بعد رحيل «شريف».. عن «وردي» نقول (1 – 3)
لقد واجهتنا خلال الفترة الماضية هجمة شرسة جداً بموقعي (الراكوبة) و(نيلين) عندما كتبنا خواطر وذكريات مع الصديق العزيز “محجوب شريف”، حيث استنكر البعض حكاية علاقتنا الوطيدة مع شاعر الشعب ومع إمبراطور الغناء “محمد وردي”، وها نحن ننشر تلك الأسرار الإيجابية حتى نضع من يرغب من القراء في الصورة تماماً، كرد لتلك الإساءات الشخصية الجارحة والمبرمجة عما وبلا مبرر، كما أننا لا نملك طريقة لتبادل الإساءات وأسلوب الشتائم، ولا نعرف الكتابة تحت أسماء مستعارة مطلقاً، لأننا كتاب مفتوح لا نخاف من شيء، وليس في عملنا المهني سابقاً وحالياً في الإدارة المالية لأربعين عاماً مضت، وأيضاً إسهامنا الصحفي لثلاثة عقود من الزمان، ما نخاف أو نخجل منه.
وفي حقيقة الأمر، ظل العديد من أهل السودان العاشقين لإبداعات الأستاذ الموسيقار الذي غادرنا إلى دار الخلود، وهي دار وبلا أدنى شك هي خيرُُ وأبقى، يتساءلون في ذلك الزمان من العام 2002م، كيف لـ”وردي” أن يدير ظهره لـ”الولايات المتحدة الأمريكية” التي كان مقيماً بها بمدينة “لوس أنجلوس” بولاية “كاليفورنيا” في الغرب الأمريكي، وكيف يدير ظهره أيضاً لـ”بريطانيا” التي كان مقيماً بها، بل كيف يدير ظهره تارة أخرى لـ”القاهرة” التي استقر فيها دهراً من الزمان ويمتلك فيها الشقة والناس وأهل النوبة.
كيف يدير ظهره لكل تلك المدن والجهات المتقدمة في الطب الجراحي ويختار العاصمة القطرية “الدوحة” كي يجري فيها جراحة نقل الكلى المعطوبة والتي توقفت عن العطاء و(الفلترة) منذ العام 1999م. ولأن في ذلك قصة، قصة أن يذهب “وردي” إلى “الدوحة”، فإن المسألة قد أتت بالصدفة البحتة، وهنا نود أن نرويها للقارئ السوداني المتابع باعتبارها ركناً من مرتكزات التوثيق لمسيرة هذا العملاق الذي رحل في الثامنة عشر من فبراير 2012م في ليلة (السبت) الحزينة.
ولأن الزمان قد أتاح لشخصنا أن نؤدي دوراً محورياً في مسألة علاج الأستاذ الصديق والرمز بـ”الدوحة”، هو القطب الغنائي الضخم “محمد عثمان حسن وردي”، وهو دور قد لعبت الصدفة البحتة في تفاصيله الكاملة كما قلنا، فقد كانت القصة كالتالي:
كنت في ذلك الزمان أعمل مراجعاً للحسابات بـ(وزارة الخارجية القطرية) في رئاسة الوزارة بـ”الدوحة”، وهي وزارة تقع بشارع الكورنيش الجميل على شاطئ الخليج العربي، وذلك خلال الفترة (مارس 1998 – مارس 2003م) بعد طفنا في الاغتراب قبلها طويلاً في مجال الإدارة المالية والمحاسبة منذ تخرجنا من الجامعة، حيث كانت البداية هي العمل بمدينة “جدة” السعودية منذ العام 1975م وحتى العام 1988م، ثم اغتراب آخر مع طيران الخليج متنقلاً ما بين “البحرين” و”صنعاء” ثم “الخرطوم” حتى العام 1997م، فالعودة للهجرة تارة أخرى إلى دولة “قطر” في العام 1998م. وحين أتطرق هنا لهذه المسيرة الموجزة، فإن ذلك يقودني بالضرورة إلى مواصلة إسهاماتي الصحفية في التوثيق الفني للأغنية السودانية في صحف الدول كافة التي سبق لي العمل بها، وبالضرورة أيضاً الإشارة إلى كتاباتنا التوثيقية عن مسيرة فنان أفريقيا الأول الموسيقار الراحل “محمد وردي”، وقد أطلقنا عليها وقتها لقب (إمبراطور الغناء الأفريقي) حسب ما نشرناه وقتذاك بعد الاستطلاع والإحصاء الميداني الذي قامت به إحدى شركات الإنتاج الفني في العاصمة الأثيوبية “أديس أبابا” حول أعلى معدلات توزيع ألبومات الأغاني الأفريقية في ذلك البلد، والتي أكدت على اعتلاء ألبومات الأستاذ “وردي” للمركز الأول في التوزيع، فأطلقت الصحافة الإثيوبية والإفريقية لقب فنان أفريقيا الأول، وبالتالي فقد قمنا بتحرير أربع حلقات توثيقية عن مسيرة “وردي” نشرت بصحيفة (الشرق القطرية) التي كنت أكتب فيها وبالخرطوم السودانية بـ”القاهرة” وبالصحافة السودانية بالخرطوم في ذات العام 1999م، وقد كانت الحلقات الصحفية تحمل عنوان: (نعم.. إنه فنان إفريقيا الأول)، وقد نشرت فيما بعد في كتابنا الذي صدر الجزء الأول منه بـ”القاهرة” من أصل أربعة أجزاء لم تصدر بعد تحت عنوان (أهل الإبداع في بلادي) في العام 2000م، حيث بدأت (فنون) نشر الحلقة الأولى من السلسلة، والبقية تأتي خلال الأيام القادمات.
في يوليو 2002م أتيت إلى الخرطوم قادماً من “الدوحة” في إجازتي السنوية، وقد قمت بنقل عائلتي للسكن بـ”الخرطوم بحري”، حيث استأجرت للعائلة شقة بـ(حي الصافية)، بعد أن وصل بعض الأبناء والبنات لمرحلة التعليم الجامعي بالخرطوم وقتذاك، وقد تخرج معظمهم قبل عدة سنوات. وقد كانت صدفة بحتة أن أجاور في السكن في ذات العمارة زميلي وصديقي الأستاذ “محمد لطيف” وعائلته، رئيس تحرير (صحيفة الأخبار) الغراء سابقاً.
وذات صباح، وقبل عودتي إلى مقر عملي بـ”الدوحة”، كنت أجوب شوارع (حي الصافية) بحثاً عن مقر نزل الأستاذ “محمد وردي” الذي كان يسكن في (فيلا) في ذات الحي إثر عودته الشهيرة من “أمريكا” في مايو 2002م بعد غياب امتد لإحدى عشر سنة، أي منذ خروجه من البلاد في نهاية أغسطس 1989م تلبية لدعوة من الحكومة الليبية للمشاركة بالغناء في احتفالات (عيد الفاتح) من (سبتمبر) وبعدها استقر بشقته بـ”القاهرة” في (حي الهرم).
وقد دلني أحد سكان الحي بالصافية شمال، على مقر سكن الأستاذ “وردي”، فذهبت إليه، يسبقني انتشار كتاباتي التوثيقية العديدة عنه بالصحف و(النت)، وقد وصلته تلك الكتابات عن طريق (النت)، وهو لا يزال في “لوس أنجلوس”، فرحب الأستاذ الراحل بي كثيراً وطويلاً، بل أشار إلى السيدة الراحلة حرمه “علوية محمود رشيدي” للقدوم لتحيتي، وذلك أن “وردي” يعرف تماماً أن لنا علاقة صداقة قوية وعميقة الجذور مع أهل الحاجة “علوية” بـ”ود مدني”، حيث تمتد تلك العلاقة منذ زمان آبائنا الذي قدموا من الشمال لتأسيس (مشروع الجزيرة) مع الشركة الإنجليزية التي قامت بنقل تجربة زراعة القطن من “الزيداب” بـ(نهر النيل) إلى قلب الجزيرة بـ”بركات” بجوار “ود مدني”، فرحبت الراحلة السيدة “علوية” بمقدمي، بل وقامت بتعزيتي في أخي الأكبر الراحل الأستاذ “حسن الباشا” وهو واحد مؤسسي الحركة الفنية ورئيس إتحاد فناني الجزيرة منذ تأسيسه في العام 1976م وحتى رحيله في 14 مايو 1997م، حيث سمعت الحاجة “علوية” بوفاة “حسن الباشا” وهي في “أمريكا” عن طريق أهلها بـ”ود مدني”.
قلت للأستاذ “وردي”: هل قررت إجراء نقل الكلى، وفي أي بلد؟ فأجابني بأن خياره الأول أن يجريها في “أمريكا”، غير أن أحداث تفجير برجي مركز التجارة الدولي في 11 سبتمبر 2001م في جزيرة “مانهاتن” بولاية “نيويورك”، حال دون ذلك بسبب موقف “الولايات المتحدة” وإيقافها منح تأشيرة الدخول للقادمين من الدول الإسلامية وقتذاك، وبالتالي لن يستطيع أي متبرع من الدخول إلى “أمريكا”.
أما كيف اقترحنا له بأن نجري محاولات أن تتم إجراءات نقل الكلى بـ”الدوحة” بعد أن نعود إلى مقر عملنا في دولة “قطر”، فقد كانت هناك مساجلات بيننا وبين “وردي” والدكتورة التي كانت تشرف على إجراءات الغسيل الكلوي له بـ(مركز الكلى بالخرطوم) وهي الراحلة المقيمة الدكتورة “سلمى محمد سليمان” والتي انتقلت لاحقاً إلى الرفيق الأعلى هي وكريمتها طالبة الطب في حادثة غرق الباخرة النيلية إثر تلك العاصفة الترابية القوية التي ضربت العاصمة في ذلك الزمان.. فإن تلك المناقشات وبتفاصيلها انتهت إلى رفض الأستاذ “وردي” فكرة العلاج بـ”الدوحة”.. نوردها في الحلقة المقبلة إن شاء الله.