مأزق الحوار
قبل بدء الحوار البطيء بين المؤتمر الوطني والقوى السياسية، إن كان هناك حوار أصل، طالبنا المؤتمر الوطني بترتيب أولوياته في العملية السياسية التي قرر الإقبال عليها بأن يضع السلام والتسوية مع القوى التي تحمل السلاح أولوية مقدمة على القوى المعارضة التي تتربص بالنظام، وذلك لثلاثة أسباب.. أولها التباين الكبير في المواقف بين المؤتمر الوطني وحاملي السلاح.. وثانياً لارتباط الحرب الوثيق بالاقتصاد حيث يستحيل خفض معدلات التضخم والمحافظة على سعر صرف الجنيه السوداني مقابل العملات الأجنبية وتحقيق قدر من التنمية في ظل حرب ضروس تلتهم كل عائدات الصادر، ويذهب ريع النفط على قلته وقوداً للبنادق وقاذفات الأنتنوف.. وأخيراً الأثر السالب للحرب على علاقات السودان الخارجية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية ودول الاتحاد الأوروبي.. ولكن المؤتمر الوطني وحكومته كانت لهما أولويات أخرى وحسابات في تقديم التفاوض مع المعارضة السلمية على المعارضة الخشنة.. وتمددت مساحات التفاؤل حينما اقتربت القوى الإسلامية ممثلة في الأمة والاتحاد الديمقراطي والمؤتمر الشعبي والإصلاح الآن من الحزب الحاكم، وكثمرة لذلك التقارب تم إطلاق حريات التعبير والتنظيم والصحافة، وبدأت الساحة تتنفس طبيعياً.. لكن القوى اليسارية والعلمانية اصطفت بعيداً عن القوى الداعية للحوار، وأخذت تلك القوى على عاتقها ضرب وحدة دعاة الحوار بزرع ألغام هنا وهناك لإحباط التسوية.. والقوى اليسارية تعلم ضعف شهية النظام حينما (تغمز إليه في عينيه) بتحريك الشارع وإعادة ذكريات تظاهرات سبتمبر.. ليأتي الإمام السيد “الصادق المهدي” بهجومه على قوات الدعم السريع، ويخوض مواجهة مع المؤسسة العسكرية التي يبدو أن “المهدي” له معها حسابات قديمة ويبغضها لأسباب سياسية.. كما أن العسكريين لا يطيقون الإمام السيد “الصادق” لارتباط حقبته في الحكم بإهمال القوات النظامية وازدرائها!! ووجد الإمام السيد “الصادق” نفسه فجأة في غياهب سجن كوبر ومعه أيضاً الحوار الوطني الداخلي.
أمام المؤتمر الوطني خيارات معدودة بالمضي نحو السلام من خلال الإقبال على التفاوض مع الحركة الشعبية من جهة ومتمردي حركتي العدل والمساواة و”مني أركو مناوي” حيث يبدو “عبد الواحد محمد نور” الآن بعيداً جداً عن قبول الجلوس مع المؤتمر الوطني وجهاً لوجه لأسباب أيديولوجية ونفسية.. وتقديم الحكومة تنازلات في لحظة قوتها الآن وهي تقترب من ضرب وتحرير أهم مناطق وجود الحركة في (أم سردبة) و(هيبان) تمثل خطوة من شأنها (تنفيس) تعبئة حزب الأمة لقواعده لإجهاض الحوار، وضرب العلاقة الحسنة مع المؤتمر الوطني والوصول إلى اتفاق مع حاملي السلاح سهل جداً وقريب غير بعيد، وكلفته السياسية أقل من أحزاب المعارضة الشمالية، وعائده السياسي والاقتصادي أكبر بكثير من عائدات الاتفاق مع “المهدي” و”الترابي” و”غازي صلاح الدين”، لأن هؤلاء لو وقعوا على اتفاق سياسي وأصبحوا جزءاً من حكومة “البشير” وبذلوا له المطارف والحنايا (وأيدوه) جهراً لن يغير تأييدهم من واقع الحرب في البلاد، وهي أزمته الحقيقية ومرضه الذي ينبغي أن يبحث له عن الطبيب المداويا.
“الصادق” في كوبر قضيته حتى اليوم جنائية وقانونية ولم تعد سياسية.. لكن سرعة الإجراءات القانونية خطوة من شأنها إعلاء قيمة احترام نصوص القانون والدستور.. أما حسابات السياسة وقطع الرئيس بقرار سياسي الطريق أمام دعاة التصعيد بالعفو عن “المهدي” وحمله بسيارته لمنزله لهي خطوة مرتجاة من كبير السودان وحكيمه!!