تقارير

«مبارك الفاضل» وعودة طائر الشفق إلى غصنه !!

في تداعي وخواطر “المحجوب عبد السلام” حينما غادر الخرطوم في السادس والعشرين من سبتمبر 2000م، كتب في صفحة (7) من مخطوطه النادر “الحركة الإسلامية السودانية دائرة الضوء وخيوط الظلام”،وطائرة الخطوط الجوية السودانية على رصيف الإقلاع باريس بدت أقرب كثيراً من أم درمان و(النيل البعيد) كما يقول “صلاح أحمد إبراهيم” والنيل بعيد جداً وقريب جداً، والنيل ليس موجوداً أصلاً، كما يقول “الطيب صالح” ساعة غادر الخرطوم 1987م كما أغادر أنا اليوم والأمس في قلبي يفوق الخوف بكثير بل لا خوف البتة ولكن الأسى امتد واجتاح كل مساحة فتشابهت علي المشاعر واختلطت، الأسى صافٍ في قلبي مثل سماء الخرطوم، ولا شيء غيره في قلبي، تلك مشاعر الحزن والأسى لخروج “المحبوب عبد السلام” عن وطنه مقهوراً مطارداً من رحمة البلد.. كتبت عليه غربة وأسفار ولجوء لبلاد يلعنها السودانيون في مسراتهم ويلوذون بها في مواجعهم، وحينما يضيق النيل والصحراء، وأم درمان وكوستي والفاشر بمن هم خرجوا من (أصلاب) تلك المدن.. لم ينعِ لنا “المحبوب” تجربة (منافي) قاهرة انتهت بعودة دافئة.. كما يعود اليوم السيد “مبارك الفاضل المهدي” من رحلة اغتراب قهري أو اختياري، وما بين القهر والاختيار (فروقات مقدار).. عاد “مبارك الفاضل” لوطنه مرتين يوماً محمولاً على طائرة الفينيق من جيبوتي للخرطوم.. وحينها كانت جيبوتي الدولة البائسة الفقيرة إحدى ملاذات قادتنا وساستنا من حزب الأمة.. وتحت كنف قيادتها الحكيمة التأم جرحنا أو هكذا كان ينبغي له.. غير أن الجراح السودانية لا تندمل!! ما وجه الشبه بين “مصطفى سعيد” الشخصية التي أثارت حتى غرائز السودانيين في كتاب موسم الهجرة للشمال للراحل “الطيب صالح” وبين “مبارك الفاضل”.. سليل الأسرة المهدية!! بل بعض النقاد يعتبرون أن شخصية “مصطفى سعيد” تماثل شخصية “الطيب صالح” نفسه.. وهكذا يشبهون شخصية الياس في كتاب طائر الشؤم لـ”فراينس دينق مجوك” بالكاتب نفسه.. خاصة عند الموقف من الدين والتدين، فابن سلطان الدينكا شهدته يقرأ الفاتحة على روح “دينق مجوك” في مقبرته.. ولكنه (ينكر) جهراً إسلامه ومسيحيته.. وعودة “مبارك” أو طائر الشفق الغريب كما عند الشاعر “هاشم صديق” والممثلة الرائعة “سلوى درويش”.. هي الثانية في سنوات الإنقاذ الـ(25) عاماً، وهي سنوات عند الإنقاذ والحركة الإسلامية لمحة فقط من التاريخ.. وقصيرة مثل ساعة خشوع في مسجد قباء بمدينة الحبيب صلى الله عليه وسلم، وطويلة يشيب لها شعر وخصلات الطفل أو الطفلة عند المعارضة، خمسة وعشرون عاماً عن المعارضة عمرٌ مديد ودهرٌ مضى وخصمٌ من رصيد الشعب وتجربته في المقاومة والبناء والتعمير والديمقراطية و.. و.. و.
{ العودة الثانية
قد يتذكر السيد “مبارك الفاضل” خروجه الأول حينما عزفت موسيقى القوات المسلحة ووضعت نهاية لعمر الديمقراطية الثالثة وفتحت الأبواب الواسعة لولوج بعير الحكم العسكري ساحة السلطة في السودان، أما لماذا خرج “مبارك الفاضل” حينذاك ربما خرج مثلما خرج الشاعر الليبي “أحمد رفيق المهدوي” من بلدته مثل الطريد، وكما قال هو خرجت من موطني مثل الطريد ولم يقل خرجت من وطني طريداً.. ومشرداً ومنبوذاً.
