الفريق «بكري» في «بارا» لمسح دموع النائب البرلماني «أكرت»
حينما جمع الشيخ “إبراهيم السنوسي” والي شمال كردفان ولاة غرب السودان الستة في “الأبيض” وأعلن قيام كيان الغرب، كانت الأبعاد السياسية والصراعات بين الإسلاميين قد أخذت في العلنية بعد سنوات من السرية.. ووجد الكيان المعلن دعما ًمن الدكتور “حسن الترابي” ورفضاً من الفريق “البشير” و”علي عثمان محمد طه”. ومنذ تلك الأيام بدأت خطى الفرقاء الإسلاميين في التباعد والنفوس في التباعض وبذرة ثمرة الخلافات المرة في جسد الدولة الوليدة حينذاك، ومثلما وجد الشيخ “السنوسي” في ذلك الزمان الغابر دعماً وسنداً من المركز لتنفيذ مشروعات المياه وطريق “بارا” “الأبيض” ومطار “الأبيض”.. دار الزمان دورته وبات “السنوسي” بعيداً عن دائرة الحدث وقريباً من بؤرة الضوء. وصعد تلميذه النجيب مولانا “أحمد محمد هارون” الذي تمرد على الشيوخ منذ سنوات باكرة واختار الوفاء لقادته من العسكريين، الرئيس “البشير” والشهيد “الزبير” والفريق “بكري حسن صالح” و”عبد الرحيم محمد حسين”. و”هارون” شخصيته أقرب للمزاج والثقافة العسكرية رغم تعليمه المدني الرفيع واهتماماته الفكرية والثقافية وقراءته للتاريخ والجغرافيا، كأنه اختار خطى بعض العسكريين عميقي الثقافة..”عمر الحاج موسى” و”مزمل سلمان غندور” و”قلندر” و”التاج حمد”، ولكنه سياسي واقعي أقرب لمدرسة (العمليين) في الإنقاذ. حشد “هارون” ولاة كردفان الجنرال “أحمد خميس” والمهندس “آدم الفكي”..وأضاف إليهم شيخ ولاة السودان السلطان “عثمان كبر” وولايته تستقبل حدثاً هاماً كبدء تنفيذ طريق “بارا” “أم درمان” الذي من أجله زرف النائب البرلماني لدائرة غرب “بارا” “مهدي عبد الرحمن” الدموع داخل البرلمان وبكى بحرقة وألم.. ولم يجد من وزارة مالية السودان حينذاك “علي محمود عبد الرسول” طبطبة على الكتف ومسح لدموع رجل لم يبكِ كما قال لعشر سنوات مضت.. ولكن الجنرال “بكري حسن صالح” النائب الأول لرئيس الجمهورية، حينما حطت طائرته الرئاسية في مطار “الأبيض”، كان بالقرب منه وزراء القطاع الاقتصادي والتنمية الاجتماعية “بدر الدين محمود” ود.”فيصل حسن إبراهيم” وزير الثروة الحيوانية و”عبد الواحد يوسف” وزير الطرق ود. “إبراهيم آدم” وزير الدولة بالرعاية الاجتماعية. ولكن في حقبة “السنوسي” وقيام كيان الغرب حينما وصل “نيالا” رئيس الجمهورية لاستلام توصيات مؤتمر الأمن الشامل الذي تم برعاية كيان غرب السودان .. كان في معية الرئيس وزير الدفاع الفريق “إبراهيم سليمان” ووزير الداخلية “الطيب سيخة” ومدير جهاز الأمن “قطبي المهدي” ..فإذا كان مشهد الأمس قد طغى عليه الانشغال بملف الأمن ودرء خطر النهب المسلح في ولايات غرب السودان، فإن اليوم تطغى الانشغالات التنموية بطريق “بارا” “أم درمان” الذي جعل السلطان “كبر” متحدثاً في “بارا” بطلب من المطرب “عبد الرحمن عبد الله”، أن يبدل كلمات الأغنية التي صاغها حرفاً “محمد مريخة” ويقول (أمشي بارا وديك أم روابة .. النهود الآسر شبابا) لتصبح الأغنية (أمشي بارا وديك الفاشر) كناية عن التواصل المرتقب وحل نصف مشاكل ولايات غرب السودان، من خلال وصول البصات السفرية السياحية لمدينة “الفاشر” .. حيث دخل “الفاشر” لأول مرة في تاريخها بص سياحي الأسبوع الماضي، إيذاناً ببلوغ طريق الإنقاذ الغربي عاصمة سلطنة الفور ومقر رئاسة السلطان “علي دينار”.. ولكن الفرحة الحقيقية لولايات دارفور حينما تصل البصات السفرية من “الخرطوم” لـ”الفاشر” في ثماني ساعات فقط .. وخصم (340) كلم من المسافة الحالية .. حيث يصبح وصول البصات من “كادقلي” لـ”أم درمان” في (6) ساعات، ومن “الفولة” إلى “أم درمان” (5) ساعات .. و”الأبيض” “أم درمان” (4) ساعات فقط .. وقد جاء مولانا “أحمد هارون” في مثل هذه الأيام من العام الماضي قادماً من “كادقلي”، حيث معارك الشتاء والصيف والصراع السياسي والقصف المدفعي .. وهل الخيار أن تمضي المفاوضات مع حاملي السلاح من خلال منبر الاتحاد الأفريقي .. أم تحسم الحرب عن طريق البندقية والقضاء على قطاع الشمال حتى آخر جندي يحمل بندقية في قمة جبال أم “سردبة”. عبقرية مولانا “أحمد محمد هارون” ودراسته القانونية وثقته في نفسه وقدرته على التكييف الموضوعي على خصائص الزمان وسمات المكان، دفعته لقلب الصفحة ووضع نقطة وسطر جديد .. ما أن صدر قرار بتعيينه والياً على شمال كردفان حتى ذهبت الظنون بالبعض، بأن الاختيار له علاقة بتمدد الجبهة الثورية من طين الجبال إلى رمال الشمال، وظن البعض أن اختيار “هارون” لشمال كردفان اقتضته تطورات الحرب حيث باتت شمال كردفان في ظن الكثيرين هي مسرح الصراع العسكري القادم بين الجبهة الثورية والحكومة. وعزز من هذا الاعتقاد الذي تكشف خطأه فيما بعد أن الجبهة الثورية قامت بعمليات في منطقة جبل سدرة بمحلية الرهد، وهددت الجبهة الثورية بقطع شريان حياة ولايات غرب السودان طريق “كوستي” “الأبيض”. وقد نفذت حركة العدل والمساواة عملية (الضليمة) وقطع طريق “الدلنج” “الدبيبات”.. وحينما ظهر “هارون” ببزته العسكرية وبالقرب منه اللواء “حسين موسى” الشهير بحسين جيش قائد سلاح الهجانة تبدى التشاؤم في أوساط بعض أبناء كردفان، ظناً من هؤلاء أن “هارون” رجل تطارده الحرب حيثما رحل.
وما هي إلا أيام وبدأ صيف الحركة الشعبية والجبهة الثورية ومن ربيع الانتصارات إلى شتاء الهزائم.. وخاضت القوات المسلحة وقوات الدعم السريع عمليات (قلع الأظافر) لتتقهقر الحركة الشعبية والجبهة الثورية جنوب “كادقلي”.. ويخلع “هارون” البزة العسكرية ويبدأ التنقيب في الأوراق القديمة.. والكل يتساءل ماذا يفعل الرجل في مدينته “الأبيض” وهي مثل مدينة “روما” للكاتب الروائي “البورتوموروفيا” صاحب الرواية الخليعة امرأة من “روما” .. يحب “هارون” و”د الياس” وفلسطين والقلعة والقبة الرديف حي الجيش وأمير القش.. ولكنه ظل بعيداً عنها .. وجد “هارون” دعوة أطلقها النائب الأول السابق “علي عثمان محمد طه” عندما زار “الأبيض” وطاف قرى “سودري” و”أم دم حاج أحمد” و”أم روابة” .. و”حمرة الشيخ” و”بارا” .. ولكن “علي عثمان” لم يفتتح مشروعاً تنموياً ولم ينظر في الأفق البعيد والقريب، ويجد أن لشمال كردفان مشروعاً إستراتيجياً ينهض ببلد تسعى جهات عديدة لجعلها هي الأخرى مسرحاً لحرب وصراع ما يسمى بالهامش والمركز .. و”الأبيض” جغرافياً تقع في قلب السودان القديم وتعتبر واسطة العقد.. حتى دعا الكاتب “عثمان ميرغني” في زاويته الشهيرة (حديث المدينة) بصحيفة (الرأي العام) أيام بريقها ومجدها، إلى نقل العاصمة من “الخرطوم” إلى “الأبيض”.. قدر “علي عثمان محمد