مسودة دستور (النيلين).. ضمير أكاديمي يصادم رغبات الساسة
(نحن الشعب) هي المقولة الخالدة التي تصدرت الدستور الأمريكي، ذلك العقد الاجتماعي الذي وضعه آباؤها المؤسسون في أربعة أشهر مكوناً من (4440) كلمة، وخلال اجتماعاتهم الأولى في 1784م خاطبهم ممثل بنسلفانيا بقوله: (جئت هنا لكي أمثل الجنس البشري كله فأرجو من الرفاق أن يتعالوا فوق حدود الزمان والمكان الضيقة، لكي يتخطوا اللحظة الراهنة، ويسموا إلى رحاب أعظم وأوسع).. بالأمس وبعد (230) عاماً وتحت شعار (دستور من أجل الوطن) اجتمع بعض أهل السودان وخبرائه في قاعة الصداقة بدعوة من كلية القانون بجامعة النيلين في مؤتمر تداولي حول مبادرة الكلية بوضع مشروع لدستور السودان، تحيط بهم أنغام (عزة في هواك) التي تغنت بها فرقة (الأصائل).
{ حاجة “خميسة” والدستور
في حوالي العقد السابع من عمرها، بسيطة المظهر، تخلو تماماً من الهالة التي تحيط بمن يرى نفسه مهماً، لكنني وبمجرد أن وقع نظري عليها قلت لنفسي: (لمثل هؤلاء ينبغي أن توضع الدساتير، ولمراعاة حقوقهم ينبغي أن تفصل القوانين).. هي الحاجة “خميسة الضامر” المنحدرة من مدينة كادوقلي، عاملة بسيطة بكلية القانون.. كانت جالسة في أحد المقاعد تستمع باهتمام إلى المتحدثين في الجلسة الافتتاحية للمؤتمر، ذهبت إليها وسألتها مباشرة: (جيتي هنا عشان شنو يا حاجة؟) فأجابت: (جيت أشارك).. (بتعرفي شنو عن الدستور) أجابت دون تردد: (الدستور بيعملوه عشان يصلحوا البلد، وعشان الناس كلها يكون عندها راي، وعشان في النهاية الناس ترتاح).. فتساءلت: هل يمكن أن يكون هناك تعريف للدستور أصدق من هذا؟! قبل أن أودعها سألتها: (تفتكري الموضوع ده ح ينجح) فردت: (ما معروف.. هي تجربة عشان الناس يقدروا يصلحوا البلد). هؤلاء هم (الشعب) الذي ينتظر أن يكون له رأي في وضع دستور يحكم حياته، لا يأتيه من علٍ تحمله له النخب.
{ من أسفل إلى أعلى
هذا ما أكد عليه الرئيس المناوب للجنة وضع مسودة الدستور البروفيسور “بركات موسى الحواتي” بأن الجامعة ترغب في وضع مسودة دستور تنبع من القاعدة وتصعد إلى أعلى وليس العكس، وقال خلال مخاطبته الجلسة الافتتاحية: (نريد دستوراً يضع ملامحه الشعب ويكسر صفوية صناعة الدساتير)، وأكد أن اللجنة عرضت المسودة على حوالي (50) حزباً سياسياً. وطالب الشعب بعدم اليأس والعمل على مواجهة الملمات والأزمات بجسارة.
{ الضمير العلمي وسيادة العلماء على الساسة
عميد كلية القانون رئيس لجنة الدستور د. “عز الدين الطيب” أكد أن المؤتمر يحكمه الضمير العلمي لأهل العلم والخبرة، مشيراً إلى أن المسودة شارك فيها أساتذة القانون والعلوم السياسية في جامعات (النيلين، الخرطوم، الإسلامية، الزعيم الأزهري والرباط). وذات الخط مضى فيه مدير الجامعة بروفيسور “أحمد الطيب” مؤكداً تميز جامعة النيلين بخبراء قانونيين (لا يشق لهم غبار)، ولفت إلى أن الناس في السودان اعتادوا أن تأتي الحلول من السياسيين، وقال: (آن الأوان أن تنعكس الآية ليكون العلم والعلماء مقدمين على السياسية والسياسيين خاصة في وضع الدستور)، مطالباً أن يأتي دور الساسة لاحقاً لدور العلماء والخبراء. وهذا ما فتح عليه أبواب الهجوم من قبل بعض الساسة وأهل الأحزاب.
{ مسودة لا قيمة لها
عبارة قاسية أطلقها أحد ممثلي حزب المؤتمر الشعبي في هذا المؤتمر التداولي، وهو أمين أمانة الحكومة والسلطات والأمن د. “محمد العالم”، ومن العجب أنه أستاذ في كلية القانون التي أنتجت هذه المسودة، فالرجل بدا ناقماً جداً على المسودة وعلى مدير الجامعة وهو يقول لـ(المجهر): (ليس من اختصاص الجامعات وضع الدساتير، فهذا دور الأحزاب ومنظمات المجتمع)، ولم يتورع الرجل في مهاجمة الكلية التي يعمل بها قائلاً: (كلية القانون بالنيلين ليس بها أي خبير دستوري إلا واحد وبالمعاش وطالبة ماجستير لم تشارك في اللجنة). واستغرب “العالم” كيف يطالب مدير الجامعة بأن يأتي الساسة وراء الأكاديميين، وأشار إلى أن الدستور مجموعة خيارات ويطرح كل حزب خياراته حول مواد الدستور وقال: (الأحزاب بها أجسام معنية بقضايا الدستور والقانون، وبها خبراء أكثر من الموجودين في جامعة النيلين). وأرجع “العالم” مبادرة الجامعة إلى رغبة مديرها في إرضاء من فوقه للإبقاء عليه في موقعه.
{ آيات القرآن وحقوق الأقليات
“أسماء” ابنة الراحل الأستاذ “محمود محمد طه” أشادت بمبادرة الجامعة لوضع مسودة للدستور، لكنها انتقدت بدء المسودة بآيات من القرآن الكريم، وأقرت بأن غالبية الشعب مسلمون، لكنها تساءلت في تصريح لـ(المجهر): (هل الدستور يخص المسلمين فقط؟ أين الأقباط وبقية المسيحيين؟)، وعدّت أنها بادرة نحو غمط حقوق الأقليات الدينية، وقالت: (عدم مراعاة حرية الاعتقاد من أكبر مشاكل الوطن)، وامتد نقدها إلى اقتصار مشاركة المرأة على ممثلة واحدة فقط في جلسات المؤتمر كافة، وعدّتها إشارة سالبة في خضم الحديث عن مشروع الدستور، تشي بعدم منح المرأة حقها في المشاركة.
{ محور شكل الدولة
نص هذا المحور على إعادة هيكلة الدولة لتكون على نظام الأقاليم والقطاعات، والنظر في تطبيق النظام الاتحادي غير المتوازن، ورأى بعض المشاركين العودة إلى نظام الدولة البسيطة وإعادة النظر في طريقة تحديد اختصاصات سلطات المستويات السياسية. وفي نقطة مهمة أكد المشاركون في مناقشة هذا المحور أن الجيش مؤسسة قومية لا علاقة له بالسياسة ولا علاقة للسياسيين بالقوات المسلحة وبالقوات المنظمة. وفي جانب السلطة القضائية، أكدت التوصيات على ضرورة إلغاء المفوضية القومية للخدمة القضائية، واستعادة مجلس القضاء العالي وإعادة النظر في تركيبته، بجانب إلغاء عضوية وزارة العدل باعتبارها جهة تنفيذية.
{ محور نظام الحكم
في هذا المحور أوصى المشاركون بضرورة الأخذ بالنظام المختلط، والتوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية والسلطة القضائية. وفي رأس الدولة جاءت التوصية بأن يكون رئيس الجمهورية واحداً، ومدة دورته أربع سنوات، وأن لا يتجاوز دورتين فقط. وشملت التوصية عرض مشروع مسودة الدستور على القوى السياسية ومنظمات المجتمع المدني.
{ محور الحقوق والحريات
وهو من الجوانب التي أصبحت محل اهتمام العالم ومنظماته الحقوقية. وقد حظي هذا المحور بنقاش مستفيض، وأوصى المؤتمرون بضمان كفالة وحماية وتعزيز الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بما يتفق ويتوافق مع المعايير الدولية. وأوصوا باعتماد المواطنة أساساً للحقوق والحريات وتجريم التمييز بأشكاله كافة، وأكدوا ضرورة وضع الدستور القادم بإرادة شعبية قومية تمثل كل السودان، الأمر الذي يتطلب وقف الحرب الدائرة في بعض أجزاء البلاد، لضمان مشاركة جميع المواطنين في وضع وإجازة الدستور. ولصون الحق في التعبير أكدت التوصيات على حرية الفكر والرأي والتعبير بشتى الوسائل والطرق المشروعة وفقاً لما ينظمه القانون، وشددت على تحريم وتجريم الرقابة القبلية سواء للصحف أو البرامج في وسائل الإعلام الأخرى. ولضمان سيادة نصوص الدستور على ما سواها، أوصت المسودة بإنشاء مفوضية قومية للمراجعة الدستورية لضمان موافقة جميع القوانين السارية وتلك التي يتم اقتراحها مستقبلاً لنصوص الدستور والمواثيق والاتفاقيات الدولية.