والخروج الأول كان له أسباب والخروج الثاني له أسباب وكذلك العودة من خلال نافذة جيبوتي كانت لها بريق وصهيل مثل الخيل، واليوم العودة عبر نافذة مطار الخرطوم وكذلك عاد “محمد الحسن سالم حميد” بألق الحروف الدافئة في العشيات، وهو يقول:
أنا ماشي راجع
لبيوت تفتح لي أدق أو ما أدق
من غير تقول الزول منو
ولا حتى علَّ الداعي خير
لا مالك الجابك شنو..؟
(الجاب) “مبارك الفاضل” لوطنه بعد هجرة تجارية واستثمارية لدولة الجنوب، ثم يوغندا وكينيا وإثيوبيا ومصر، وكل بلاد الدنيا أصبحت للسودان منافي وأوطاناً بعد أن أصبحت أم درمان بعيدة على قول “صلاح أحمد إبراهيم”.. ولكن “مبارك الفاضل” له أسباب دفعته للخروج من وطنه، فهل انتفت تلك الأسباب؟ أم أسباب هجرته هي دوافع عودته؟
وقال “مبارك” في بيانه المنشور في المواقع الأثيرية وصحافة الخرطوم ليوم أمس (الثلاثاء)، قال إنه قرر العودة إلى البلاد التي تمر بظروف عصيبة أدت لتصاعد الاحتراب الأهلي وزيادة حدة الفقر وأن العودة تصادف عودة الحكومة للحوار وردود الفعل المتباينة وسط قوى المعارضة بين متشكك ومصدق. وقال من بين الأسباب التي دعته للبقاء بالخارج اعتزال الفتنة والابتعاد عن الصراع داخل حزب الأمة القومي عقب فشل جهوده في إقناع رئيس الحزب الإمام السيد “الصادق المهدي” بعقد مصالحة شاملة مع من سماهم بقادة الحزب المخضرمين ومع شبابه المتطلع للثورة والتغيير. وقال “مبارك” إن هذا ما دعاه لاتخاذ قرار بالاعتذار عن قبول منصب نائب رئيس الحزب في ظل استمرار الانقسام. وأوضح أنه هدف من ذلك لأن يتلمس للإمام السيد “الصادق” حقيقة ما يجري بعيداً عن نظرية المؤامرة التي ظل يرد بها على صيحات التغيير داخل حزب الأمة للتهرب من الاستحقاق المطلوب.
إن بيان “مبارك الفاضل” المنشور في الأسافير والصحافة الخرطومية لم يتحدث عن أسباب أخرى دعت السيد “مبارك” للهجرة لجوبا وكمبالا غير الصراع الداخلي في حزب الأمة واعتزال الفتنة.. وشعوره بخيبة الأمل في الوصول لاتفاق مع الإمام السيد “الصادق” لتذويب حزب الأمة للإصلاح داخل الحزب الكبير.. لم يذكر “مبارك الفاضل” أن من أسباب خروجه عسف النظام أو بطش أجهزته الأمنية بالمعارضين، كما كانت الإدعاءات بعد الخروج الأول، ولم يقل السيد “مبارك الفاضل” إن خروجه من أجل تحقيق السلام وحل قضية دارفور وحرية الصحافة.. لكن “مبارك الفاضل” كان صادقاً مع نفسه ومع إمامه في حزب الأمة ومع الرأي العام حينما أوجز الأسباب المنشورة في الصراع الداخلي بحزب الأمة واعتزال الفتنة!!
