هل بدأت الحكومة خطوات التراجع عن الفيدرالية؟!
} لم يصدر المؤتمر الوطني، الحزب الحاكم، حتى اللحظة، لائحته الداخلية عن كيفية الترشيح للمواقع القيادية في الجهازين التشريعي والتنفيذي.. وربما لا يتبدل الوضع عن صيغة اختيار المرشحين لخوض انتخابات البرلمان بتزكية المرشحين من الدائرة الجغرافية، ورفع أسماء المرشحين إلى المكتب القيادي المركزي لاختيار مرشحي المؤتمر الوطني للدوائر الجغرافية للبرلمان القومي، على أن يختار المكتب القيادي في كل ولاية المرشحين في الدوائر الجغرافية للمجالس التشريعية.
} ولكن طبقاً لمعلومات تواترت في الفترة الماضية ثمة توجه برز داخل المؤتمر الوطني، خاصة من بعض المتنفذين في السلطة ومفاصل الحزب الحاكم، بأن يتم الترشيح لمنصب الوالي باختيار كليات الشورى والمؤتمر العام لـ (7) مرشحين يتم عرضهم على المركز لاختيار مرشح واحد من كل ولاية، على أن لا يترشح في ولايته.. مثلاً يمكن أن يتم ترشيح “محمد طاهر أيلا” في النيل الأبيض، واللواء “علي حامد” في جنوب كردفان، و”آدم الفكي” في كسلا، واللواء “صافي النور” في القضارف، و”عبد الرحمن أبو مدين” في الخرطوم، والشرتاي “جعفر عبد الحكم” في الشمالية أو نهر النيل.. ويعتقد البعض أن هذا المنهج ربما خفف من حدة الصراعات التي شهدتها التجربة السابقة وجعلت الحكم يستقيم على جادة القومية بدلاً عن الجهوية والعنصرية ومحاباة بعض الحكام والولاة للأقربين من العشيرة والأنساب.. ويعتقد هؤلاء أن الحكم الفيدرالي (المشوه) من أسباب تفاقم أزمة دارفور الحالية، ولم يساهم بأي قدر في تخفيض حدة الصراعات إن لم تتفاقم أكثر.. ولكن هل المؤتمر الوطني بات على يقين بأنه سيخوض الانتخابات القادمة وحده، ولن تدخل حلبة التنافس أحزاب ذات تأثير ولها وجود وسط القواعد الشعبية.. وسينافس نفسه فقط.. وبالتالي لا حاجة لتلبية رغبات المواطنين وأشواقهم، ويظن بأن شجرته لو رشح تحت ظلها بعيراً في المدينة لصوتت له الجماهير مغمضة العينين؟!
} صحيح في غياب المنافسين يمكن أن تفوز “انتصار أبو ناجمة” بمنصب الوالي في الجنينة دار أندوكا، ويفوز داعية وعراب منبر السلام “قطبي المهدي” بمنصب الوالي في كادوقلي.. ولكن إذا اختارت الأحزاب في آخر لحظة اختيار العملية الانتخابية ودخل الحلبة حزب الأمة القومي والمؤتمر الشعبي والحزب الاتحادي الديمقراطي، فإن الوطني سيجد نفسه مضطراً للعودة إلى الواقعية واحترام رغبات المواطنين، والمضي قدماً في طريق الحكم الفيدرالي الذي تم إفراغه من مضامينه حينما بات الولاة المنتخبون يرغمون على تقديم استقالاتهم بحجة فشلهم في إدارة شؤون الولاية، أو أن القيادة أصبحت غير متحمسة لوجودهم.
} ومن جملة الولاة المنتخبين غيب الموت “فتحي خليل”، فجاء بالإجماع السكوتي د. “إبراهيم الخضر” وهو خيار وجد السند من كل مكونات الولاية الشمالية، ولكن دارفور تم تقسيمها لخمس ولايات (كيداً) في دعاة الإقليم الواحد، وتمت إزاحة الولاة المنتخبين ولم يتبق إلا شيخهم “عثمان يوسف كبر” الذي واجه في الفترة الأخيرة صعوبات في الحكم بعد تنامي المعارضة المسنودة ممثلة في الشيخ “موسى هلال” وبعض السياسيين. وفي كردفان استبدل “هارون” المنتخب في كادوقلي بـ”الفكي”.. وتم إقناع “زاكي الدين” بالاستقالة والتنحي.. وكذا القضارف التي أرغم واليها الذي يحبه الناس، وجاءت الحكومة بـ”الضو الماحي” الذي أصبح المواطنون يجثون تحت أقدام وزراء حكومته لنيل حقوقهم.. وبذلك أُجهضت تجربة الانتخابات التي لم تصبر عليها الحكومة الاتحادية وتعجلت النتائج وفضلت أهل الولاء والطاعة، وانتابها الخوف من الولاة أصحاب الرصيد الشعبي في بنك الجماهير.
} ولو قدم حزب الأمة أو المؤتمر الشعبي مثلاً أحد أبناء دارفور للمنافسة على منصب الوالي في نيالا وقدم المؤتمر الوطني مرشحاً له من ولاية الجزيرة أو الشمالية، فالمؤتمر الوطني حتماً سيخسر المعركة في بعض الولايات.. والحكم الفيدرالي لم يأت برغبة المتنفذين في الحكومة المركزية طوعاً واختياراً، وإنما بضغوط كثيفة للجنوبيين وجبال النوبة ودارفور، والتراجع عنه بإفراغ مضامينه السياسية وجعله هيكلاً فارغاً من شأنه إعادة إنتاج أزمات جديدة في بلد كل يوم تتناسل أزماتها وتأخذ برقاب بعضها البعض!!
} إن تقييم مسيرة الحكم هو ضرورة قصوى حتى تقبل البلاد على مرحلة جديدة على هدى وبصيرة بعيداً رغبات بعض المتنفذين في السلطة مركزياً، الذين يسعون لإجهاض الفيدرالية بالوصاية الخبيثة وادعاء أن التفويض الذي حصل عليه الرئيس من الشعب كفيل بجعله يعيّن الولاة والوزراء ووكلاء الوزارات وحتى أصغر الموظفين في السلك الإداري، والتوجهات المركزية القابضة ما عادت تخفى على كل ذي بصيرة يراقب ما جرى الآن في الساحة، وهناك رغبة جامحة في السيطرة والهيمنة وفرض الوصاية على الناس!!
} التغيير الاجتماعي المتعثر
} جاءت الإنقاذ وقدمت نفسها للسودان كحركة تغيير اجتماعي بآليات سياسية، من أجل إرساء قيم العدالة الاجتماعية المطلقة البديلة لمشروع العدالة من خلال النظام الديمقراطي الذي قدمته الدول الغربية كمشروع إنساني.. واهتمت الإنقاذ بآليات التغيير الاجتماعي في سنواتها الأولى بإعلاء قيم التكافل الاجتماعي ونشاط المنظمات الإسلامية غير الحكومية، وأسندت إلى أحد صناعها وكبار منفذيها الأستاذ “علي عثمان محمد طه” مهمة التغيير الاجتماعي من خلال وزارة استحدثت باسم وزارة التخطيط الاجتماعي، جمعت بين النقائض والمتشابهات من الأجهزة الحكومية القديمة، وتدفقت على الوزارة أموال الزكاة والرعاية الاجتماعية والشؤون الإنسانية.. وبدا “علي عثمان” وزيراً كبيراً في إناء صغير حتى ارتقى إلى وزارة الخارجية، وتعاقب على وزارة الرعاية الاجتماعية وزراء، بعضهم حلفاء، وآخرون مستقطبون ومستأنسون وعابرو سبيل.. وفي الأعوام الأخيرة هجر الوزارة رجال الإنقاذ، فذهبت إلى نساء الحركة الإسلامية.. لمّا الوزارة على مستوى الشعارات والمهام الوظيفية نظرياً مسؤولة عن الفقراء والمساكين، ومعنية بتطوير التغيير الاجتماعي لمجتمع تتنازعه القبلية والحداثة العلمانية والإسلامية القشرية التي توظف في كثير من الأحيان الشعارات الإسلامية لخدمة الأهداف السياسية التي تبدو في كثير من الأحيان شعارات تغيير سياسي لا أكثر ولا أقل.
} وجاءت التغييرات الأخيرة بالوزيرة “مشاعر الدولب”، وهي من الوجوه الطلابية المستنيرة وتمثل طبقة الإسلاميين الحداثيين من حيث اتساع المعارف والانفتاح الثقافي والتحرر من قيود التنظيم الصارمة على الأقل في التفكير والجهر بالرأي فيما تعتقد أنه الصواب.. ولكن هل آن لنا رصد ملامح التغيير إن وجد في أداء الوزيرة والوزارة وقد أعلنت من قبل أنها جاءت لإضافة شيء لما هو قائم؟!
} إن وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي في ظاهرها تبدو متماسكة من حيث المكونات، وفي حقيقة أمرها متنافرة بالاختصاصات والمهام من مشروعات الضمان الاجتماعي (المعاشات) التي أصبحت عبارة عن دولة غنية باسم الفقراء ومتقاعدي الخدمة العامة.. وكذلك صندوق الضمان الاجتماعي الذي يمثل اليوم أكبر تاجر عقارات ومضارب في الأراضي بالدولة الفقيرة.. صحيح أن أموالاً خاصة تستقطع من العاملين في القطاعين العام والخاص، لكن الوجه التجاري للصندوق ودخوله السوق والمضاربة في الأراضي والاستثمار في المصارف والمشروعات ذات الصيغة الاستهلاكية، بل الدخول في شراكات مع التجار والشركات قد جرد هذا الصندوق من أي أبعاد إنسانية وخيرية.. فهل استطاعت الوزيرة “الدولب” بما تملك من رؤى تقديم أية أفكار لتطوير المشروع؟!
