تقارير

«المهدي».. الانتقال (السريع) من الحوار إلى الاعتقال

بعكس توقعات البعض وأماني آخرين على رصيف الشارع السياسي ، بتدخل رئاسة الجمهورية لاحتواء الأزمة التي نشبت بين جهاز الأمن والمخابرات الوطني وإمام الأنصار، رئيس حزب الأمة القومي “الصادق المهدي”، تصاعدت الأحداث بشكل درامي مختلف ومتسارع إثر إقدام نيابة الجرائم الموجهة ضد الدولة في الثامنة ونصف من مساء أمس (السبت) بإلقاء القبض على إمام الأنصار رئيس الأمة القومي من منزله بالملازمين بأم درمان وإيداعه سجن كوبر بالخرطوم بحري، بعد أن أضافت النيابة إلى صحيفة اتهامه السابقة المادة (50) و(62) المتعلقة بتقويض النظام الدستوري إلى جانب إثارة الشعور بالتذمر بين القوات النظامية والتحريض على ارتكاب ما يخل بالنظام، ليواجه أمام الأنصار ست مواد بما فيها المادة (60 و66 69 159) مثار الشكوى الأولى.
اعتقال “المهدي” لم يكن المرة الأولى في ظل النظام القائم، فقد سبق وأن اعتقل في اليوم الثالث من الإطاحة بحكمه من قبل ثورة (الإنقاذ) 30 يونيو 1989، ثم وضع في الإقامة الجبرية في العام 1995 تخوفاً من تحركاته المحتملة ضد الحكومة لينجح في مغادرة البلاد في العملية الشهيرة المسماة (تهتدون) عام 1996 ليعود بعدها للبلاد فيما يعرف بـ(تفلحون) عام 2000 م.
القبض على إمام الأنصار بصورته المفاجئة، كان قد سبقه بيوم تدوين بلاغ جنائي ضده من قبل جهاز الأمن والمخابرات الوطني (الخميس) الماضي دامغا إياه باتهام قوات الدعم السريع التابعة لجهاز الأمن بارتكاب جرائم وانتهاكات بحق مواطنين، ما اعتبره الجهاز انتقاصاً لهيبة الدولة، وتهديداً للسلام العام، وتأليب المجتمع الدولي ضد البلاد.
تدوين بلاغ ضد (المهدي) ، ومثوله أمام محكمة نيابة أمن الدولة (الخميس) لحوالي نصف الساعة أثار موجة من ردود الفعل المتباينة بين مؤيديه وقيادات القوى السياسية ما بين قادح ومادح في خطوة جهاز الأمن من جهة وتصريحات رئيس حزب الأمة من جهة أخرى، لاسيما وأن المئات احتشدوا أمام مقر نيابة أمن الدولة لحظة مثوله بين يديها .
المهدي في أول تصريح له عقب مثوله أمام النيابة تمسك بما أدلى به من تصريحات هاجم فيها قوات الدعم السريع وكال إليها الاتهامات، بل وزاد عليها في لقاء حاشد مع منسوبيه بمنطقة (الولي) بولاية الجزيرة أمس (السبت) احتفالاً على مرور الذكرى الـ(106) لاستشهاد “عبد القادر محمد إمام” الشهير بودحبوبة، بأن وصف في لقائه الحاشد جهاز الأمن (بنعامة المك الما بقولوا ليها تك)، وتعليقه: من اليوم بنقول ليها تك، وأكد أنه لن يصمت أمام الظلم ، متهما الحكومة بأنها تسعى لجعله (شيطان أخرس)، ما قاد إلى اعتقاله وإضافة مادتين إلى صحيفة اتهامه لتصبح (6) مواد كافية حال إثباتها أن تذهب به إلى منصة الإعدام.
وكما هو متوقع، فقد أعلن حزب الأمة القومي نفض يده من الحوار الوطني الذي دعا له رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير” أواخر مارس الماضي عطفاً على ما ناش رئيسه (المهدي) من سهام بيد (الأمن) ونيابة أمن الدولة وخطوة اعتقاله من بيته بالملازمين بأم درمان.
خطوة تنفست معها قطاعات واسعة من حزب الأمة القومي بزعامة أمينه العام المقال د. “إبراهيم الأمين” وعدد من قيادات الحزب الوسيطة وكوادره من الشباب، بالإضافة إلى قوى المعارضة الرافضة للتقارب مع الحزب الحاكم، تنفسوا الصعداء لنفض (الأمة) يده من طعام مائدة الحوار الوطني.
ولاشك أن خروج حزب الأمة من منظومة الأحزاب المعارضة التي قبلت الجلوس لمائدة التفاوض التي دعا لها رئيس الجمهورية سيعصف بالحوار لما للحزب العجوز من قاعدة جماهيرية لا يستهان بها مقارنة بـ(كوتة) أحزاب المعارضة وأبرزها الحزب الشيوعي والبعث العربي والمؤتمر السوداني بعد أن غادر حزب المؤتمر الشعبي سربها مغرداً بحواره مع المؤتمر الوطني ـ الحزب الحاكم ، وكان قد سبقه إلى ذلك الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) بزعامة “محمد عثمان الميرغني” الذي وضع رجله داخل منظومة حكومة الوحدة الوطنية وحصل فيها على حصة مقدرة من (كيكة) السلطة.
حزمة من التساؤلات والاستنتاجات والتكهنات ظلت تطوف حول رأس الأزمة بين (الأمن) و(المهدي)، ويعد عدم تدخل رئاسة الجمهورية لاحتواء الخلاف الناشب بين الطرفين، أبرز التساؤلات طفقت تبحث عن إجابات تلقى بشيء من الإيضاح على تفاصيل وكنه الحدث.
كما أن الاستنتاجات لم تنسَ الربط بين ما حدث والعودة المفاجئة لرئيس حزب الأمة الإصلاح والتجديد (سابقاً) “مبارك الفاضل”، أحد قيادات حزب الأمة القومي المغضوب عليهم من قبل رئيس الحزب “الصادق المهدي”، وأشارت تقارب محتمل بين الأول والحكومة لا سيما وأنه في حوار له مع (المجهر) أشاد فيه بالقوات المسلحة واعترافه بأن ما حدث من تغييرات مؤخراً سيعجّل بعودته دون أن ينسى أن يشيد بالنائب الأول لرئيس الجمهورية الفريق أول ركن “بكري حسن صالح”، بجانب مشاركته في الحكومة الحالية، فالرجل وبعد مفاصلته الشهيرة عن حزب الأمة وتكوين لما يعرف بحزب الأمة الإصلاح والتجديد في يناير 2002م، شارك في الحكومة الحالية في نفس العام مساعداً لرئيس الجمهورية حتى أقالته من منصبه في أكتوبر 2004م.
التكهنات لم تبتعد عن أن هناك من يحرص داخل الحزبين (المؤتمر الوطني) و (الأمة القومي) على حفر هوة على طريق التقارب المحتمل بين الحزبين لاسيما وأن اتفاق التراضي الوطني الذي وقعه الطرفان أواخر مايو 2008 لم يصمد أمام موجة الرافضين من الجانبين ومتغيرات الساحة السياسية.
ولكن حساسية وضعية قوات الدعم السريع التابعة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني والحملة التي تتعرض لها خاصة من قبل الحركات المتمردة وواجهاتها السياسية ومن خلفها بعض منظومات المجتمع الدولي بما فيها مجلس الأمن الدولي الذي فشل في استصدار قرار يدينها مطلع الشهر الجاري على خلفية عملياتها العسكرية في ولايات دارفور يبدو شاخصاً في المشهد السياسي ومحركاً للمياه التي ظلت راكدة ـ إلى حد ما ـ بين الحكومة و(المهدي) الذي لم يشفع له، أنه في كل تصريحاته مؤكداً تمسكه بالحل السلمي مردداً المثل الشعبي الرائج، (حلا بالإيد أخير من حلا بالسنون)، مجافياً كل ما خطته الحركات المتمردة دعما لعملها المسلح ضد الحكومة بما فيها وثيقة الجبهة الثورية المتمردة المسماة بوثيقة الفجر الجديد والتي تهدف ـ بحسب بنودها ـ إلى تغيير شامل في بينة الدولة السودانية يطال الأجهزة الأمنية والمدنية وكل مناحي حياتها.