واعتزال الفتنة هي إشارة للصراع داخل بيت “المهدي” أي البيت الذي تنهض على قواعده صروح الحزب إذا شاخت القواعد وهرمت وأكلتها دابة الأرض.. سقط الحزب من عليائه و(ضجت) الساحة السياسية إما بالضحك أو البكاء ومن غير قاعدة حزب الأمة وأتباعه فإن (الباكين) على سقوطه المفترض قلة قليلة.. فاليسار يتربص به طمعاً في قاعدته لاستغلالها حتى ينال اليسار مبتغاه، واليمين يسعى ليكون له نصيب في الميراث وقد زادت هجرات الأنصار من ود نوباوي لشارع المطار.. والفتنة في داخل حزب الأمة التي أشار إليها السيد “مبارك الفاضل” هي صراع أبناء العمومة من البيت (المهدوي) المنقسم ما بين أكثرية صامتة يمثلها “أحمد المهدي”.. و”فاطمة المهدي”.. وأبناء الإمام “الهادي” من د.”الصادق” وحتى “نصر الدين” حليف “عبد العزيز الحلو” و”مالك عقار”.. وأقلية ذات صوت جهير ومال وفير وسلطة ممتدة من القصر حتى ود نوباوي، هؤلاء هم أبناء “الصادق المهدي” وحليفته “سارة نقد الله” التي جاءت لكرسي الأمانة العامة في وقت اعتبر كثيرون داخل الحزب والكيان أن “مبارك الفاضل” أحق بالأمانة العامة على الأقل إن لم يجلس على رئاسة الحزب في مقبل الأيام.
وعودة “مبارك” الثانية تفتح جراحات داخل الحزب والبيت (المهدوي) وإذا كان “مبارك” قد خرج من السودان وقطاعات عريضة من شباب حزبه تناهضه ولا تغفر له خطيئة مشاركة النظام في منصب رفيع بالقصر كما تعتقد، فإن هذه القاعدة اليوم تنظر بعين السخط للإمام الذي تعلقت به وهامت بحبه سنوات وأبناء الإمام داخل النظام الحاكم يمتد نفوذهم حتى أن الرئيس “عمر البشير” حينما سعى لإبلاغ الرأي العام بثقة القيادة في والي الخرطوم د.”عبد الرحمن الخضر” الذي تناوشته الرماح والأقلام وتربص به الأقربون والأبعدون، اختار الرئيس أن يبعث برسالة من خلال العميد “عبد الرحمن الصادق المهدي” مساعد الرئيس الذي قال إن القيادة السياسية تثق جداً في الوالي “الخضر” ويصبح ابن الإمام ضابطاً كبيراً في جهاز الأمن والمخابرات.. و”الصادق” يلتقي الرئيس “عمر البشير” في هجعة الليل وآناء النهار.. ويقول للنظام حسنات وسيئات، وحزب الأمة يسعى لمضاعفة الحسنات!!
وعندما يصبح الجميع شركاء في الهم والمشاركة وكرسي السلطة فـ”مبارك الفاضل” أقرب للشباب من “الصادق” الذي خسر الكثير ولم يكسب القليل في صراع مع الأنداد والرفاق والشيوخ والشباب.
{ مع الطائر في أديس
خلال مفاوضات السلام التي جرت بالعاصمة الإثيوبية في شهر فبراير الماضي فاجأ السيد “مبارك الفاضل” المفاوضين (الحكوميين) على الأقل بالوصول بصورة مفاجئة لمقر المفاوضات وأخذ يعانق المتمردين على حكومة الرئيس “سلفاكير” من أتباع وأنصار “رياك مشار”.. ومنهم وزراء سابقون مثل “دينق ألور” و”كوستا مانيبي” ود.”لوكا أبيونق”، ويجلس “مبارك الفاضل” مع الوفد الحكومي الجنوبي الذي مثل د.”لام أكول أجاوين” ووزير الخارجية “برنابا بنجامين” أبرز قادته.. وجذبت أحاديث الرجل الصحافة السودانية والصحافيين.. وكانت أجواء ومناخات السودان لا تسمح بنشر مقابلات صحافية مع أمثال “مبارك الفاضل” ممن تعتبرهم الحكومة السودانية (خونة) خاصة والرجل من (عرَّابي) ميثاق كمبالا للجبهة الثورية، ذلك الميثاق الذي نقل “يوسف الكودة” من خطيب مساجد بالخرطوم إلى لاجئ في سويسرا مقيماً بشقة قرب بحيرة البجع في قلب (جنيف).
