المؤتمر العام لـ(الوطني).. وصايا "البشير" ونصائح "الدقير" وإشفاق تركيا
(6) آلاف عضو وثلاث ليالٍ حسوماً بأرض المعارض بـ(بري)
تقرير ـ متوكل أبو سن
مقدمة
بهدوء دلف ستة آلاف من عضوية المؤتمر الوطني الحاكم إلى ساحة أرض المعارض بمنطقة بري بالخرطوم، بمعيتهم أكثر من (100) ضيف من (60) دولة من مختلف دول العالم، و(300) شخصية قومية وإعلامية، وقادة القوى السياسية والحركات الموقعة على اتفاقات سلام مع الحكومة، ليقفوا بين يدي فاتحة المؤتمر العام الرابع للمؤتمر الوطني إيذاناً ببدء مرحلة جديدة أبرز ملامحها بُعيد حسم مجلس شورى الحزب أمر رئيس الحزب ومرشحه في الانتخابات العامة المزمعة في أبريل المقبل، وتسمية “عمر البشير” مرشحاً لرئاسة الحزب ولرئاسة الجمهورية، إعادة تشكيل أجهزة الحزب التنظيمية وهياكله لدورة جديدة تمتد لخمس سنوات، بجانب إعادة قراءة أوراق أجهزة الحزب المختلفة والمنتهية ولايتها وتقييم أدائها.
{ أرض المعارض (بري)
وعلى ذلك، فإن المشهد ربما لم يختلف كثيراً عن المؤتمر العام الثالث للحزب الذي احتضنه مقر المركز العام للحزب قبالة صالة المغادرة بمطار الخرطوم، الذي يجري العمل فيه الآن لتحويله إلى برج من عدة طوابق على نفقة الحزب الشيوعي الصيني.
عضوية المؤتمر العام من الرجال، وكسنّة درج عليها الحزب، ارتدوا الزى الشعبي الكامل من جلباب معتمرين عمائمهم وعلى رقابهم تتدلى شالتهم البيضاء، أما الجنس الآخر فقد مثّل الثوب الأبيض سمة بارزة لزيهن وهن يضربن بخمرهن على جيوبهن، وكان الجميع قد هرع من وقت باكر وانتظم موقعه كل فيما خط له، ما كان له أبلغ الأثر في انسياب الحركة منذ الصباح وحتى نهاية اليوم مع بعض من مظاهر التكدس غير الملحوظة.
بوضوح كتبت على بطاقات تدلت على صدور أفراد التأمين عبارة (الأمن والسلامة) وهم يتفرسون في وجوه وبطاقات القادمين على نحو دقيق وكثيف، يشابه كثافة انتشار أفراد القوات النظامية بمركباتهم المختلفة يطوقون المكان على نحو يبعث على التوجس والرهبة، وترك العنان لفرس الخيال أن يركض في مضمار التوقعات لما يمكن حدوثه بما يهدد أمن وسلامة حضور المؤتمر، لا سيما مع تباين مشارب واتجاهات، خاصة ضيوف الخارج، بمناصبهم ومواقعهم المهمة المؤثرة في دولهم.
وضعية قاعة الحفل بشكلها غير المألوف فرضت على وسائل الإعلام وضعاً صعباً في نقل تفاصيل التفاصيل وما وراء الكواليس وجلسة قيادات الحزب والدولة، تلك المهمة التي تجتهد وسائل الإعلام في تصويرها، كل بما في يده من قلم أو كاميرا، حيث قبعت المنصة في مكان قصي يصعب معه قراءة كثير من تفاصيل الجلسة وما يدور من حولها من أحاديث ولقاءات جانبية يخرج من بين طياتها ربما الكثير من القراءات والتكهنات.
في الطابق العلوي من قاعة الاحتفال ابتعدت فيها منصة الاحتفالية لأكثر من (60) متراً من أماكن وجود كاميرات الإعلام والإعلاميين، وشكلت حاجزاً حاسماً اضطر معه الإعلاميون إلى التزام مقاعدهم والاكتفاء بتدوين ملاحظاتهم حول ما تُلي من خطب وكلمات وتركوا من خلفهم كاميراتهم وأجهزة تسجيلهم تجهز على ما تبقى من المهمة، وبعضهم يهمهم بكلمات لا تعبر عن سعادته بذلك التنظيم الذي بلا شك شكل حاجزاً أمنياً مريحاً للقائمين على أمر التأمين، وأرهق في الوقت ذاته القائمين على أمن مهنة المتاعب وزادهم رهقاً على رهق.
{ “الترابي” وتحريك الأشياء
لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن يكسر الأمين العام للمؤتمر الشعبي طوق الصمت بعد أن لبى مشاركاً ومخاطباً حشداً تنظيمياً للمؤتمر الوطني عقب المفاصلة الشهيرة في العام 1999، بجانب ما طال المشهد السياسي من تعقيدات ألقت بظلال سالبة على مسيرة الحوار الوطني الذي دعت له الحكومة ممثلة في رئيسها المشير “البشير”، ووافق على الانخراط والاستمرار فيه بطوعه، رغم إصرار الحزب الحاكم على المضي بخطوات مسرعة في طريق الحكومة القومية والاحتكام إلى صناديق الاقتراع في الانتخابات العامة القادمة بعد حسم أمر مرشحه للرئاسة، بخلاف تمنيات وطموحات أحزاب المعارضة بما فيها المؤتمر الشعبي بتشكيل حكومة انتقالية لفترة معلومة تقوم بعدها على أمر الانتخابات العامة وتحديد ملامح الدولة السودانية من جديد، ربما لا يكون الحزب الحاكم ركناً ركيناً فيه كواقع الحال.
فما أن أعلن مقدم البرنامج عن إنابة د. “حسن عبد الله الترابي” عراب ثورة الإنقاذ، لأحزاب الحوار الوطني في كلمتها حتى تبعته الحناجر بالتكبير والتهليل إلى أن حط رحله أمام منصة التقديم، في مشهد حمل حزمة من المعاني والدلالات تبشر بمستقبل خلاف للعداء الذي ظل جاثماً على صدر الحزبين لقرابة الخمسة عشر عاماً، عمر مفاصلتهما الشهيرة 1999.
لم يخيب عراب الإنقاذ آمال وتطلعات قاعدة الإسلاميين التي كشفت عنها حناجرهم قبل وجوههم، وهو يرسم بكلماته ملامح مرحلة جديدة في التعاطي مع شقاقه مع (الوطني) من جهة والتعاطي مع قضايا الساحة السودانية من جهة، وجسدت الدعوة للوحدة أبرز سماتها.
كلمة الأمين العام للمؤتمر الشعبي، ركزت في مبتدئها على وحدة الصف بقوله: إن المسير كله نحو الوحدة وإذ أصابتنا غفلة عن ذكر الله الواحد الذي يوحد العباد الآن فإن الابتلاءات من حولنا وعظتنا حيث ما نظرنا في أفريقيا والعالم العربي وابتلاءات في وطننا كذلك وما يحيط به من مكائد تذكرنا بضرورة الائتلاف، وكل ذلك دعانا إلى التحاور والتشاور لا التحارب والتكايد بل للتوحد، كلنا إن شاء الله نصبح قطاراً واحداً وبعد ذلك تنفتح لنا الأبواب بالطبع كيفما ما كانت أحزابنا واتجاهاتنا.. علينا أن نجتمع في منظومة واحدة ونرجو للوحدة أن تنبسط في كل هذا الإطار الواسع ونريد كذلك أن ننتقل ونتحرك نحو هذا الهدف.
{ الرئيس.. (الوصايا والتحديات)
تعالت التكبيرات لحظة وصول موكب رئيس الجمهورية الذي استقر في وسط المنصة، وجلس عن يمينه مساعده، نائب رئيس الحزب البروفيسور “إبراهيم غندور”، وعن يساره “محمد المختار محمد” لتكون أولى فقرات البرنامج الذي انطلق في تمام التاسعة والثلث صباحاً بآيات من سورة (آل عمران) أُريد منها التذكير بوحدة الأمة الإسلامية والاعتصام بحبل الله المتين، والتحذير من مغبة العداء والخصام.
في كلمته، استعرض رئيس المؤتمر الوطني، رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير”، ما حققه الحزب في دورته السابقة من نجاحات تحت شعار (حزب قائد لوطن رائد) على مستوى الحزب والأداء العام سياسياً وتنفيذياً.
وأوصى الرئيس المؤتمرين بإعمال النظر الفاحص الصريح في كل جوانب الممارسة والتطبيق بما يعين على اتخاذ القرارات التي تبسط العلاج وتقوم المسار للارتقاء بنظام الحكم اللا مركزي توسيعاً للمشاركة، وتأكيداً لدور المواطن في إدارة شأنه المباشر في مجال الخدمات والتنمية في إطار المواطنة والولاء للوطن.
ووضع رئيس الجمهورية أربعة تحديات أمام المؤتمرين وأوصاهم بالتعاطي معها بوضوح في الرؤية، وشحذاً للعزم والإرادة وتجاوزها بما يحقق تطوير التجربة السياسية نحو آفاق أكثر رشداً وتوافقاً، وبناء دولة تنعم بالتنمية والازدهار الاقتصادي وتوفر الحرية والعدالة الاجتماعية للمواطنين وفق منظومة من القيم التي تحقق الحكم الرشيد.
وقال الرئيس إن التحدي الأول استكمال التوافق والتراضي الوطني،
والثاني تجويد الحكم اللا مركزي، وأشار إلى أن التحدي الثالث
هو الاقتصاد والتنمية والمعاش، لافتاً إلى ضرورة تأمين ضرورات وحاجات الناس من مأكل ومشرب وملبس ومأوى وخدمات صحية، وتسهيل سبل العيش الكريم.
ونبه رئيس المؤتمر الوطني إلى أن التحدي الرابع هو تحدي توسيع العلاقات الخارجية، مشيراً إلى أنهم نجحوا في تمتين علاقاتهم مع الكثير من الدول في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وقال إن حجم الاستثمار بلغ بنهاية العام 2013م حوالي (31) مليار دولار.
ولخص الرئيس مهام المؤتمر العام الرابع في انتخاب رئيس المؤتمر وهيئة الشورى والمكتب القيادي يكتمل بهم البناء المؤسسي، ومن ثم وضع الرؤية الشاملة للتعامل مع التحديات، وتحديد آليات تنفيذ السياسات والبرامج الموضوعة دون تفريط في الهوية والعقيدة.
{ النموذج التركي حضوراً وإن غاب “أوغلو”
ربما أصبح الأنموذج التركي المعبر عن قدرة حركات الإسلام السياسي على الحكم وجعلها تجربة يحتذى بها، مفنداً وداحضاً لتخرصات المتخرصين من مجموعات وتيارات الاتجاه العلماني وغيره من التجارب غير الإسلامية وهي تضع خطوات في سلم النجاح.
كلمة ممثل حزب العدالة والتنمية التركي “يس أقطاي” نائب الأمين العام للحزب، رئيس العلاقات الخارجية، جاءت برداً وسلاماً على آذان الحضور الذين كانوا قد تهيأوا لكلمة من رئيس الوزراء التركي “أحمد داوود أوغلو” حسب ما راج قبيل انعقاد المؤتمر.
“يس أقطاي” في كلمته، بدا مشفقاً على تجربة الحركة الإسلامية في الحكم وهو يحرضهم على ضرورة الاقتداء بتجربتهم في الحكم من مبدأ واضح وجلي وهو (أن يكونوا خداماً للشعب لا حكاماً له).. تلك العبارة التي رأى فيها العصا السحرية التي وضعت تركيا الإسلامية في المرتبة السابعة عشرة بين دول العالم والطموح- مؤقتاً- بالوصول إلى المرتبة العاشرة، مقتفين أثر هذا المبدأ (كونوا خداماً للشعب لا حكاماً).
“أقطاي” نقل تحيات الرئيس التركي “رجب طيب أردوغان” و”أوغلو” والشعب التركي، وتمنى للمؤتمرين إقامة الشورى، مذكراً بأن علاقات تركيا والسودان تاريخية، وعميقة ولا يمكن تجاهلها، وشدد على ضرورة الاهتمام بها، مستعرضاً إنجازات حزبه مذ تسلمه للسلطة 2002م.. ورأى في تدافع منسوبات المؤتمر الوطني مثالاً على تكريم الإسلام للمرأة.
وأوضح “يس” أنهم في تركيا غيروا مفهوم السياسة والدولة، وقال: (كانت الدولة آمرة وحاكمة على الشعب وقد حولنا هذا بأن تكون الدولة خادمة للشعب بدل أن يكونوا طغياناً عليهم وأن يتبعوا مبادئ الخدمات في الإدارة).. ورأى أنه بفضل اهتمام حزبه بخدمة الشعب ازدادت شعبيته على نحو لم يحدث حتى في أوروبا.
وحض “أقطاي” منسوبي المؤتمر الوطني، على احترام حقوق الإنسان، وقال: (لو تخدمهم يقدروك ويقدموك ونحن لسنا أعلى للشعب نحن خادمين للشعب لابد أن نحترم حقوق الإنسان في الشعب وأقررنا بهذه المبادئ في تركيا والآن تقدمت تركيا في التصنيف العالمي من المرتبة السابعة والعشرين إلى السابعة عشرة)، وأكد أنه لمس ممارسة المؤتمر الوطني للديمقراطية الحقة بين أعضائه كافة وإحقاق مبدأ الشورى الذي يؤدي إلى الانسجام والتراضي السياسي.
{ نصائح “الدقير”
ربما لم يتفاعل البعض مع الكلمة التي تلاها رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي د. “جلال يوسف الدقير”، بالقدر الذي يتناسب وما صرحه الرجل بهدوئه ورصانته المعهودة أمام المؤتمرين، ومرد هذا ربما صورة التماهي الواضح التي ارتسمت في مخيلة البعض بين “الدقير” وحزبه والمؤتمر الوطني لاسيما وأنه أحد الأحزاب المسماة بأحزاب حكومة الوحدة الوطنية.
لكن “الدقير” دفع بحزمة من النصائح وفي ذهنه استبانة النظام لها قبل ضحى الغد، وفيها يرى الحل للتحديات كافة التي وضعها رئيس الجمهورية، وكأنما كان على دراية بها قبل أن يخطو بأقدامه باحة أرض المعارض ببري.
“الدقير” نصح، النظام القائم بمسارعة الخطى لإعادة بناء الصف الوطني وتوحيده لاحتلال موقعه الريادي في توجيه مؤشرات العمل الوطني ويرد بفعالية المخاطر الجسام التي تهدد البلاد، لافتاً إلى أن الجميع الآن يعيش وتحيط به أوضاع وحركات دولية وإقليمية قال إنها الأخطر منذ أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزرها، وأضاف: (هي أوضاع يتم فيها المساس بالأوطان والمجتمعات تقسيماً وتفتيتاً والشواهد من حولنا تغنينا عن إعادة التذكير بحقيقة أن بلادنا في قلب العاصفة مما يدعونا جميعنا حاكمين ومعارضين أن نستشعر ذلك).
ورأى “الدقير” أن الوقت قد أزف لأن يعلو صوت الوطن وأن تستنهض الطموحات الحزبية والجهوية، وقال مخاطباً منسوبي المؤتمر الوطني: (وأنتم في الوطن بحكم المسؤولية التاريخية عليكم تجميع الصف ولن تغلبوا من قلة، ولكن أطلب منكم بكل صدق وأنتم ترشحون الرئيس أن تعينوه أن يحمل كتابه بقوة).
وتحدث رئيس الحزب الاتحادي الديمقراطي، إلى أحزاب المعارضة وحملة السلاح، بأن معركة البلاد الآن هي معركة وجود ومصير، وقال: (يجب أن لا نحول المعركة إلى معركة حكومة ومعارضة وحزب وحزب).
وذكر “الدقير” أن الحوار المفضي إلى الأهداف الوطنية لا يدرك بالتمني وإنما بمغالبة الهوى والتعصب حتى تنطلق مسيرة الحوار بكل أهدافه، وقال مخاطباً رئيس الجمهورية : (أخي الرئيس.. أرجو أن تسمح لي أن أحيي جيل الآباء ممن أرسوا تاريخ البناء الوطني)، قبل أن يختم كلمته بضرورة العمل لإعادة السودان إلى دوره الريادي، واستطرد: (خاصة وأن الرئيس زار في الفترة الأخيرة دولتين شقيقتين ناجحتين).
ولعلها ليست المرة الأولى التي تناقش فيها مؤتمرات الحزب الحاكم تقارير أداء أجهزته التنفيذية والتشريعية والتنظيمية، بجانب أوراقه الاقتصادية والتعليمية والسياسية والفكرية، لكنها هذه المرة تأتي في ظروف استثنائية يعيشها المؤتمر الوطني تتمثل في أنها تزامنت وخطوات الإصلاح التي أعلنها الحزب مؤخراً، ومثلت الأزمة الاقتصادية جراء انفصال جنوب السودان وإزاحة الصف الأول للحزب من سدة الحكم أبرز معالمها، في وقت ظل الرئيس في موقعه بعد تجديد الحزب ثقته فيه رئيساً له ومرشحه لرئاسة الجمهورية في الانتخابات القادمة.. ومن خلف هذا حراك كثيف للمعارضة بشقيها السياسي والمسلح إصراراً على التعجيل بذهاب النظام، ما يجعل المؤتمر العام الرابع للحزب في محك إخراج حزبه من وضع معقد يبدأ بالأزمة الاقتصادية وينتهي باستمراره في الحكم، بعيداً عن مطالبات الحكومة الانتقالية القومية وحرمة دم شعبه شمالاً وجنوباً شرقاً وغرباً.