أخبار

‏(Flash back)

مع كل نبضة قلب تمضي ثانية من الزمن.. فالزمن متحرك إلى الأمام.. ولا يمكن أن يتوقف أبداً.. لأن توقفه يعني توقف الحياة.. والأموات هم الذين توقف زمنهم.. توقف نبضهم.. وما عاد هناك متسع لثانية جديدة..!
الزمن لا يمكن إرجاعه.. أو تجميده.. لذا فسطوته طاغية جداً.. وحين نصور مشاهد لوقائع معيّنة فهذا لا يعني قُدرتنا على تعطيل وتيرة الزمن.. فاجترارها مرّة أخرى يكون ضمن زمنية جديدة أيضاً..!
هذا الفلاش باك (Flash back) الذي يكثر استخدامه في الأفلام السينمائية عادة ما يكون باللون الأبيض والأسود في رمزية للقديم وليس الجديد الذي يرتدي ألواناً زاهية.. وغالباً ما يكون الفلاش باك متضمناً أحداثاً ووقائع غاية في الأهمية، بدليل أننا عدنا بالزمن إلى الوراء خصيصاً لنعرض أحداثاً قديمة، وهو عرض يعني الأهمية والضرورة وليس مجرد العبث باجترار الزمن..!
لولا التوثيق عموماً لانقضت كل الأشياء المهمة في حياتنا، التي يحركها الزمن إلى الوراء ويشملها بغباره الكثيف.. وفي السينما أو الواقع ثمة أُناس فطنوا لأهمية التوثيق لأنهم أدركوا أن تلك اللحظات بما فيها الحاضر الآني ستمضي وتندثر وتصبح ضمن ركام الماضي..!
كثيرون يمتلكون كاميرات الفيديو أو حتى كاميرات التصوير الفوتوغرافي العادية ويلتقطون من خلالها أهم الأحداث والمناسبات لعلمهم بأنها لن تتكرر!!
البعض يقول إن التاريخ يعيد نفسه.. والأدق أن الأحداث يمكن أن تتكرر ولكن ليس بذات الكيفية والتطابق والتماثل.. وفي كل الأحوال فهذه الإعادة التي لا تعني المطابقة لا يمكن المراهنة عليها.. فقد لا يعيد التاريخ نفسه أبداً..!
حكى لي أحد الأصدقاء بندم بائن كم هو تعيس لأنه لم يجد لنفسه صورة فوتوغرافية واحدة تعود إلى سنوات طفولته.. فقد ترعرع في قرية صغيرة ونائية ولم تكن ثقافة التوثيق انتشرت بين سكانها آنذاك.. قال لي إنه لا يعرف شيئاً عن طفولته من حيث الشكل على الأقل.. وتعاسة صاحبي هذه تتكرر عند كثيرين مثله فوتت الظروف عليهم إمكانية توثيق مراحل حياتهم المختلفة!!
العالم تغيّر الآن، حيث يمكن التقاط الصوت والصورة بالموبايل وعبر آلات التصوير المختلفة الأنواع والأشكال.. ودخل (الديجيتل) في كل شيء.. وجعل التوثيق والاحتفاظ بكل شيء أمراً سهلاً وميسوراً.. وأصبح الناس يلتقطون حركة الزمن في الوقت الذي يريدونه قبل أن يبتلع الزمن تفاصيلهم وذكرياتهم الجميلة..!
ثقافة التوثيق لأنفسنا ولأطفالنا مهمة جداً.. حين نعلم أن القبض على الزمن مسألة مستحيلة، وحين ندرك أننا ومهما امتلكنا من ذاكرة قوية يصعب علينا لاحقاً تذكر ملامح وجوهنا وقسمات الحياة من حولنا..!
أجمل الأشياء على الإطلاق أن نمارس لعبة (الفلاش باك) عبر ألبوم للصور أو شريط فيديو نجتر من خلاله تفاصيل ما مضى.. قد تكون هذه التفاصيل عادية وعابرة الآن، لكنها حتماً وكلما مضى الزمن اكتسبت أهمية أكبر وأضحت أشبه بالكنز الذي لا يقُدّر بثمن..!
وحين تغمرنا أجواء العودة بالزمن للوراء أو (الفلاش باك) تكسو وجوهنا وقلوبنا فرحة استثنائية وتكثر التعليقات.. سمعت مرة مجموعة أصدقاء من حولي يفعلون هذا الشيء وهم يقلّبون ألبوماً للصور يعود تاريخه للدراسة في المرحلة الابتدائية، وكانت الدردشة على النحو التالي:
– شوفوا “أبو حميد” كان تخين كيف..!!
– لكن يا “علاء” شقاوتك في الصورة ظاهرة..
– تتذكروا القاعد زهجان ده منو.. ده أستاذ (كمال) بتاع الرياضيات.. كان صعب خلاص..
– ياه.. دي الكافيتريا.. والجماعة واقعين ضرب في صحن الفول..
– ده ما فول.. دي فتّة.. إنت ما بتشوف وللاّ شنو..
– إنتو تعالوا.. الزول ده وين.. والله أنا اسمو ناسيهو..
– يا أخي ده “علاء” وهسي بقى دكتور مشهور ما شاء الله..
– وداك “معتز”.. على فكرة “معتز” مسؤول كبير.. وتلفونو عندي..
ويتواصل حديث الحاضر عن الماضي بالاستعانة بنظام (الفلاش باك)، هذا النظام الذي حين نجلس أمام التلفاز مثلاً ورغم أنه أصبح الآن تلفازاً ملوناً، فجأة وضمن برنامج ما تتحوّل الصورة إلى أسود وأبيض.. في إشارة لنقل حدث قديم زمنياً.. ثم نطالع لنكتشف أن الذي نشاهده هو مباراة لكرة القدم يعود تاريخها إلى أكثر من نصف قرن.. أو مارش عسكري للجيش عقب الاستقلال مباشرة.. أو خطاب لزعيم سياسي مّرت عليه عشرات السنوات.. أو مسلسل معظم أبطاله الآن اعتزلوا أو رحلوا..!
كم هي مشاهدة استثنائية تلك التي تجتر الزمن القديم.. وكم هي معادلات مثيرة تلك التي نفكر خلالها ضمن آفاق الماضي ونتقمص عبرها مناخات الذي انقضى، فتسكننا دهشة الأشياء وتحل علينا فرضية المقارنة.. مقارنة أمس باليوم.. والماضي بالحاضر.. أشياء نبتسم لبساطتها وربما سذاجتها.. لكن وفي كل الأحوال يظل لها بريقها ووقارها لأنها قادمة بقوة من أزمان سحيقة.. ونجحت في أحكام قبضة اجترار الزمن والعودة به إلى الوراء.. هذا الوهم الجميل الذي ينسينا ولو قليلاً أن قاطرة الزمن القوية تمضي بسرعة جنونية.. وأن أعمارنا تنقضي تبعاً لذلك مثلما تتبخر حبات المطر قبل أن تعانق الروح أو تبلل خد الوردة!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية