الخرطوم لأبنائها
يتحدث كثيرون عن الخرطوم التي (تريفت) وأنها تحولت من مدينة حديثة إلى أخرى تشبه القرية، وأن مبانيها التي كانت بالطوب والأسمنت أصبحت الآن مباني بدائية بلا أشكال هندسية، وأحياناً تكون منازلها (قطاطي) (عشش) وتبعاً لذلك انتشرت القمامة في كل الشوارع ولم يعد أحد يهتم بتصريف مياهها.. لقد كانت الخرطوم في الستينيات والسبعينيات لا تقل عن لندن أو أي مدينة أوروبية، حيث كانت (القمامة) تنقل يومياً وكان سوق اللحم والخضار يغسل في تمام الساعة العاشرة مساء أمام كل الناس بالمطهرات وتزال عنه كل الروائح الكريهة.. ويصبح وسط الخرطوم برائحة ذكية.
الذي نشأ في مثل هذه البيئة لا يحتاج لمن يذكره بمجد الخرطوم لأنه عاشه، والآن ماذا نرى في الخرطوم؟
نرى الآن البيوت الطينية الضيقة ونرى عربات (الكارو) الكثيرة جداً ونرى القمامة في كل مكان دون أن يحرك ذلك فينا شيئاً لأننا اعتدنا عليه ولم يعد يدهشنا.
المشكلة أن الخرطوم الآن يعيش بها ملايين من الذين زحفوا إليها من الريف المتخلف جداً فأصبحت هذه الملايين من سكان الخرطوم شئنا أم أبينا.. وهم قد جاءوا من بيئات شديدة التخلف ولا يعرفون أبجديات الإقامة في المدن.. بل أن بعضهم لا يعرف كيف يتعامل مع ذر الكهرباء أو صنبور المياه ولا يحرك فيه شيئاً وجود ترع في الشوارع ويعتبر ذلك أمراً عادياً جداً.
مشكلة الخرطوم أن الذين يقيمون بها لديهم أخلاقيات القرى وبعضهم جاء من مناطق شديدة التخلف منازلها مكونة من (العشش) و(القطاطي)، فماذا تنتظر من أمثال هؤلاء أن الواحد منهم لن يتغير لمجرد أنه أصبح مسؤولاً كبيراً في الحكومة، فالثقافة التي تحركه والتي كتب منها خبرات، تقول له إن هذا الوضع هو المثالي لأنه لم يرَ أفضل منه.
لقد أصبحت الخرطوم بيئة مفتوحة فكثر المتشردون (الشماشة) ولم يعد هناك شوارع يمكن أن توصف بأنها شوارع أحياء راقية، وأصبحت ثقافة الشماسة تحكم كل شيء.. لقد كانت الخرطوم في يوم من الأيام عبارة عن حديقة غناء.. وقد كانت الحكومة تتجاوب مع كل مطالب الأهالي.. في إنشاء المزيد من الحدائق ورأينا كيف أن الفريق “إبراهيم عبود” كان مصراً أن تصبح الخرطوم في نفس مستوى القاهرة على الأقل، فأقام الكباري الطائرة والمشاريع الزراعية الكبرى واستجلب القاطرات الحديثة، لكن خطأه الوحيد أنه قام بإلغاء الترام، الذي كان يربط بين المدن الثلاث بحجة عدم توفر الكهرباء.
كانت الخرطوم في الأعياد تصبح مثل عروس.. حيث تضاء الكهرباء في كل الشوارع ويسهر الناس حتى وقت متأخر من الليل.. وليس كما يسهرون الآن ينتظرون الماء الشحيح.
كانت مباني الخرطوم التي كانت دورها السكة حديد كلها مبنية من الطوب، وجاء علينا زمن أصبح فيه الناس يتنافسون على البناء بالطين الطوب الأخضر الذي هو أيضاً من الطين.
لقد ابتكر القادمون من الريف طريقة بناء تجعل بالإمكان الانتهاء من بناء منزل كامل خلال أيام وهي طريقة البناء بالطوب الأخضر، وقامت الحكومة بتشجيعهم على ذلك لأنها سجلت كل بيت يبنى في أي مكان في الخرطوم تسجيلاً قانونياً، فأصبح الواحد فيهم يقيم في بيت يشبه بيته في القرية وهو في غاية السعادة، لأن الحكومة لم تطلب منه تحسين ظروف سكنه ولا قدمت له التسهيلات التي تجعله يقيم في بيئة صحيحة صحية، وبهذا لم يعد هناك فرق بين الخرطوم والقرى.. من ناحية السكن والشوارع، حتى الشوارع أصبحت ضيقة ذات متعرجات كثيرة وأكملت الحكومة الباقي عندما سمحت للبعض منازل في مجرى السيول والشوارع، ولم يعد يربط بين الخرطوم وماضيها أي شيء فالشوارع أصبحت ترابية في معظمها.. حتى شوارع الأحياء الراقية مثل العمارات أصبحت في التراب.. ومليئة من الحفر الكثيرة ولا أحد يهتم لأنه نشأ في بيئة لا ترى في ذلك أي عيب.. الحل أيها السادة أن يتولى الخرطوم آباؤها الذين نشأوا فيها منذ الستينيات ولن تحتاج لأن نقول له ما هو المطلوب لأنه يعرفه.