الديوان

أطفال امتهنوا التجارة في شوارع الـخرطوم!!

لعل عمالة الأطفال واحدة من الظواهر السالبة التي سادت وتمددت في السودان، تمشي جنباً إلى جنب مع التسول والتشرد وغيرهما من الممارسات التي تقع على عاتق الطفل والمنوط في أصلها هم ذووه، بيد أنهم – أي ذويه – بدلاً من أن يشكلوا له حائط صد وسياج حماية يدفعونه طوعاً للشارع الذي يفضي به إلى مسالك خطرة يتعرض خلالها لانتهاكات جسدية وإنسانية تؤثر في تركيبته النفسية والجسدية في آن. فالأطفال بمختلف سحناتهم وأعمارهم لا تخطئهم عين وهم يجوبون الشوارع والأزقة والحواري، يستجدون الناس شراء بضاعتهم البسيطة، أو يركعون تحتهم بذلة يمسحون أحذيتهم، وغيرها كثير، فكم من يافع علق بباب مركبة تجارية يفرقع أصابعه طلباً لثمن التذكرة، وقد تطاله يد أحدهم عند النقاش. ثم تشاهدهم وهم يتجولون أمام السيارات عند التقاطعات محملين بأصناف وأشكال مختلفة من البضائع، معرضين حياتهم للخطر، ويكفي أولئك الذين يمشطون الأسواق ينادون على أكياس النايلون، أو يحملون (باقات وجرادل ماء وعصير) ناءت ظهورهم من ثقلها وهم يلهثون خلفك وقد تصبب عرقهم.
الظاهرة استوقفت الجهات المعنية وأجريت العديد من المسوحات والخطوات التي من شأنها تقليصها إن لم تبدها تماماً، لكن يبقى الحال كما هو عليه، وليس ببعيد وجود عدد مقدر من الأطفال تحت مرمى البصر على مدار اليوم وفي كل الأمكنة، فماذا قال هؤلاء الذين التقتهم (المجهر) وبماذا أجابت بعض الأمهات؟
اللعب بين إطارات السيارات
عند تقاطع (المك نمر) مع شارع الجامعة، وفي عجالة سألنا الطفل “عثمان” الذي كان يتسابق مع بقية أقرانه للفوز بزبون يروي عطشه ومن ثم (يبل ريقهم) الذي جف في حلوقهم بحفنة قروش. سألناه إن كان يدرس ومن أين جاء، فأجابنا بابتسامة واسعة أنه من شرق النيل (الحاج يوسف) يدرس بالصف الخامس (بداية العام)، وهو يعمل حتى يوفر مصروفات الدراسة والزي المدرسي، وعن دخله في اليوم قال إن ربحه لا يتجاوز العشرة جنيهات فما دون يضيع نصفها في المواصلات. وقبل أن أزيد أذنت الإشارة بالعبور فتركته وأنا أدفع ثمن ثرثرتي قارورة ماء ساخن لست في حاجة لها.
ونحن نتجول في سوق بحري قبالة زنكي الخضار حاصرنا عدد من الصبية الذين يسوقون أمامهم (درداقات)، فناداني أحدهم بقوله: (يا خالة ما دايرة توصيلة)، ولما كانت الأشياء التي في معيتي لا تحتاج إلى شيال، اعتذرت له، لكن وتحت إلحاحه استجبت له ووضعت حاجياتي في كرش درداقته، وسرنا وأنا أوسعه أسئلة كاد من فرطها أن يرمي بأشيائي ويفر فرار المجذوم من النار قبيل أن يسألني (انتو محلية ولا شنو؟)، ومنها استقيت أنه يسكن بحري، يقوم باستئجار هذه (الدرداقة) من أحد معارفه بعشرة جنيهات في اليوم رغم أن دخله يتراوح ما بين خمسة عشر إلى عشرين جنيهاً، وأضاف معقباً: صاحب (الدرداقة) يستفيد أكثر مني وهو قاعد في الضل، وهو كغيره ممن حرمهم المجتمع حقهم الطبيعي في الحياة لا يدرس وقد ترك المدرسة بعد نهاية السنة الثانية، (هل تسعى حقاً إدارة التعليم بلم هؤلاء الأطفال من الشوارع وإلحاقهم بركب التعليم).
خروج جماعي للأسر
توهطت (سيدة) في صدر بنبرها وقد اصطفت أمامها مجموعة (حلل) مجلوة بعناية وصحون وغيرها من الأواني وهي لا تفتأ تعد وتوزع طعامها بين الزبائن الذين جلسوا إليها قبالة تلك المؤسسة العريقة، وليس ببعيد عنها ابنها صاحب العشر سنوات وهو يطوف كالنحلة يجمع الصحون ويلم وينظف المكان، فيما جلست بقربها ابنتها ذات الإثني عشر ربيعاً تغسل الأواني، سألتها لما تحضر معها أطفالها ومكانهم الطبيعي البيت، فردت متأسية بأنه ومنذ أن هجرها زوجها هارباً إلى جهة غير معلومة أكثر من سبع سنوات، خرجت هي وأولادها للبحث عن الرزق الحلال، وهي تعمل ببيع الطعام حتى قبل هروبه، لكنها اضطرت لأصحاب أولادها في العطلات فقط لمساعدتها كي لا تضطر لاستئجار عامل حتى تؤمن لهم مصاريف الدراسة. تناولت منا الحديث جارتها التي تعمل ببيع الشاي مضيفة: يا أختي الظروف بقت صعبة شديد، هسه أنا وأولادي بنطلع من الصباح نقفل بيتنا ونتفرق في القبل الأربع نلقط رزقنا بعرق جبينا، ودايرة أقول ليك حاجة أغلبية النسوان العاملات أرامل أو مطلقات، أو أزواجهن مقعدين أو هاربين من المسؤولية.
الأثر النفسي لعمالة الأطفال
تقول دراسة أجرتها الطالبة “سهام محمد عبد الله ” تؤثر عمالة الأطفال سلباً على النمو المعرفي للأطفال العاملين وذلك قياساً بالأطفال غير العاملين. كما تؤثر سلباً في إشباع الحاجات النفسية لديهم قياساً بغير العاملين، وكذا في النمو المعرفي وإشباع الحاجات النفسية. وتدل هذه النتائج على أن عمالة الأطفال تصبح سالبة عندما تحرم الطفل من مواصلة تعليمه، فتؤثر بذلك على نموه المعرفي وعلى إشباع حاجاته النفسية. إلى ذلك أشارت الدراسات الصادرة في الأعوام الماضية عن (المجلس القومي لرعاية الطفولة) إلى أن نسبة الأطفال الذين أكملوا الدراسة الابتدائية في ولاية الخرطوم بلغت (72%) فقط،، وذكرت الدراسة أن نسبة (34%) من الذين تركوا الدراسة تركوها بسبب إخفاقهم في تسديد مصاريف الدراسة. وبينت الدراسة أن نسبة عمل الأطفال في الشارع والأسواق وصلت إلى (75%)، ويتعرض (25%) منهم للحر والشمس، وأظهرت الإحصائيات نفسها أن نسبة كبيرة من هؤلاء تسكن في مكان العمل، كما أن بعضهم لا يتقاضى أجراً، بل يعملون لساعات طويلة من أجل المأكل والملبس فقط.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية