المات منو؟!
خبر (مجزرة بانتيو) الذي ينتشر على نطاق واسع ويقول إن نحو ثلاثمائة من التجار السودانيين والمقيمين هناك قد قتلوا وهم داخل مسجد المدينة بيد قوات متمردي جنوب السودان، ويقل العدد في رواية أخرى بجناة آخرين، ثم يرتفع في رواية ثالثة.. ولاحظت بشأن هذا، الغياب التام والكامل للمصادر الرسمية، فوزارة الخارجية صمتت والسفارة السودانية بجوبا لم تعلق تكذيباً أو إثباتاً للواقعة، وجيش جنوب السودان والعقيد “أقوير” يهذي بكلام كثير غير مفيد، ولكن الخبر انتشر، بل ونشرته بعض الصحف بذات التضارب في أعداد الضحايا وهوية الجناة.
لو أن الخبر كان نقداً لوزارة الخارجية والوزير “كرتي” لوجد الناطق باسم الخارجية فسحة للإيضاح والتصويب والدفاع.. ولو أن الحدث كان يتعلق بأمر في سفارة من سفارات السودان ولو جدلاً حول شراء (مقلمة) لوجد الحدث طريقاً لتصريحات المسؤولين، ولكنهم ضحايا وقتلى ولا بواكي عليهم، وكان يمكن بكل وضوح وشجاعة أن تخرج الحكومة ببيان بشأن رعاياها وهل هم ضحايا مدنيون وتجار عزل أم أنهم فئة تعمل عملاً آخر!! وفي الحالين فإنهم مواطنون لا يمكن أن يقتل منهم ثمانية أو ثمانمائة ولا يحرك أحد ساكناً.
المزعج كذلك والمخيف في الأمر حالة الهدوء التي تعامل بها الناس والمواطنون في استقبالهم لتلك الأنباء والتعامل معها، ولست أدري هل الأمر صدمة؟ أم (برود) واعتياد على مثل هذه الأخبار؟! توقعت ردة فعل أكبر مما رأيت ولم تحدث!! والتفسيران يعينان أن هناك مشكلة، فاعتياد مواطن على أخبار الموت والقتل مسألة ذات دلالات غير مريحة.. وللأسف فإن حصادنا في الأعوام الأخيرة يرجح عندي فرضية الاعتياد هذه.
الأحزاب والتنظيمات السياسية التي تزيد عن التسعين حزباً بالبلاد كلها لزمت الصمت عدا بيان (سمك لبن تمر هندي) دفع به (الإصلاح الآن) ووقع في ذات إشكالية (المات منو؟!)، ويشكر على ذلك، فهو مقارنة بكل الأحزاب الأخرى بادر وقال قولاً فيما لم نسمع (بغم) من أي تنظيم آخر، رغم أن الحادثة بكل الأبعاد والتفاصيل الضخمة والصغيرة تستحق العرض والتداول في الخطاب السياسي الذي آن له أن يعتق رقابنا من جدل الحوار والمبادرة والحريات، حتى بدا وكأن الجميع قد ترك مقاصد مبادرة الرئيس الأخيرة ليتحدث عنها إما مادحاً أو منتقداً لاعناً، رغم أن المطلوب من المبادرة نفسها العمل والتطور إلى الأمام وليس تحويلها إلى مضغة علكة!
يحتاج الرأي العام المحلي إلى معرفة حقيقة ما وقع بـ(بانتيو) وضد من ولماذا!! وترك الحدث هكذا بلا (تنوير) مفيد سيزيد من مساحات التأويل ومط القصة من أكثر من جهة، وتلوينها لأغراض ليس من بينها الحقيقة.. والواقعة برمتها، فيما يبدو، ستكون فرصة للتوظيف الإعلامي والسياسي، وحكومة الجنوب تحديداً سبقت الكل إلى مسرح الحادث ورسمت عليه خطتها الإعلامية والترويجية.. وراجعوا ما قال العقيد “فيليب أقوير” الناطق باسم الجيش الشعبي.