رأي

بيت بكاء.. باليمن والسودان!!

{ أمس الأول رحل “عثمان اليمني” بعد معاناة مؤلمة وطويلة مع المرض.. وكل من عليها فان ولكل أجل كتاب.. الحمد لله.. كلنا إلى هذا المآل.. وقبله بأيام سبقه “ناجي القدسي” الملحن المعروف، و”عثمان” و”ناجي” كلاهما مرتبطان برحم مع أهلنا باليمن الحبيب، ولنا نحن أهل السودان وشائج ودم ولحم.. في مطلع التسعينيات ذهبنا في قافلة ثقافية إلى صنعاء تلبية لدعوة الجالية السودانية هناك.. تلك كانت المرة الأولى التي أزور فيها اليمن.. “عثمان اليمني” كان أحد أفراد القافلة، وهناك تعرفت عليه عن قرب.. فنان شفيف صاحب رسالة، لم يمتهن الفن من أجل لقمة العيش بل كان مدركاً أن قدره أن يسخر موهبته لأهل السودان، ما طلب لحفل إلا لبى الدعوة.. لم أدرك عمق صلاتنا بأهلنا باليمن إلا بعد أن ذهبت معه إلى أهله هناك، ولن أوفيهم حقهم في حفاوتهم بنا.. نحروا لنا العجول، فهي اللحم الطيب لديهم (عجبوا حينما عرفوا أنني نباتي)، وفاضت دموع أهل اليمن وهم يستقبلونه وقدموا لنا الهدايا وبسطوا لنا السجاد الفاخر وعقدوا لنا مجالس الشعر.. ولـ”عثمان” شقيقان أحدهما مغنٍ فنان بفرقة الفنون الشعبية والآخر صديقي الشاعر “نور الدين”.. والراحل– له الرحمة– كانت تربطه بقادة الإنقاذ علاقة الصداقة الحميمة، لا سيما صديقي عضو مجلس قيادة الثورة “سليمان محمد سليمان”– المزارع الآن– والراحل الفريق “الزبير محمد صالح”.. سليمان عملنا معه حينما كان الناطق الرسمي للإنقاذ ومشرفاً على هيئة الثقافة التي عُينت مديراً للإبداع بها.. كان الراحل جريئاً في طرحه الإبداعي، لم يجعل غناءه قاصراً على العاطفة والحب والحبيبة.. كانت أغانيه متعددة الأغراض.. اجتماعية وثقافية وسياسية ودرامية.. تفرد في أداء الموال، يبدأ به غناءه فيشده من يستمعون له، ويقودهم إلى فهم اللوحة الشعرية فيهتزوا طرباً ويدمي أكفهم بالتصفيق.. وله هوى وأشعار شيخنا “إسماعيل حسن”، وعدد مهول من شعرائنا المجيدين من أولاد شايق.. حضر إليّ غاضباً قائلاً: (مالو لو غنيت للإنقاذ؟! ناس الإنقاذ ديل ما سودانيين؟! ما أخوانا ما أولادنا؟! ولمن عملوا الانقلاب، ما دايرين يصلحوا البلد!!).. (يا “أبو عفان” روق وريني الحصل شنو؟!).. (جماعة مننا دايرين يمعنوني أغني في حفلات الإنقاذ!! قال شنو، قال استقطبوني!! هسع إنت يا التجاني منتمي لتنظيمهم؟! ما جيت تخت سهمك! يعني نبقى معارضة؟! نقيف نتفرج؟!).. يومها حدثني بلغة بسيطة وعميقة عن الوطن والمواطنة والسياسة والتنمية.. رحمك الله يا “عثمان”.. كنت مع الجنود تحارب بالنغم والكلمة الرصينة تعبئهم بقيم الذود عن حياض الوطن.. وكنت تروح عنهم وتضحكهم.. وأشهد أنك كنت قومي المنحى، محباً للسودان الواحد الخالي من التحزب والتناحر، وكنت حادياً للركب لا تخشى في الحق لومة لائم.
علمتني أن الثقافة أمر مهم للأمة، وحرضتني أن أكتب أكثر من ملحمة (يا ماشي للميدان.. كلم أخوي “عثمان”.. قول ليهو ناس البيت.. والحلة والجيران.. مستنين جيتك.. دي الحنة في رمضان.. والحاجة بتقول ليك.. لو روحك الطاهرة.. سلمتها الديان.. برضو الفرح حيتم، وعروسك الحلوة.. حتكون هي السودان.. ويا ماشي للميدان، لو جيت بي سكة “بور” بالله حييها، وسلط عليها النور.. ونقّي التقاوي وزيد من كل عينة بذور، والعاطل الهيمان، بي عملو يصبح زول.. ومن “نمولي” لي “الشلال” نهتف جميع ونقول بالوحدة مجتمعين.. بكرة الحرب حتقيف.. ويقيف معاها نزيف… ويعم بلدنا خريف هطال ويروي الطين).. والنص الشعري طويل لحنه صديقي الموسيقار الفنان “صلاح مصطفى” وغناه مع كوكبة من الفنانين منهم “حمد الريح”، “عثمان مصطفى”، “عابدة الشيخ” والمرحومان “عبد الله دينق” و”خوجلي عثمان” يرحمهما الله وموسيقيون وكورال من المغنين.. في ذلك المساء بقاعة الصداقة عانقتني وأشدت بالأوبريت الذي عرضناه بالقاعة مرة واحدة ولم يُعد بثه برغم أن التلفزيون القومي قد سجله.. أما “ناجي القدسي”.. و”القدسي” اسمه الفني مثلما سمي “عثمان” باليمني أيضاً اسماً فنياً.. أيضاً كان “القدسي” فناناً ملتزماً ومؤلفاً موسيقياً بارعاً، وأحد المجددين في الموسيقى السودانية التي أحبها حباً جعله يتفرغ تماماً لها، وشكّل مع “حلنقي” و”حمد الريح” و”التاج مكي” مجموعة مبدعة قدمت غناءً جميلاً في سبعينيات القرن الماضي وثمانينياته.. رائعة المرحوم “الدوش”: (الساقية لسه مدورة) من ألحانه، ورائعة “حلنقي” (حبيت عشانك كسلا)، وعدد مقدر من ألحان شجية زينت مكتبة غناء أهل السودان.
يمانيان فنانان سودانيان، صنعا جسراً من علاقة أكدت أن المصاهرة والثقافة ركيزتان من ركائز وحدة الشعب العربي وإن بعدت مسافة الجغرافيا.. وأهلنا اليمنيون يحبوننا ونحبهم، ودونكم صديقي الطبيب الفنان “نزار غانم” الذي أحب السودان وألف كتابين في حب الناس، والده كان محاضراً بجامعة الخرطوم وابتدع (السومانية) نهجاً يؤصل فيه صلة اليمن بالسودان.. ودائماً أقول الثقافة وسيلة يجب أن لا نهملها، فهي تجمع ولا تفرق وتقود الإنسان دائماً إلى مرافئ الجمال والحب.. يرحمكما الله- “عثمان” و”ناجي”– رحمة واسعة، فقد كنتما تحبان السودان وتركتما إبداعاً لعموم أهل السودان.. ونيلك.. أرضك.. زرعك.. ناسك.. أصلك.. فرعك.. بحبك من ما قمت.. بحبك يا سودان.. وهمي أشوفك عالي.. ومتقدم طوالي.. وما بخطر على بالي.. غير بس رفعة شانك.. وتقدم إنسانك.. عموم أهل السودان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية