ذكريات "الدمازين"
في بداية التحاقي معلماً بالمرحلة الثانوية طلب مني الانتقال من “الخرطوم” إلى “الدمازين”، ولم أكن أعرف أي شيء عن هذه المدينة سوى أن السمك يكثر بها وهو رخيص للغاية، فتوكلت على الله وذهبت وكان معي أحد أبناء أم درمان اسمه “الفاتح”. توجهنا فوراً إلى “الدمازين” ووصلنا في اليوم الثاني عصراً، ولم نعرف إلى أين نتجه، ولكن مدير المدرسة قابلنا واستقبلنا وقال لنا ستقضون اليوم الأول مع أحد المعلمين إلى أن ندبر لكم مسكناً. ومنذ صباح اليوم التالي أحسسنا أن الجو شديد الحرارة مع أننا في شهور الشتاء، فقال لنا من سبقونا هنا لن تجدوا سوى هذه الحرارة طوال العام والتي لا تخف إلا عندما تهطل الأمطار، لاحظت أن الشوارع تمتلئ بـ(قش) كثيف حتى الركب ولا ينعدم (القش) إلا بالمناطق التي بها شوارع (الأسفلت)، نبت (القش) بين حصى شوارع (الظلط)، فكان الناس يقولون لنا إن هذه المنطقة لو زرعت فيها (زول يقوم)، ولم يكن يوجد حين ذاك تمرد أو قتال، والناس ينعمون بالهدوء ويمارسون الزراعة لهذا كانت الحياة سهلة.
اكتشفنا منذ اليوم الأول أن المطاعم ليست بها وجبات سوى السمك، ولأنه كثير فقد تفننت المطاعم في إعداد أنواع منه بأسماء كثيرة منها طبق يسمى (علي قاقارين)، وهو عبارة عن سمك يطبخ بطريقة معينة. الشيء الوحيد الذي لم نكن نجده هناك هو المشروبات الغازية، فكنا عندما نحضر إلى الخرطوم في إجازة نشرب ونتجرع عدة زجاجات انتقاماً. ولكن علمت الآن أن المواصلات أصبحت سهلة، وهناك شارع أسفلت يمتد من “الخرطوم” إلى “الدمازين” تسير به (عربات النقل) التي تحمل آلاف الصناديق.
هناك أشياء غريبة حدثت لنا في “الدمازين”، فمنذ اليوم التالي لاحظنا أن مجموعة من الرجال يطاردون شيئاً، قالوا لنا إننا نطارد ثعباناً ضخماً، بل حذرونا من الثعابين الكثيرة في تلك المنطقة ذات الأعشاب الكثيفة، لدرجة أننا كنا نضع (أرجل) أسِرتنا داخل إناء به زيت حتى يمنع صعود (الثعبان). وذات يوم كنا نشاهد مباراة في كرة القدم بين فريق من “الجزيرة” وآخر من “الدمازين” عندها أوقف الحكم المباراة فجأة، وانطلقت مجموعة من المتفرجين تطارد ثعباناً ضخماً ولم تتركه حتى قتلته. ولي شخصياً تجربة خاصة مع هذه الثعابين، إذ في أحد الأيام فوجئت بأن زميلي يوقظني من النوم ويشير لي أن لا أصدر صوتاً حتى لا يهرب الثعبان، وكان الثعبان المقصود ينام في الحمام حيث الرطوبة، فقد كان الجو حاراً وطلب مني أن أذهب بهدوء وأقتله بضربة واحدة لأني لو لم أقتله بضربة واحدة فسيصبح خطراً علينا، والغريب أنني كنت أستعد في تلك اللحظة لدخول الحمام للاستحمام دون أن أعرف أن فيه ثعباناً ضخماً لولا أن نبهني ذلك زميلي.
وهناك الكثير من الذكريات الرائعة جداً في تلك الفترة التي لم تعرف الحركات المسلحة والمنظمات الدولية التي تخصصت في إشعال الحروب والفتن. أذكر أن مدير المدرسة قال لنا إنهم ملتزمون برحلة سنوية إلى “الخرطوم”، لأن هذا جزء من المقرر ولابد من القيام بها، ومن بين كل الزملاء أوكل لي مهمة الإشراف على الطلاب داخل القطار، وكان يأتيني ليلاً ويقول لي لابد أن تطمئن أن كل الطلاب داخل حجراتهم في القطار، ويقول لي إن بعضهم يركب في سطح القطار وعليك إنزالهم، يلقي هذه الجملة ولا يهمهم ولا يهمه كيفية تنفيذها، فكنت أتحرك من غرفتي وأصعد إلى سطح القطار المنطلق بأقصى سرعة، وأوشكت عدة مرات أن أسقط إلى أن أكملت إنزال كل الطلاب من على سطح القطار. وهناك ذكريات جميلة لن أنساها منها تلك الرحلة إلى منطقة “بارا”، وهذه منطقة عجيبة جداً لأنها باردة طول العام رغم أنها في منطقة استوائية، فكنا لا نستطيع النوم إلا بعد أن نتدثر بالبطاطين السميكة، وفي تلك الرحلة تعرفت على منطقة “باو” ووجدت كل المهندسين الصينيين قد أقاموا منجماً في تلك المنطقة، بل إنهم أحضروا (عنقريباً) وصنعوا آخر مثله بحباله وتعلموا ذلك كله في ليلة واحدة، فعرفت لماذا “الصين” تتقدم للأمام كل يوم لأنهم لا يهربون من التحديات، وعندما كنا نشكو من الحر كان الصينيون يبتسمون ويضحكون لأننا لا نتحمل الحرارة ولا البرودة.
ومازلت أذكر تلك المباراة في كرة القدم التي شاركت فيها وأحرزت هدفاً وأنا أرتدي (البنطلون). ساعدني على ذلك، كان الطلاب يحبونني جداً ويسمعون أي توجيه مني دون أي نقاش، وأثناء حصتي لاحظ الجميع أن الصمت يعم المكان ولا تسمعوا إلا همساً، وقد ساعدني هذا الانضباط أثناء الرحلة فكنت أقف في سطح عربة القطار وأنادي الطلاب بالهبوط فوراً إلى غرفهم، فيطيعوني بدون نقاش.