طه” أن شمال كردفان إذا دخلت ساحة الصراع العسكري والسياسي، فإن الحرب ستبلغ محليتي أم بدة وكرري في شمال “أم درمان”.. لذلك دعا لمشروع نهضوي يتفق عليه أهل شمال كردفان ليتم تنفيذه من قبل الحكومة الاتحادية. وتلك هي فكرة بذرة مشروع النهضة الذي سعى مولانا “معتصم ميرغني حسين زاكي الدين” للاستفادة من فتح نافذة “علي عثمان” ولكن هزمه موظفو الحكومة، حينما عجزوا عن تصميم مشروع طموح لنهضة ولاية، فكتبوا أوراقاً لا تصلح إلا لمشروعات الإعاشة محدودة الأهداف .. وجمع “هارون” نخب شمال كردفان وأسند أمر التخطيط للدكتور “سيد علي زكي” وزير المالية الأسبق..الذي عكف مع ثلة من الخبراء لوضع مسودة مشروع النهضة، وتم تصميم شعاراتها (موية طريق مستشفى) النهضة خيار الشعب.. واستنهض “هارون” همم المواطنين. ورغم سوء الأوضاع الاقتصادية والقحط وفشل المواسم الزراعية في السنوات الماضية..اقتطع المواطنون من لقمة العيش لتصل تبرعات الأهالي لأكثر من (10) مليارات جنيه. وعندما تحدث الرئيس “عمر البشير” في لقاء بقاعة الصداقة في شهر سبتمبر من العام الماضي لشرح دواعي وأسباب رفع الدعم عن المحروقات، قال الرئيس (إن طموحات المواطنين السودانيين لا حدود لها). وضرب مثلاً بمدينة “الأبيض” وقال (كنت شاهداً على شح المياه مما اضطر الحكومة لنقل المياه بالقطار من “الرهد” و”كوستي”.. والآن تم حل تنفيذ مشروع مياه “بارا” ورغم ذلك ناس “الأبيض” عاوزين الماء من النيل). عبارات الرئيس حاولت جهات كثيرة استثمارها وتفسيرها بغير مقاصدها، وسرى غضب في أوساط بعض أبناء شمال كردفان .. ولكن مولانا “أحمد هارون” أفلح في توظيف الحدث من الوجهة السالبة للإيجابية.. بدعوته للرئيس لزيارة الولاية ومخاطبة نفير نهضة الولاية من الأستاد الرياضي الذي أنجب للكرة السودانية “مصطفى تنقا” و”أحمد الشفيع” و”كلت” و”عماد النهود” و”بارودي” أحرف لاعب وسط في السودان، منذ أن عرف السودان كرة القدم وحتى اليوم.. وأعلن “البشير” عن وضع حكومته (4) جنيهات إلى كل جنيه يتبرع به أهالي الولاية.. وحينما امتطى الفريق “بكري حسن صالح” يوم (الثلاثاء) الماضي ظهر اللورد لتسوية الأرض إيذاناً بتنفيذ (31) كلم من طريق “بارا” “أم درمان” بواسطة حكومة ولاية شمال كردفان التي تملك أسطولاً من السيارات والقلابات واللودرات والبلدوزرات كان معطلاً في مشروع درء الجفاف والتصحر.. تبدى عزم الولاية ومواطنيها على الوفاء بما جادت به جيوبهم..والولاية ستنفذ (31) كلم من الطريق بمال النفرة، وتبلغ تكلفة الكيلو الواحد نحو (2) مليون دولار .. وقعت الحكومة الولائية اتفاقاً مع شركة (زادنا) لتنفيذ (31) كلم أخرى قبل أن تبدأ الشركة الصينية التي ينتظر أن تنفذ (300) كلم من الطريق. وقال وزير المالية والاقتصاد الوطني “بدر الدين محمود”، إن المفاوضات التي جرت مؤخراً بين الحكومة السودانية والصينية قد توصلت لاتفاق شامل لتنفيذ مشروعات التعاون السوداني الصيني، وأن بنك التجارة والاستيراد الصيني التزم بتوفير العملة الصعبة للشركات الصينية. في وقت وفرت فيه الحكومة المكون المحلي ليصبح طريق “بارا” “أم درمان” حقيقية ماثلة .. وطلب الفريق “بكري” من نخب ومثقفي ولاية شمال كردفان في حديثه بصالة ليالي، وضع هم طريق “بارا” وراء والبحث عن قضايا أخرى لحلها.