اعتقال إمام الأنصار دون إطلاق سراحه إلى لحظة كتابة التقرير ومع تعقيده للأوضاع ربما يكشف ما يترتب عنه من نوايا تعاطي الحكومة مع الأزمة كونها قضية سياسية أو قانونية ويفتح مساحة استقراء المستقبل عن المدى الزمني الذي سيمضيه (الإمام) حبيساً في سجن (كوبر) قبل إصدار حكم في مواجهته، وإمكانية إطلاق سراحه بالضمان مع استمرار إجراءات التقاضي في القضية مثار البلاغ.
أستاذ العلوم السياسية، المحلل السياسي البروفسور “حسن الساعوري” رفض الربط بين القضية ورغبة البعض في إفشال خطوات التقارب بين الحزبين أو دخول “مبارك الفاضل” فى العملية السياسية بديلاً لابن عمه وغريمه (المهدي)، مشيراً إلى أن القضية ذات طابع جنائي وليس سياسي متعلق بتصريحات واتهامات لقوات الدعم السريع قال إن إمام الأنصار لم ينكرها، مشيراً إلى أن رئاسة الجمهورية لا ترغب في التدخل على الأقل في الوقت الراهن في الأزمة وأنها لو أرادت لتدخلت قبل أن يتم تدوين البلاغ الجنائي في مواجهة (المهدي).
ووضع “الساعوري” في حديثه لـ(المجهر) نتيجتين لتأثير مخرجات القضية على الحوار الوطني، وقال إنه حال سير القضية بشكل قانوني نزيه وحر فإنه يمكن أن يكون لها تأثير إيجابي على الحوار القائم وأنها ستعيد الثقة، لكنه أشار إلى أنه حال التدخل في المسار القانوني للقضية فسيكون تأثيرها سالباً على الحوار .
ورأى “الساعوري” أن الأفضل عدم تدخل رئاسة الجمهورية في القضية على الأقل في الوقت الراهن ـ بحسب تعبيره، مشيراً إلى أن على رئاسة الجمهورية أن تفسح المجال واسعاً أمام الإجراءات القانونية كافة إلى ما بعد النطق بالحكم، وأنها يمكن أن تتدخل بعد ذلك للتخفيف أو العفو، بيد أنه أكد أن رئاسة الجمهورية على علم بالخطوات كافة التي اتبعت ضد إمام الأنصار، واستطرد: (رئاسة الجمهورية تعرف كل شيء).
وانتقد “الساعوري” ما تعرض له رئيس حزب الأمة القومي، مشيراً إلى أنه من كبار القيادات السياسية وأنه متفهم للأوضاع السياسية وله المقدرة على قراءة الواقع السياسي والتعامل معه بما يخدم الوطن .
حالة من الضبابية تعتور المشهد السياسي في ما يتعلق باعتقال إمام الأنصار وسط توقعات بإطلاق سراحه، ويبدو أن سخرية الأقدار أوجدت تناغماً بين تسمية قوات الدعم السريع التابعة لجهاز الأمن وسرعة إيقاع الأحداث ما بين قبول (المهدي) الانخراط فعلياً في الحوار الوطني والزج به حبيساً في سجن (كوبر)، ما يستوجب تدخلا أسرع يطوى ملف الأزمة التي ربما طغت تأثيراتها على كل مفردات الحوار والوفاق الوطني.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية