(المجهر) تقلب أوراق العمر مع الأستاذ "كمال الجزولي" السياسي والمحامي (3-3)
الأستاذ “كمال الجزولي” السياسي والمحامي والصحفي شخصية مزاجية ومتمردة على الحياة منذ أن كان يافعاً، وهو موسوعة من العلم والثقافة والأدب وشخصية لطيفة إذا جلست معها وعرفتها جيداً، تنقل في حياته السياسية ما بين حركة الإخوان المسلمين وحزب الأمة جناح “الصادق المهدي”، ولكنه آثر الخروج منه بهدوء كما خرج من حركة الإخوان المسلمين وانتقل إلى الحزب الشيوعي السوداني. حاولنا أن نقلب معه أوراق العمر منذ الميلاد والنشأة والدراسات وأسباب ميله إلى جانب الأم الأنصارية دون الميل إلى جانب أسرة الأب الختمية.
حاولنا أن نتعرف على محطات هامة في حياته والتنقل من حزب إلى آخر، علاقته بالراحل “عبد الخالق محجوب” و”محمد إبراهيم نقد” و”الصادق المهدي”، وما هي أسباب إلحاق الشيوعيين بالإلحاد وهل حقاً الشيوعيون يصلون ويصومون ويحجون، أسباب الخلاف داخل الحزب الشيوعي بعد 1971م، بجانب الهوايات التي كان يمارسها، كتب شكلت وجدانه، أيام الفرح التي عاشها وأيام الحزن، مدن راسخة بذاكرته داخلياً وخارجياً، فنترك القارئ مع الجزء الأول من حوارنا مع الأستاذ “كمال الجزولي” السياسي والصحفي والمحامي.
} ربط الإلحاد بالماركسية أو الشيوعية.. أين الحزب الشيوعي السوداني من ذلك؟
– هذا حديث يروج له في المناسبات.. ففي وقت مضى كنت كثير الردود على مثل تلكم الأقاويل، ولكن اكتشفت أن الإخوان يثيرون ذلك في مواسم ويتوهمون أن الحزب الشيوعي عندما طرح موضوع الحوار سيتهافت الشيوعيون من أجل الدخول في حكومة قومية إذا ما تم إنشاؤها، لذلك الحديث عن إلحاد الشيوعيين السودانيين فيه ظلم عليهم ومحاولة سخيفة لتنفير الناس منهم، باعتبار أن الكتلة الأكبر والأقوى ثقافياً واقتصادياً واجتماعياً هي الكتلة المسلمة في السودان، وإذا حاولوا تنفير الناس من الشيوعيين وإبعادهم عن الحياة السياسية فلن يستطيعوا، إذا اعتمدوا فقط على أهل الهامش الذين ظلوا يدافعون عنهم منذ أن كان يطلق عليهم الأقليات والجبهة المعادية للاستعمار، وهذه هي الأشياء التي قربتني من الفكر الماركسي وفكر الحزب الشيوعي وجعلتني في النهاية أنتمي للحزب الشيوعي.
} هل يمارس الشيوعيون الشعائر الدينية كالصلاة والصيام؟
– نعم، الشيوعيون يصلون ويصومون، وبعض أعضاء المكتب السياسي للحزب الشيوعي يشرفون على بعض المساجد ويشرفون على نظافتها وإقامة الصلوات فيها، وكثير منهم أدوا فريضة الحج عدة مرات.. فيجب علينا نحن أن نبدأ بالهجوم لا أن نكون في موقع الدفاع عن الدين، وكما قال “عبد الخالق” وحسب عبارته الشهيرة في قضية الماركسية وقضايا الثورة السودانية (آن للشيوعيين أن يمسكوا بقضية الدين ليضعوها في مكانها اللائق، وألا يتركوها لابتزاز الرجعية والإخوان المسلمين)، وقال “عبد الخالق”: (علينا ألا نمسك بهذه القضية من زاويتها السياسية البحتة وإنما من زاويتها الفكرية، لأن الأخوان المسلمين اختاروا أن ينازلونا في هذا الأمر في الجامعات وفي المعاهد العليا، فعلينا أن ننازلهم هناك في أماكن الفكر وليس ممارسة السياسة)، فإذا أتى الناس لـ”عبد الخالق” وما تبعه من آثار لنقده الدولة المدنية ولا تعني إطلاقاً دولة معادية للدين، فأنا أعتقد أنهم سيجدون ثروة كبيرة تعين العمل الفكري والسياسي.