} أما ديوان الزكاة الذي يعدّ مستقلاً إدارياً عن الوزارة والحكومة أو هكذا يفترض، فقد تعرض لحملة تشويه متعمدة من جيوب العلمانية داخل الدولة السودانية، وساعد الديوان هؤلاء بسوء تقديراته، وطريقة بعض موظفيه الفظة في التعامل مع الفقراء والمساكين، حيث يحشد ديوان الزكاة في مداخله الحراس الغلاظ الأشداء على الفقراء وطالبي الحاجة.. ويقدم الديوان الصكوك المالية بمليارات الجنيهات في الاحتفالات كمساهمة منه في مشروعات درء الفقر والعوز والفاقة، ويلجأ ديوان الزكاة للدعاية والشوفونية البغيضة في المواسم السياسية.. وحتى برنامج (الراعي والرعية) الذي يقام في شهر رمضان من خلال زيارة كبار المسؤولين لبعض المحظيين، دائماً ما يبدو الديوان حريصاً على الإعلام أكثر من حرصه على تقديم خدمة لأصحاب الحاجات.. ولا ينهض ديوان الزكاة بمشروعات الكفاية الاجتماعية الجماعية بتشييد محطات المياه وبناء المراكز الصحية في الأرياف وتقديم الدواء المجاني للمحتاجين، لكن الديوان يرفع شعارات مشروعات درء الفقر بتقديم وسائل إنتاج للمحتاجين كأفراد وهؤلاء في الغالب لا يستفيدون منها ولم تتبدل أحوالهم كثيراً.. وكان الأحرى بالديوان الاهتمام بالمشروعات التي تؤدي للخلاص الجمعي من الحاجة والفقر والعوز.
} أما القضية الإنسانية التي تمثلها مفوضية العون الإنساني، فقد تراجع الاهتمام بها من وزارة كاملة لمفوضية، ثم استتبعت لوزارة الداخلية احتقاراً لمهامها، وتسفيهاً لدورها بعد انفصال الجنوب، حيث ظن البعض أن المجاعات ونقص الغذاء ارتبط فقط بنزاع الجنوب.. وما دري هؤلاء أن الحرب يتبعها الجوع، والجوع يأخذ في أبطيه الفكر، والآن تمدد نقص الغذاء في عدد كبير من محليات دارفور التي كانت تغذي السودان بالحبوب الغذائية وتعتمد على نفسها، ويذهب خيرها حتى أرض الحرمين الشريفين، ولكنها اليوم باتت تأكل مما يجمعه أطفال المدارس في النرويج، وما تجود به كنائس روما وحانات باريس.. وكلما اشتدت وطأة الحروب وتفشت الفوضى زاد حجم التدخل الأجنبي.. والوزارة بهذا الحمل المثقل تعدّ من أكثر الوزارات في الحكومة رهقاً.. وتم إسناد الوزيرة “الدولب” بالدكتور “كمال حسن علي” وهو شاب يفيض حيوية ونشاطاً، وله خبرة في الشأن الخارجي.. ولكن قضايا السودان الداخلية هي الأكثر إثارة للجدل، وتأثيراً على العلاقات الخارجية.
} مكافحة الفساد أيضاً
صادق المجلس الوطني يوم الثلاثاء الماضي على اتفاقية الأمم المتحدة الخاصة بمكافحة الفساد للعام 2013م، التي تنص على تجريم وإيقاع أقصى العقوبات الصارمة على مرتكبي جرائم الفساد من رشاوى للموظفين العموميين الوطنيين والأجانب وموظفي المؤسسات الدولية، وجرائم اختلاس الممتلكات أو تبديدها أو تسريبها.. وقال مولانا “أحمد إبراهيم الطاهر” رئيس البرلمان السابق إن السودان بمصادقته على الاتفاقية سيتمكن من الانتقال إلى مراكز متقدمة في قائمة الدول في ما يلي مكافحة الفساد.. هل السودان يا سادتي قضيته الانضمام لمثل هذه الاتفاقيات؟! السودان لا تطيق حكومته مجرد الحديث عن فساد الموظفين الحكوميين، وإذا نشرت صحيفة فساد موظف صغير في محلية طرفية تصدى للصحيفة كبار المسؤولين، وتم دمغها بالكذب وتبرئة السارق.. وتصدر النيابات أوامر وفق النشر في أية قضية فساد بدعوى أن النشر يؤثر على سير العدالة.. لتبقى قضايا الفساد تحت جنح الظلام الدامس لا رقيب ولا حسيب، لذلك تفشى الفساد في البر والبحر.. وأية اتفاقيات يوقع عليها البرلمان ليست ذات قيمة إذا كانت الممارسة هي ذات الممارسة!!