ذكرياتي والراحل «زيدان»..
وتترى سنوات الذكيات والعندليب ويا لها من سنوات، بدأناها ونحن في ميعة الصبا والشباب مترع بالأماني الإبداعية الطيبة التي كنا ننشد بلوغها، ونحن نقدم للناس أغانينا لتبثها إذاعة أم درمان العريقة، والعندليب- يرحمه الله- كان المحفز لمجموعة من صناع الغناء الجميل بصوته المترع بالشجن والجمال والطرب.
كان يحلو له أن ينادي الموسيقار الكبير المرحوم “أحمد زاهر” بعبارة (يا خال)، والخال لم يبخل عليه بأروع ألحانه، منها أغنية (معذرة) للراحل الشاعر “كباشي حسونة” وهو من أهل الجزيرة، وقد قدم أغنيات عديدة لمطربي ومطربات بلادي لكن كلماته في (معذرة) ولحن “أحمد زاهر” لا سيما في الصرخة الشجية التي تنبعث من حنجرة العندليب العذبة (إيه إيه!! يا ما بقيت حيران.. ياما فشل ظني.. وكل الحصل، والله ما مني)!! لك الله! دلَلَ على مساحات صوتية مليئة بالطرب، مهدت لأغنيات تالية فجرت ينابيع صوت العندليب بالشدو الجميل.. كان ذلك بالعباسية في سبعينيات القرن الماضي، ثم قدم “أحمد زاهر” لحنه الثاني من كلمات أستاذنا الشاعر “أبو قطاطي” أمدَّ الله في عمره.. (أكون فرحان يوم تكون جنبي.. أعاين ليك وأنت تبسم لي يا حبيبي تبسم لي.. تحلق روحي في نشوة وتروق الدنيا في عيني).. و”زيدان” نفسه مؤلف موسيقي بارع للألحان، فقد ألف معظم ألحان أغانيه الرائعة (فراش القاش) لـ”هلاوي”، و(الوداع) للدكتور “إبراهيم ناجي”، و(قلبك ليه تبدل) لـ”محمد يوسف موسى” و(موال الليل) لـ”التجاني حاج موسى”، وما ذكرته من ألحان على سبيل المثال، فالعندليب يمتلك موهبة التأليف الموسيقي، وفوق ذلك له القدرة على اختيار النصوص الجيدة الرصينة الجميلة المليئة بالرومانسية والشجن، وكان من الممكن أن يلحن كل أغانيه لكنه فطن إلى ضرورة اقتناء ألحان عدد من الملحنين المتميزين.. كان له لقاء مع الموسيقار الكبير “عبد اللطيف خضر” (ود الحاوي) في رائعة سعادة اللواء أستاذنا الشاعر الجميل “عوض أحمد خليفة” (بالي مشغول يا حبيبي.. ليك أعود وألقاك متين.. قلبي زايد في حنين واصلو قلبي عليك حنين).. وكان لقاؤه في لحنين جميلين مع الموسيقار الكبير “بشير عباس” أحدهما في نص شعري من تأليفي (يا بلادي الطيبة جيتك.. عندي ليك كلام كتير.. أصلي من بدري احتويتك إنت يا حبي الكبير)، وقبلها في أواخر ستينيات القرن الماضي أهدى الموسيقار “بشير عباس” العندليب لحناً رائعاً من كلمات الشاعر الأستاذ “بشير عبد الماجد”.. (لما تشتاق للمشاعر تملأ دنياك بي عبيرها.. لما تشتاق للمشاعر تنسجم تلبس حريرها).. ثم كانت سبعينيات القرن الماضي موسماً ثراً للعطاء بالنسبة للعندليب، فكان لقاء السحاب الذي أمطر إبداعاً وفتح آفاقاً للراحل المقيم الموسيقار الراحل المقيم الرائد “الفاتح كسلاوي” الذي أهدى العندليب رائعة سعادة اللواء الشاعر “عوض أحمد خليفة” (دنيا المحبة).. (في بعدك يا غالي أضناني الألم وعشت مع الليالي لا حب ولا نغم.. وين يا نور عيوني كم يا حبيب عيوني كم طولنا كم).. وأهداه “كسلاوي” من كلماتي (السنين والعذاب).. (ليه كل العذاب.. ليه كل الألم.. ولسه الفرقة حاصلة وبقاسي الندم).. و”كسلاوي” كان في بداية مشواره كملحن، واللحنان قدماه إلى كوكبة من المطربين الكبار منهم المطرب “عبد العزيز المبارك” الذي أدى له لحن (بتقولي لا يا حلوة يا ملاك ويا ست الحلاة) للراحل “عثمان