الجنوبيون وهاي أوليت
لفت نظري أثناء طوافي الأخير بـ”أديس أبابا” التواجد المكثف والظاهر للإخوة الجنوبيين والذين تصادف نزولهم إلى الزهرة الجديدة ومفاوضات السلام حول المنطقتين بين الحكومة ومتمردي قطاع الشمال، كان لافتا أثناء تواصلنا كسودانيين في طرفي القضية أن مساحات الود الشخصي عامرة. صحيح أن الساعات الأولى والبدايات شابها قدر من التوتر لكن لاحقاً تقاربت المسافات بقدر انتهى إلى الوداع الحار والعناق المؤثر ليلة ختام جولة المفاوضات السادسة، مما أثار دهشة بعض الأجانب والصحافيين من غير السودانيين. ولكن بالمقابل وفي النسخة الجنوبية من مفاوضات أزمة جنوب السودان كان التوتر في قمته، لا تحيات أو (سلامات)، يبدو أن الجميع هناك قنعوا من (خيراً فيها).
الجنوبيون من أنصار الدكتور “رياك مشار” يبدو أنهم يحملون أحمالاً من البغض والاستياء لمتمردي قطاع الشمال، كان هذا ظاهراً في تحاشي وتجنب “ياسر عرمان” ومرافقيه وحتى المساندين له من النشطاء الإعلاميين، أماكن تواجد أنصار “مشار” داخل ردهات فندق الرديسون. “عرمان” بدأ أقرب اجتماعياً للوفد الحكومي الجنوبي بقيادة “نيال دينق”، وعدا ذلك فمن المؤكد أن نسبة الحانقين عليه قد زادت في قطر آخر هو جنوب السودان، خاصة أبناء النوير الذين يعتبرون العدل والمساواة وقطاع الشمال عدواً وخصماً لا يقل عن الرئيس “سلفاكير”.
لا أعلم شخصياً وعلى وجه التعيين والدقة إن كان “تعبان دينق” والي الوحدة السابق والمنشق حالياً على “جوبا”، لا أعلم إن كان قد التقى في أديس أبابا كفاحاً بياسر عرمان أما لا. والراجح عندي أنهما قد يتصادفا في مقر التفاوض، حيث كانت المفاوضات السودانية من جهة والجنوبية من جهة أخرى لا يفصل بينها سوى ممر عريض يؤدي إلى المصاعد. وحتماً فإن المقابلة مؤكدة ولكن في سياق المصادفة، فمما رأيت من تحفز واعتمال في الصدور لا أتوقع أن يكون الرجل حريصاً بأي قدر على الاحتكاك المباشر مع النوير. ولهذا لا أستطيع الجزم بصحة واقعة تهديد “تعبان دينق” له، وإن كان أتوقع حتى في حال حدوث تلاسن أن يكون الرد فظاً ولكن بدرجة أقل.
مما تلمسته، فإن لدى أبناء النوير إحساس عظيم بالأذى. والحقيقة فإنهم كانوا أغلبية رواد المطعم السوداني في منطقة (هاي أوليت) أو (21)، كانوا ودودين جداً معنا كسودانيين، يحرصون على تبادل السلام معنا ويتحلقون لتناول الوجبات السودانية من كسرة وعصيدة. فقلت في نفسي يا ويحنا، أعجز الملح والملاح أن يعصمنا في خطيئة الانفصال، ألم يكن في تلكم الساعات من وعي هنا وهناك بتجنب حالة التمزق التي نعانيها الآن في جنوب السودان وشماله؟ ولم أجد إجابة بالطبع وإن اكتفت شفاهنا بالتحيات الطيبات وتوديع بعضنا، وممارسة عاداتنا السودانية في القسم والحلف حين الدفع.
يبدو والله أعلم أن الانفصال كان درساً قاسياً وكبيراً لـ”الخرطوم” و”جوبا” حكومات ومعارضات، ولكن هل ستتم الاستفادة منه أم يكابر الجميع.