العنيف بين قوى اليسار واليمين كان شبيهاً إلى حد بعيد بالحركة السياسية لدينا هنا في السودان.. هل ترى أن هذا الصراع ساهم بقدر وافر في نضج الحركة السياسية في البلدين أم أنه كان معولاً من معاول الهدم؟
– كانت هذه الحركة معولاً من معاول الهدم مثلما وصفت لأن التيارات التقدمية وانتماءات الشباب لها لم يكن يتم قسراً، لأن “عبد الناصر” نفسه اعتقل كل حركة اليسار المصري من عام (59) حتى عام (64) وكانوا في داخل السجون والمعتقلات في عز نهضة مصر وبناء السد العالي وثورة التصنيع والتنمية الاقتصادية التي أحدثها “ناصر”، وكان في ذلك الوقت اليسار المصري خلف قضبان السجون التي كانت تمتلئ برموزه أمثال “محمود أمين العالم” و”د. لويس عوض” و”فؤاد حداد” و”لطفي الخولي” و”صلاح حافظ”، كل هؤلاء كانوا في السجون ورغم ذلك كان التوجه العام توجهاً تقدمياً لأن كل الفترة التي تلت ثورة 23 يوليو نتاج استنارة قادها من قبل “لطفي السيد” و”العقاد” و”يحيى حقي” و”طه حسين” و”محمد مندور” خلال فترة الثلاثينيات، وكان ذلك نتاج هذه الأجيال. وعند وفاة “عبد الناصر” وأعتقد أن وفاة “عبد الناصر” الحقيقية كانت في عام (67) وهو الذي قام بإعادة تكوين الجيش المصري على عبور (خط برليف)، ولكن عندما جاء “السادات” كان لابد أن يسقط المشروع القومي العرب الناصري على مستوى الوطن العربي في مخططات الرجعية العربية، وعندما نراجع التاريخ سنجد أن (ثورة ظفار) كان يقود الحرب ضدها مع والد السلطان قابوس، وفي “سوريا” كان هناك (حزب البعث) و(الحزب السوري)، وفي “السودان” كان (الحزب الشيوعي) أقوى الأحزاب الشيوعية في العالم، ولكن “الترابي” كان يقود حملة ضده، وكانت “اليمن” التي تحررت تتأرجح، والخلافات في “الجزائر”، كان يمضي ضد المشروع التقدمي حركات انفصالية كانت تتبلور جماعة “سلفاكير” و”قرنق” في السودان، وكانت هناك تنمية في “الصومال” و”إريتريا” لكنها تراجعت، ولهذا كان هذا المشروع لابد أن يسقط.
{ إذن أنت تقر بأن الأفكار الثورية واليسارية سقطت على المستوى الإقليمي والعالمي منذ سبعينيات وستينيات القرن المنصرم، ولهذا هل من الممكن أن نقول إن المقولة الاشتراكية الشهيرة أن الرأسمالية تحمل عوامل فنائها في جوفها قد ارتدت عليهم؟
– كانت تحمل عوامل فنائها في جوفها، ولكن من منظور آخر وهو أنه ما أدى إلى فشل المشروع القومي الناصري هو غياب الديمقراطية الحقيقية، فقد كان “عبد الناصر” لديه كاريزما حقيقية وقائد وطني وعربي ويقود حركة تحرر العالم الثالث ولكنه نسي شيئاً مهماً وهو أنه كان ينوب عن الشعب في كل شيء، ولم يصنع مؤسسات وقوى ثورية وسياسية حقيقية ولم يصنع قواعد، وحتى الاتحاد الاشتراكي كان بناؤه فوقي ولم تكن لديه قواعد حقيقية، وكانت الاختيارات تتم من أهل الثقة وليس من أهل الخبرة، وغياب الديمقراطية نتح عنه إلغاء حرية الصحافة وإلغاء الأحزاب في (54) ومصر كانت تعيش حالة ليبرالية قبل 23 يوليو، وكانت هناك أحزاب قوية مثل (حزب الوفد)، وبإلغاء الأحزاب وغياب الديمقراطية وإنابة “عبد الناصر” عن كل قوى الشعب في تمثيلها عندما مات “عبد الناصر” كان من السهل جداً أن ينهار كل المشروع وذلك ما حدث في الدول الاشتراكية لأنه بظهور (البروستريكا) على يد “غورباتشوف” استطاع أن يهدد كل هذا البنيان الاشتراكي الذي تم بناؤه عبر (72) عاماً وعلى يد “يلسن” تم تفتيت الاتحاد السوفيتي تماماً وصار إلى دويلات صغيرة كما كانت من قبل وشهدنا بعد “بوتين” بدأت “روسيا” تستعيد دورها المحوري على خريطة العالمي العسكري، ولكن قبل ذلك للأسف الشديد كان أبناء “روسيا” يأكلون من صفائح القمامة.