خالد”.. و”كسلاوي” في ذلك الزمان في سبعينيات الزمن الجميل كان يسكن حي العباسية، وكان رفيق صباه الموسيقار العميد “عمر الشاعر” ضيفاً عليه، ومنزل “زيدان” على مرمى حجر من منازلنا، اتخذنا من منزله واحة أظلتنا.. نفرٌ كريم من المبدعين وشعراء وموسيقيين وكُتاب وصحفيين.. معظمنا كان في بداياته الإبداعية، وفي وقت من ذلك الزمن الجميل حلَّ ضيفاً على “زيدان” الموسيقار “عمر الشاعر” فأهداه عدة ألحان شكلت رصيداً متميزاً من أغنيات العندليب، أهداه من نظم الشاعر ابن العباسية المرحوم “محمد جعفر عثمان” (وسط الزهور متصور وجهو الصبوح ومنور.. رقة وحنان كاسيهو زي القمر مدور).. وأيضاً (أخونك؟! هل تصدق أخونك؟ لو شافت عيونك أيه حاصل بدونك؟! دي الدنيا بقيت عدم والفرح من غير نغم).. وألحان أخرى عذبة جميلة.. وما ذكرته على سبيل المثال.. وكان صوت “زيدان” هو البداية التي ولجنا منها جميعاً إلى عوالم الغناء والإبداع.. ومن الأغنيات الحبيبة إلى العندليب ونظمتها امتثالاً لرغته أغنية (موال الليل) ووضع لحناً شجياً للدرجة التي كان يبكي وهو يؤديها لنا في مجالسنا الخاصة (يا ليل البعد يا مضيع سنيني معاك!! وتتمدد تطول يا ليل بعيدة سماك.. وتتعب في قليب مسكين بيتوجع وما هماك).. وأنا الوحيد الذي كنت أعرف سبب بكائه لأننا صنعنا (موال الليل) عقب تجربة عاطفية وحيدة للعندليب لم تتوج بالزواج، وهذا سرٌ بحتُ به لأن العندليب في ذمة الله!!
والعندليب كان عاشقاً لليل وقلما تجده نائماً إلا لعلة أو مرض، لا سيما الليالي المقمرة التي يحبها خاصة إذا سهر وحيداً، فتلك قمة استمتاعه بالسهر الذي يقضيه ممسكاً بآلة العود يصنع لحناً أو يراجع أغنية.. والعندليب قارئ نهم لكل أنواع الكتب والإصدارات وله مكتبة محترمة تضم عشرات العناوين لأمهات الكتب يتصدرها كتاب الله القرآن الكريم الذي يمتلك تسجيلات له بأصوات أشهر من رتلوه.. هذا بالإضافة إلى مكتبة صوتية للغناء والمقطوعات الموسيقية من شرائط الكاسيت والأسطوانات النادرة.. والعندليب يتمتع بثقافة موسيقية واسعة تحصل عليها بتثقيف نفسه ذاتياً، وهو من طلاب الدفعات الأولى لمعهد الموسيقى الذي لم يستطع مواصلة تعليمه فيه بسبب الغياب عن المحاضرات نسبة لسفره الكثير في رحلاته الفنية داخل وخارج الوطن، فقد كان حتى رحيله نجم نجوم الغناء في السودان، وأشهد له أنه لا يشترط أجراً ماديا معيناً نظير أدائه للحفلات، بل كان متبرعاً بأجره في كثير منها.. كان يقول لي: (ليتني أملك المال لأنفقه بمزاج على أوجه الخير لشعب أحبني، لذا لن أبخل عليه بالغناء).
كان محباً للشاعر المرحوم “محمد عوض الكريم القرشي” وحافظاً لكل أشعاره وألحانه، وكم صدح لنا بها وأطربنا، بل أطرب “ود القرشي” نفسه الذي تعرفنا عليه في منزل بالعباسية، وتعرفنا عن قرب على “كابلي”، والراحل المقيم الشاعر والدبلوماسي والمفكر ابن العباسية “صلاح أحمد إبراهيم”، والراحل الفنان “عبد الدافع عثمان”، والفنان “إبراهيم حسين” وكوكبة من الرياضيين، والموسيقيين على رأسهم المايسترو “محمدية”، والموسيقي “محمد جبريل”.. والقائمة تطول.. والشاعر المعلم “سيد أحمد مكي” الذي أهداه (ما حصل فارقتو دربك) التي ألف الموسيقار د. “عبد الماجد خليفة” لحناً رائعاً لها.
أما لماذا أكتب كثراً عن العندليب.. لأنه أخي غير الشقيق، وأنا شاهد عصره، وأعلم أن ملايين من محبيه يقرأون ما أكتبه.