ارتفاع العاصمة وتمددها
منذ عشرات السنين يتساءل الناس لماذا تتمدد العاصمة والمدن الرئيسية ولا ترتفع لدرجة أنك في المساحة بين “الخرطوم” و”شندي” أو “الخرطوم” وأية ولاية أخرى قريبة لن تجد منزلاً يتكون من طابقين فأكثر.
ولا يعرف الناس هل القوانين تمنع بناء مساكن من عدة طوابق، المشكلة أن الناس لا يشعرون بعظم المصيبة إلا بعد أن تطرق أبوابهم، ولا يدركون أن العاصمة امتدت شمالاً وجنوباً ودخلت إلى القرى كـ”الشمالية” و”الجزيرة”، والمشكلة الحقيقية أن هذا السكن العشوائي سريع الامتداد لأنه لا يكلف جهداً لتدركوا حجم المشكلة، هل تعلمون أن كل المنطقة بين “الكاملين” و”الخرطوم” يمكن تجميعها في ثلاث أو أربع عمارات وتبقى هناك مساحات كبيرة يمكن أن تستغل في الحدائق والمزارع. حدثني بعضهم يوماً وقال لي إن “الصين الشعبية” تعهدت بتجميع كل سكان “الخرطوم” و”أم درمان” و”بحري” في ستة (عمائر) توفر لها كل الخدمات من مياه وكهرباء!! ولا نعرف لماذا رفض هذا المشروع؟ هل السبب أننا لا نحب أن نرى أرضاً خالية؟
لقد واجهت هذه المشكلة الكثير من الدول، حتى “أمريكا” في بداية تحولها إلى دولة حديثة، واجهت هذه المشكل فحلتها بهذا الأسلوب وبدلاً من الصراخ السنوي عقب كل خريف أن السيول هدمت المنازل يرتاح الناس من هذه (الولولة) السنوية وتقديم المساعدات للمتضررين.
حتى الآن لا يشعر الناس أن هذه المشكلة ستتسبب في مشكلة أخرى، لأنه لا أحد سيترك أرضه لآخر مهما كان هذا الآخر، وهذا المشروع لن يتم إلا بإجبار المواطنين على تغيير نمط حياتهم وإجبارهم على الإقامة في شقق لمصلحتهم ومصلحة صحتهم.
لقد واجهت “مصر” هذه المشكلة وكان الفلاحون يعارضون الإقامة في العمارات، لكنهم عندما جاءوا للإقامة في العاصمة “القاهرة” لم يجدوا أمامهم إلا هذه العمارات أو الإقامة في الشارع، وليس هناك حل وسط، ولهذا تشاهد في “القاهرة” أحياء شعبية مكونة من عمارات متعددة تشقها ميادين خضراء، وبهذا نجد أن الملايين من المصريين يسكنون في مساحة محدودة جداً.
هناك كثير من التعليقات الطريفة تقال حول رفض السودانيين الإقامة في العمارات منها مشكلة حفرة (الدخان)، وهذه المشكلة كما قالها لي صديقي المصري “محمد محمود إبراهيم” إننا نهتم بحفرة (الدخان) التي تستخدمها المرأة في حالة التجميل، فإذا كان لدينا منزل من طابقين لن تستطيع حفر هذه الحفرة العجيبة. لقد تطور العالم وظهرت مواقد يمكن أن تشوي فيها خروفاً كاملاً في الغرفة، ومشكلة حفرة (الدخان) أصبحت (نكتة) لا أكثر.
يقول آخرون إن السودانيين يحبون العائلة الكبيرة، وأن يروا كل أحفادهم وأبنائهم أمام أعينهم. وأقول لهم إن الأوروبيين والأمريكان كذلك، وأنك تجد ثلاثة أجيال تقيم تحت سقف واحد يكونون قريبين من بعضهم مستمتعين بخدمات حديثة من مراوح وتكييف ومياه.
ربما يبدو هذا المشروع صعباً، ولكن أؤكد أنه يمكن أن يحل خلال خمس سنوات فقط، وتحل مشكلة السكن العشوائي ويقيم الناس في شقق سكنية دون أن يمنعهم ذلك من الانتقال إلى الريف كل خريف ليمارسون الزراعة كالعادة ما دام كل شيء مسجلاً تسجيلاً قانونياً.
الآن لا يعرف أحد ما هي خطة الولاية في إعطاء كل من يريد منزلاً تسليمه له في “الخرطوم”، هل تريد سلطات الولاية حل مشكلة الازدحام بأن تجلب كل السكان إلى “الخرطوم” وهي تعلم أنهم لن يعودوا مرة أخرى.. إن هذه المشكلة تبدو عسيرة في البداية لكنها في الواقع سهلة جداً، إذ يمكن في البداية إقامة عشرة عمائر في كل عمارة (خمسين) شقة وكل شقة تنعم بخدمات المياه والكهرباء، وعندما يشاهد الآخرون هذه العمائر قد ارتفعت والناس سعداء داخلها يعيشون في مأمن من السيول والفيضانات سيسعون جميعاً لامتلاك شقق في تلك المناطق، ويمكن أن يبدأ المشروع من ساحل “البحر الأحمر” حيث اعتاد الناس على المساكن المتعددة الطوابق، ولن يكون هذا الأمر غريباً عليهم، وهذا المشروع لن ينجح إلا إذا صحبته مشاريع أخرى لتنقية المياه وتوفير الكهرباء ولو بالمولدات مع إقامة طرق سريعة بين المدن تجعل الانتقال من “بورتسودان” إلى “الخرطوم” مسألة أربع ساعات دون أن يخشى الشخص اصطدام عربة في مواجهته لأنها في الاتجاه الآخر وبعيدة جداً عنه. بصراحة لا أعرف من هو الذي يعطل مشروع ازدواجية الشوارع، يبدو أنه ميكانيكي يستفيد من حوادث السيارات!!