} هل تعتقد أن “نميري” حينما أعدم “عبد الخالق” و”الشفيع” كان ظالماً في حكمه؟
– بالتأكيد.. وهذا حديث قاله لي أحد أعضاء مجلس قيادة الثورة في مايو توفي إلى رحمة مولاه ولا أريد أن أقول الحديث نيابة عنه، فقد كان الرجل أقرب لـ”نميري”، فالأيام التي جرت فيها الإعدامات لمن يكن فيها عقل، لذلك أعتقد أن “خالد الكد” نجا من تلك الإعدامات، ونجا من براثن “نميري”، ولو قُبض عليه خلال فترة الإعدامات لما نجا منها، ولكن عندما انزاح الجنون وثاب “نميري” إلى رشده توقفت الإعدامات.. وقال الأستاذ “محمد حسنين هيكل” الكاتب المعروف حينما كتب عن تلك الفترة: هذا صيف مجنون لم يكن فيه عقل.. وأعتقد أن تلك الفترة لم يكن فيها عقل، فكان هناك ضباط ظلمة وجبناء ترأسوا بعض المحاكم، فيما كان هناك ضباط شجعان رفضوا الانصياع لقرارات “نميري” منهم “تاج السر المقبول” الذي رفض أن يحكم على “بابكر النور” بالإعدام عندما كان رئيساً للمحكمة وعندما تغير القاضي وجيء بـ”صلاح عبد العال مبروك” أصدر حكمه عليه بالإعدام.. وأعتقد أن أكبر كارثة حلّت على إنسانية العلاقة بين الشمال والجنوب هي إعدام “جوزيف قرنق” فـ”نميري” وقتها لم يكن في تمام عقله، فالإنسان الجبان عندما ينجو من خطر ساحق وماحق ويجد فرصة للانتقام فإن انتقامه يكون بلا عقل.
} وكيف تنظر إلى خلافات الشيوعيين بعد الإعدامات؟
– وقتها “نميري” كان (بيلعب) لعبة من الأمريكان.
} كيف؟
– كان يقول لهم أنا أعدمت لكم أكبر قادة حزب في أفريقيا والشرق الأوسط.. كان يقول هذا الحديث حتى يحصل على أكبر قدر من المعونات المادية والأمنية والعسكرية، بالإضافة إلى الدعم السياسي، والأمريكان كانوا يقولون له لديك أكبر وأخطر حزب في أفريقيا والشرق الأوسط حتى يجعلوه في حالة رعب دائم ويظل يعتمد على معوناتهم.. الأمريكان و”نميري” (كل واحد بيلعب على الآخر).. واكتشفوا أن الحزب الشيوعي على صغر حجمه وضعف إمكانياته لا أحد يستطيع أن يقضي عليه، لذلك ظل حزباً فاعلاً.
} ودور الحزب في المصالحة الوطنية 1977؟
– كان من المفاوضين فيها من جانب الحزب الشيوعي “محجوب عثمان” رحمة الله عليه، و”فاطمة” و”أبو القاسم أمين”، ووضعوا شروط الحزب، وقالوا لن نخوض مرة أخرى في المصالحة إلا إذا تمت الاستجابة لشروط الحزب.
