سيناريو الاستغناء عن الأحزاب المنشقة من «الميرغني» و«الصادق المهدي» !!
القاموس السياسي لا يعرف المواقف الدائمة والأوضاع الثابتة، فهو يقيس الأشياء على ميزان المصالح الواقعية واتجاهات البوصلة الآنية.. هكذا يتأطر المنظار السياسي الاعترافي الذي لا يؤمن بالمجاملة والتدليس، وينحاز دوماً إلى الحسابات الدقيقة والقراءة الذكية.. وقد طبقت الإنقاذ هذا المعيار عندما كانت تعاني من العزلة والمقاطعة في السنوات الأولى من الحكم، حيث عملت على فتح نوافذ سياسية من خارج خط الانقلاب في سبيل التواصل مع المواطن السوداني الذي لم يهضم الأيديولوجية الحاكمة آنذاك.
وبالفعل أدخلت الإنقاذ بعض العناصر السياسية من الأحزاب التاريخية في قطارها بغرض تحجيم الصبغة الأخوانية وإظهار موجة الانفتاح على شكل السلطة، فكانت مشاركة الدكتور “حسين أبو صالح” من الاتحاديين والأستاذ “عبد الله محمد أحمد” من حزب الأمة في ذلك الظرف. وبعد ذلك كابدت الإنقاذ في دعوة الكثيرين من القوى السياسية المختلفة للدخول في بلاط الحكم، في سياق مفاهيم التداوي من أوجاعها وفك عزلتها أكثر من إشارات الانفتاح والتعامل مع الآخر التي كانت تطلقها في الأجواء.
كسبت الإنقاذ مشاركة “الشريف زين العابدين الهندي” و”مبارك الفاضل” في قطار السلطة، فقد شارك الأول باسم الاتحادي الديمقراطي المسجل، بينما دخل الثاني باسم حزب الأمة (الإصلاح والتجديد)، وقد كانت خطوة الاثنين حدثاً فريداً وخطيراً قُوبل بالاستهجان والاستغراب من الكثيرين. وبذات القدر، فقد شكّلت الخطوة دفعة معنوية وسياسية طالما جرى المؤتمر الوطني وراءها.
لم تدم العلاقة بين “مبارك الفاضل” والمؤتمر الوطني طويلاً، إذ سرعان ما اختلف الرجل معهم استناداً إلى طموحاته الزائدة وشخصيته المثيرة للجدل، غير أن بعض مرؤوسيه قاموا بتأسيس خمسة تنظيمات استنسخت من حزب “مبارك الفاضل”، كانت معبر دخولهم إلى قطار الإنقاذ في مشهد سينمائي يجسد مسوغات التكالب العميق في عشق (كيكة الحكم)، فقد دخل “عبد الله مسار” باسم (الأمة الوطني) و”الصادق الهادي” باسم (الأمة القيادة الجماعية)، و”أحمد بابكر نهار” باسم (الأمة الفيدرالي)، وا”لزهاوي إبراهيم مالك” باسم (الأمة التنمية والإصلاح)، و”بابكر دقنة” باسم )الأمة المتحد)، وقد رأى البعض أن الإنقاذ كانت (تهزل في الجد) عندما استوعبت هؤلاء الذين يفتقرون إلى البعد الجماهيري.
وفي السياق، كان “الشريف زين العابدين الهندي” زاهداً في السلطة على المستوى الشخصي، لكن العناصر القيادية في حزبه شاركت في الحكومة منذ 2002م حتى الآن من خلال مبادرة الحوار الشعبي الشامل.
واقع الحال يؤكد بأن الخيط الأبيض قد استبان من الخيط الأسود في الساحة السودانية، وأن الإنقاذ صارت مجبرة على مسايرة الحقائق وفتح خطوط المنطق والواقعية وقراءة التحديات والمهددات من الزاوية العصرية، والتعامل مع القوى السياسية الكبيرة النابضة بخصائص التاريخ والوجدان والثقل الجماهيري والتفكير في طرح رافعة القبول الوطني، حيث لم يعد مقبولاً تلوين الأشياء بغير الحقائق وتكبير الأحجام على حساب الشفافية والمصداقية.. فالشاهد أن هذه المعطيات الواضحة كانت مدخلاً طبيعياً لسيناريو كبير قام على أعتاب مرحلة مؤتمر المائدة المستديرة، أبطاله مجموعة مقدرة من رموز الإنقاذ، فقد كانت المداولات بينهم تتسم بالتكتم الشديد والدراسة العميقة، وكان من ضمن الحديث التركيز على أهمية الاستغناء عن مشاركة الأحزاب المنشقة من “الميرغني” و”الصادق المهدي” خلال الفترة القادمة، وكان على رأس الحجج أن تلك الأحزاب قد استنفدت أغراضها وانتهى دورها السياسي، ولم يعد الاتحادي المسجل وأحزاب الأمة الأخرى تخدم متطلبات المرحلة المقبلة بوجودها في السلطة، حيث ظهرت أولوية الارتكاز على حزبي الأمة القومي برئاسة الإمام والاتحادي الأصل برئاسة مولانا بحكم الوزن السياسي والثقل الشعبي في الحزبين الكبيرين، بل هنالك من تداول في الاجتماع بأن مشاركة “مبارك الفاضل” كانت تمثل غصة في حلق الإمام “الصادق” حتى الآن، وبذات القدر فإن كثيراً ما استنكف مولانا المساواة بين حزبه وحزب “الدقير”.
من الأشياء اللافتة أن بعض رموز وقيادات تلك الأحزاب المشاركة قد شعرت بوجود مخطط لإقصائها من الحكومة خلال المرحلة المقبلة، وربما تكون لديهم قرون استشعار تعكس أمامهم الخطر القادم، فالواضح أن مؤتمر المائدة المستديرة المرتقب قلب الموازين رأساً على عقب وأحدث زلزالاً كبيراً في المفاهيم والتوجهات على باحة المؤتمر الوطني، فهنالك الرأي السائد الذي يرى بأن هيكلة السلطة يجب أن تكون في المستقبل متمثلة في المؤتمر الوطني وحزب الأمة القومي والاتحادي الأصل والمؤتمر الشعبي والجبهة الثورية وجبهة الشرق، على أن تكون بقية القوى السياسية في وضع المساند الأخلاقي والمعنوي لمرحلة التوافق التاريخي، فلا يمكن مشاركة أكثر من (83) حزباً في توليفة حاكمة.
هكذا يريد المؤتمر الوطني أن يواكب المائدة المستديرة بوداع الأحزاب المنشقة من الكيانات التاريخية، ودائماً المؤلفة قلوبهم يذهبون عندما تأتي اللحظة الفاصلة.