المياه العذبة عذبتنا
لـ”التجاني حاج موسى” الشاعر المرهف والإنسان الشفيف ود الحاجة الراحلة “دار السلام” قصيدة لم تنشر بعد، كتبها قبل أن يصوم رمضان ويصفد شيطان الشعر في الشهر الكريم..يصف فيها حال بلادنا بأنها يمكن أن تنهض إذا صدقت النوايا .. وجسد أولادها وفاء الأبناء للأم الرحيمة .. يقول فيها :
بلدنا دي والله فيها الخير كتير
وما مستحيل نبينها جنة
لو نحنا وحدنا الهدف
لو نحن وحدنا المصير
لو ما بنعاكس نحن في الدرب الطويل
كان يومها دا
كيفن عرفنا نكسيها في الأتواب حرير
بلدنا أولادها حقو يقدروها
وشوية حقو يحسو بيها
وشوية حقو يوقورها
مسكينة شوف كيف أهملوها
بلدنا دي اتأخرت
وأولادها هم الأخروها
طافت بخاطري تلك الأبيات والفريق “بكري” يضغط على مفتاح تشغيل واحدة من سبع عشرة بئراً أخرى يتم تنفيذها الآن لحل مشكلة مياه “الأبيض”، من حوض “بارا” الجوفي الذي يبلغ مخزونه الجوفي من المياه ملايين الأمتار المكعبة..ولا يفصل “بارا” عن “الأبيض” سوى (60) كلم .. وحينما نفذت المرحلة الأولى من مشروع مياه “بارا” في حقبة الشيخ “السنوسي”..رفض المهندسون السودانيون الإصغاء لنصيحة أحد المهندسين الأجانب، بنقل المياه من “بارا” عبر شبكة حتى جبل أبو خريس شمال “الأبيض”، وضخ المياه في الشبكة القديمة من الجنوب إلى الشمال طبقاً لتصميم الشبكة القديمة، لكن عبقرية بعض المهندسين السودانيين وهم سبب مشاكل كثيرة رفضوا ذلك وتم ضخ المياه من الشمال للجنوب، مما أدى لانهيار الشبكة القديمة المتهالكة. واليوم يصعب السير في أحياء مدينة “الأبيض” بالسيارة الصغيرة لتنفيذ الولاية لأكبر مشروع لتبديل وتغيير شبكة المياه .. قبل أن تدخل الـ(18) بئراً الجديدة في الخدمة .. ولكن الوزير “معتز موسى” وزير الكهرباء والسدود حينما طلب منه الفريق “بكري” قراءة كتاب التزامات وزارته نحو مشروع النهضة، قال إن هناك أربعة خيارات الآن أمام وزارته لحل نهائي لمشكلة مياه “الأبيض”، أولها خيار مياه تردة “الرهد”.. الخيار الثاني التوسع في حفر الآبار بحوض “بارا” الجوفي .. والخيار الثالث زيادة التخزين من المصادر الجنوبية..والخيار الرابع مد المياه من نهر النيل حتى كردفان .. أما المدينة الطبية التي أسند الرئيس إنشاءها لوزير الكهرباء والسدود السابق المهندس “أسامة عبد الله” بدلاً من وزير الصحة الاتحادي، فقال “معتز موسى” الذي آلت إليه مهمة تنفيذ المدينة الطبية عن الشركة المصممة لمشروع المدينة الطبية، ستفرغ منها في غضون خمسة أشهر ليبدأ بعدها التنفيذ فوراً .. أما وصول الكهرباء لمحليات الولاية فقد بدأ بمحلية “بارا” والتي اشترط الوالي “هارون” على سكانها إعادة تخطيط المدينة قبل أن تمتد إليها كهرباء سد مروي.. وشبكة المياه الداخلية..ولكن تخطيط أحياء “بارا” القديمة يواجه بمعارضة شديدة من قبل الأغنياء والأثرياء، ويجد مساندة ودعماً من الفقراء والمساكين .. الفئة الأولى صوتها عالٍ وقدرتها فائقة على التأثير على صناع القرار، والفئة الثانية صوتها ضعيف ولكن معها الحق. تلك بعض من أوراق كتبت أثناء زيارة طويلة في نهار رمضاني بارد يوم(الثلاثاء) الماضي، فهل نعود أم هذا يكفي لقراءة سطور في ملف نهضة ولاية تأخرت كثيراً عن الركب، ولكنها الآن تمشي على الطريق ومن سار وصل.