{ نقفز إلى المرحلة الراهنة.. التغييرات الثورية العربية أصابتها حالة سكون لعقود طويلة حتى انفجرت قبل فترة قصيرة ثورات الربيع العربي.. هل تعتقد أن هذه الثورات كانت نتيجة لتراكم النضالات الثورية في تلك البلدان.. أم إنها كانت حالة وقتية.. وهل ترى أنها أحدثت تغييراً حقيقياً أم إنها أورثت خراباً ودماءً؟
– أي تغيير جذري في أي مجتمع من مجتمعات لابد أن تدفع لها فواتير وعادة ما تكون هذه الفواتير من الدم وثورة الربيع العربي كانت نتاجاً طبيعياً لتراكمات من الاحتقان والاستبداد عبر سنوات طويلة والفساد السياسي والاقتصادي وفساد في كل شيء وكان لابد من الثورة عليه، ولكن عندما قامت الثورة لم ندرك جميعاً بما فينا المفكرون السياسيون والتنظيرون أن ثورة الربيع العربي هي المفجر لثورة سياسية أخرى كانت مستعدة للانقضاض على مكتسبات هذه الشعوب وحكمها بالحديد والنار لتخضع لديكتاتوريات أشد قسوة وعنفاً من الديكتاتوريات التي تمت تنحيتها أو أسقطت بأن هذه القوى الظلامية لم تكن تجرؤ أن تقوم بثورة ضد الحكومات المستبدة وتنال تأييداً شعبياً.. لو كانت ظهرت في مقدمة الثورات لم يكن ليناصرها أحد وكان الناس ربما يقفون ضدها، ولكن استخدم القوى السياسية المتمردة الصغيرة الوليدة نتيجة القهر السياسي في الأنظمة الاستبدادية مثل (حركات كفاية) و(حركة 6 أبريل) وحركات مشابهة لها في “سوريا” وغيرها، وكل هذه الحركات لم يكن لديها رصيد شعبي قوي، وكانت تستطيع أن تقوم بمظاهرة صغيرة في وسط البلد على سلم نقابة الصحافيين أو أمام مجلس الوزراء، ولكن لم يكن بمقدورها أن تحدث تغييراً حقيقياً جذرياً على الساحة السياسية وكانت الأنظمة أكبر منها بكثير.
{ إذن كيف تم التغيير؟
– عندما سقطت الشرطة في كل الأنظمة العربية ظهر القائد الحقيقي لهذا الثورات والمحرك لها، وظهرت القوى التي كانت تعد نفسها منذ (80) عاماً للقفز على السلطة والانقضاض عليها، وكانت حركة الشباب هي المفجر لها، ولكن كانت هناك قوى أخرى تساعدها دولية لها أغراض سياسية في المنطقة لإعادة تفتيت الوطن العربي، وما حدث في ثورات الربيع العربي وكتبت ذلك (انتبهوا أيها السادة هذه سايكس بيكو الجديدة) و(سايكس بيكو) هذه التي قسمت العالم العربي إلى شمال وجنوب وأقاليم، ولكن هذه الثورة جاءت لتقسيم الكبير وتقزيم الصغير، وما حدث الآن على المشهد السياسي في الساحة ما نراه في “العراق” من “داعش” وما نراه في “ليبيا” و”تونس”، وكل ذلك يتم الآن تحت سمع وبصر كل الناس، وما كان قائماً قبل 25 يناير لابد أن نراه بقياسات جديدة ونقرأ الواقع مرة أخرى.