} وما هي تلك الشروط؟
– مشروع جبهة للديمقراطية وإنقاذ الوطن، وفي البداية لم يؤخذ بهذا المقترح، لكن بعد قليل انفض الناس عن المصالحة لأنها كانت بلا مقومات فخرج “الصادق” و”الشريف حسين”، ولم تتبق إلا الجبهة الإسلامية.
} والانقسام الذي حدث للحزب؟
– (كان أصلاً بادي في الفترة التي سبقت الانقلاب)، وأثناء ذلك الانقلاب والسنوات التي أعقبته وفي عام 1971م تبلور نهائياً، فانقسم إلى مجموعة “معاوية إبراهيم” و”أحمد سليمان” و”فاروق أبو عيسى” و”عمر مصطفى المكي” و”الطاهر عبد الباسط”، وعدد كبير ليس بالسهل داخل اللجنة المركزية وخارجها وقواعد الحزب، من الناحية الأخرى جناح “عبد الخالق محجوب” الأساسي والأقوى الذي يمثل الحزب الشيوعي الباقي الآن.
} وإذا حاولنا أن نعرف “كمال الجزولي” المحامي وأول قضية ترافع فيها؟
– أول قضية كانت في غاية الخطورة ولم توكل لمحامٍ مبتدئ ولكن حظي في هذه الدنيا هكذا.
} كيف؟
– في واحدة من اعتقالاتي وأنا بسجن (كوبر) وجدت الشاب الذي قتل “دبلوك” وروى لي قصته، فكانت القصة متماسكة حتى اللحظة التي أخذ فيها السكين من الداخلية التي يعيش فيها وذهب إلى شقة المرحوم “دبلوك” و(ضرب الجرس)، فخرج له “دبلوك” وكان آنذاك مسؤولاً عن وحدة الاتحاد الاشتراكي الذين يعملون في الأكروبات، وكان يشرف عليهم سياسياً بالاتحاد الاشتراكي.. قال الشاب إن “دبلوك” عنفه وقال له: ألم أقل لك قبل أن تأتي لزيارتي يجب أن تتصل عليّ تلفونياً.. قال الشاب: أنا لم أطعنه بالسكين.. أنا هددته فقط.. وعندما نزلت من العمارة ألقيت بالسكين في الأنقاض وعدت إلى الداخلية ونمت، وفي الصباح عندما استيقظت وجدت الناس يتحدثون أن “دبلوك” وجد مقتولاً بالسكين أمام شقته، وقرأت في الصحف أنه ألقي القبض على طالب بجامعة الخرطوم وعُدّ متهماً، وشعرت في تلك اللحظة أنه لابد أن أدلي بما أعرفه عن القضية، فذهبت إلى الشرطة ورويت القصة وحملي للسكين وقذفي لها بعد ذلك في الأنقاض وأنا لم أقتله فهذه معلومات إذا رأيتم فيها إفادة للمقبوض عليه.. وطلب مني الدفاع عنه فقلت له: أنت محتاج إلى محامٍ متمرس وأنا خبرتي قليلة ولا أستطيع الدفاع عنك، فأصر عليّ وبناءً على هذا الإصرار رفضت أن أخيب رجاءه، واستفدت من المعلومات التي قالها واعتمدت على المعلومة التي قالها بمجيئه إلى شقة “دبلوك” وطرقه للجرس وركضه في السلم.. ماذا حدث؟ ولماذا يصر أنه لم يقتله؟ ولكن كل الدلائل تشير إلى أنه القاتل.. ووجدت العون من الدكتور “عبد الرحيم شيخ إدريس” أستاذ علم النفس وشرح لي الأمر وجعلته شاهد خبرة، وجاء وشرح للمحكمة عن مصطلح الجنون المؤقت الذي تكون فيه ذاكرة الشخص غائبة نهائياً وعندما يخرج من حالة الجنون المؤقت إلى حالة العقل ينسى نهائياً ما فعله، وبهذا الخط استطعت أن أجعله يفلت من عقوبة الإعدام إلى السجن ثلاث سنوات وانتهت الفترة بمحاكمته.
} أنت رجل انفعالي.. كيف تتعامل داخل المحكمة؟
– أنا على سجيتي لا أمثل ولا أدعي هدوءاً، فأنا شخصيتي انفعالية إلا أذا كانت الأطراف تريد أن تحتفظ بي هادئاً ولا يتعمد أحد استفزازي.
} وما الذي يستفزك؟
– التذاكي أكثر مما ينبغي، وأن (يتشطر عليّ شخص ويعمل فيها عبقري زمانه)، والذي يغالط في النصوص وهو جاهل، وهذا ليس لأنك عالم لكن لأن الأمر معروف، وتحاول إقناعه ولكنه يصر ويستفزك بأن هذا غير موجود في القانون، وتستفزني الكلمات الجارحة والسلوك الخارجي، ولكنني أحترم أي قاضٍ وأية محكمة، ويُشهد لي بذلك.
} ألم تطرد من المحكمة؟
– (مافي محامي ما طرد من المحكمة).. “أحمد سليمان” المحامي الكبير طُرد وتمت محاكمته عندما أساء للقاضي “تاتاي”.
} هل انسحبت من جلسات محكمة؟
– سجلت انسحابات مسببة في محاضر القضايا.
} ما هي أسباب الانسحاب؟
– أقولها بكل شجاعة إذا لم أستطع التعاون مع المحكمة وأعتقد أنها متحيزة وغير محايدة، وأقول القاضي الفلاني في قراره الفلاني كان متحيزاً ولم يكن محايداً، وأكتبها في المحضر وانسحب.. هذا يحدث، ولكن أنا أحترم المحاكم وأحترم زملائي المحامين ولديّ أصدقاء كثر وسطهم.
} هل خسرت قضية؟
– كثيراً.
} إذا أعدناك للماضي هل لك هوايات ظللت تمارسها؟
– كرة القدم.
} نادٍ تحرص على تشجيعه؟
– الهلال.
} مباراة عالقة بذاكرتك طرفها الهلال؟
– عندما حول أسطورة الهلال “جكسا” هزائم المريخ التسعة إلى انتصار بهدف خرافي في مرمى المريخ جعلنا نرفع رؤوسنا في أم درمان.
} كتب شكلت وجدانك؟
– قرأت كثيراً في السيرة عن إمام المتقين “علي بن أبي طالب”، وما كتبه “خالد محمد خالد” عن سيدنا “عمر بن الخطاب”، وقرأت كل ما كتبه “ماركس” عن المسألة القومية وما كتبه “لينين” و”أنجلوس”، وما كتبه كُتّاب سوفييت، وكتب ماركسية كثيرة لعبت دوراً في تحديد خياراتي، وقرأت في السودان لـ”الطيب صالح”، و”أبو بكر خالد”، و”عبد الخالق محجوب” (الماركسية وقضايا الثورة السودانية)، وقرأت لـ”منصور خالد” (يوم أكل الثور الأبيض)، وقرأت لـ”صلاح أحمد إبراهيم”، وقصص “علي المك” و”الأمين علي مدني” و”معاوية نور” و”حمزة الملك طمبل”.
} من البرامج التي تحرص على متابعتها بالإذاعة؟
– أنا أنفر من البرامج التي تكثر فيها الثرثرة، وتجذبني برامج (FM100) لـ”ليمياء متوكل”، وبرامج سابقة لـ”الصلحي” و”حمدي بدر الدين” و”علي المك” في زمن مضى وفي صوت العرب.
} وفي مجال الفن والغناء لمن تستمع؟
– لديّ أغاني (اثنتان أو ثلاث) من بعض الفنانين “إبراهيم إدريس” (أنا في شخصك احترم أشخاص)، و”عبد الرحمن الريح”.. ورغم صداقتي للراحل “وردي” و”أبو عركي” لكن أستمع إليهما كما أستمع للآخرين.