كان “مبارك الفاضل” قريباً من السيد “ياسر سعيد عرمان” رئيس وفد الحركة الشعبية قطاع الشمال إليه يتحدث والأخير يصغي.. وبدا “مبارك” بكل ثقله السياسي داخل وطنه كأنه مستشار لحركة عسكرية مصدر قوتها الوحيد فوهة بندقيتها ومصدر قوة “مبارك الفاضل” حزبه الذي حمله في انتخابات 1986م، عن دائرة تندلتي ببحر أبيض كأول نائب برلماني يحصل على شرعية المقعد النيابي.. تحدث لكاتب هذه السطور السيد “مبارك الفاضل” عن مهمته في أديس أبابا وقال: (لست مستشاراً للحركة الشعبية ولكني سياسي في الساحة والمفاوضات قد تقرر شيئاً بشأن وطني فلماذا أجلس بعيداً.. التقيت الوسطاء الأفارقة والأوربيين والتقيت وفد الحركة الشعبية)، وهنا سألت “مبارك” لماذا لم تلتقِ بالوفد الحكومي؟ فقال: (ليس لدي مشكلة في لقاء الوفد الحكومي.. ولكني لا أعرف رئيس الوفد الحكومي “عمر سليمان آدم”.. لكني بالطبع أعرف بروفسور “غندور” وهو لم يأتِ لهذه الجولة وتم إسناد رئاسة الوفد لـ”عمر سليمان”).. قلت لـ”مبارك الفاضل” نحن أبناء كردفان نعتبر “عمر سليمان” قمراً منيراً ورمزاً لا تخطئه عين.. ورقماً لا يتجاوزه حدث.. ولكن دعنا من كل ذلك إذا كنت ترغب في لقاء الوفد الحكومي وإسداء النصح له وأنت حينما كنت وزير للداخلية عام 1986م، فإن أغلب أعضاء الوفد الحكومي ما كانوا إلا ضباطاً صغاراً في الخدمة العسكرية أو سياسيين لم تؤهلهم سنوات عمرهم لدخول البرلمان.. وأنت من دخل القصر مساعداً للرئيس، فكيف لا تلتقي الوفد الحكومي، قال “مبارك” في تواضع وواقعية (أنا مستعد للقاء الوفد وأترك إليك الترتيبات لتقوم بها وغداً نلتقي).. وحينما أبلغت الوفد الحكومي برغبة “مبارك الفاضل” لقاءهم أبدى رئيس الوفد “عمر سليمان” ترحيباً وكذلك د.”سليمان عبد الرحمن” و”محمد مركزو كوكو”.. بينما تحفظ آخرون.. وفي اليوم التالي شاءت الأقدار أن تغشاني أعراض ضغط الدم لأستريح في غرفة صديقي الصحافي “ياي جوزيف” القيادي المفاوض في وفد حكومة جنوب السودان، وجاء “مبارك الفاضل” إلى فندق (رديسون بلو) في الموعد وأبلغ الأخ الأستاذ “محمد عبد القادر” رئيس تحرير (الأهرام اليوم) بأنه جاء يبحث عني.. تلك هي قيمة “مبارك” في التواضع والانفتاح على الآخرين وتجاوز المرارات.. فهل تشكل عودته مصدر فرح واحتفاء من جهة الإمام السيد “الصادق المهدي” أم مصدر عنت ومشقة وقلق؟.. فالسيد “مبارك الفاضل” لم يهاجر من أجل لقمة العيش ولا ضيق معيشة.. ولم يعد لزراعة في القضارف أو بحثاً عن عقار في حديقة المدينة (قاردن سيتي) من أجل استراحة.
والإصغاء لدوبيت “حسين خوجلي” الذي حينما قرر عودة (ألوان) بعد سنوات الإنقاذ الأولى كتب يقول:
بعد ختينا حيشان الصحف في ضهرنا
عقب جاتنا الصقور متقرنا.
وينك دي الفي الغربة ما ودرنا
قول للزين عقب عادت ليالي سهرنا..
وكان “الزين” مخرجاً أنيقاً وشاعراً مبدعاً.. و”مبارك الفاضل” يعود من أجل ثلاث معارك.. لم أجزم بتراتبها أو أولوياتها. المعارك هي زعامة حزب الأمة وإزاحة الإمام “الصادق” عن مقعد الرئاسة والاحتفاظ بمقام الإمامة إن شاء.. والمعركة الثانية ولاية الأسرة المهدوية بعد أن فعلت السنين فعلتها بالإمامين “أحمد المهدي” و”الصادق الصديق” والمعركة الثالثة مع النظام الحاكم.. أما ترتيب تلك المعارك فإنها شأن خاص بالسيد “مبارك الفاضل” تبعاً لأولوياته وتقديراته.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية