«أمبيكي» واليأس والإحباط من فشل مهمته في المنطقتين
{ هل ثمة ضرورة لعقد مؤتمر قومي للإعلام؟ سؤال تداعى في الفضاء السياسي والإعلامي الوطني منذ إعلان وزير الدولة للإعلام «ياسر يوسف» عن عزم حكومته تنظيم مؤتمر لقضايا الإعلام في السودان، على غرار المؤتمر الأول الذي عقدته الإنقاذ في سنواتها الأولى وبوجهها الشمولي الأول وانصرمت منذ ذلك المؤتمر (23) عاماً، وتبدلت الإنقاذ من حكومة جاءت لمحاربة الحزبية والطائفية والقبلية إلى حاضن للحزبية والطائفية!!
لقد أُعلنت اللجنة العليا لمؤتمر الإعلام، وطغى على تكوينها موظفو الدولة وممثلون للأحزاب لإضفاء صفة القومية عليها.. وهي لجنة لا تضع الحدث أو تقرر في مآلات المؤتمر وتوصياته، ولكنها لجنة إدارية لوضع هيكل وإطار عام لمؤتمر دعت إليه الحكومة، وتم تغييب قطاع الشباب من الصحافيين والإعلام الجديد الأكثر تأثيراً من الإعلام الحكومي، وحتى الصحافة الورقية التي بدأت تحتضر لعدة أسباب وعوامل.. وليت المؤتمر المنتظر عقده يناقش مستقبل الصحافة الورقية في بلدٍ عرفت الصحافة منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، ولكن في كل يوم يتوق أهلها لصحافة لم تصدر بعد.
إن قضية الإعلام في السودان تعاني أشد المعاناة من الأزمة السياسية الخانقة التي تعيشها بلادنا منذ الاستقلال، ولم يكتب الله بعد لقادتنا ونخبنا السياسية بصيرة تنقذ الوطن من ما يصنعه أبناء الوطن من أسباب الفرقة والتمزق والصراع، فالحروب المتعددة التي تدور في السودان تمثل أكبر مهدد لوجود الإعلام، دع عنك حريته!!
ومن البدهي والمعلوم بالضرورة أن الحرب قرينة بقوانين الطوارئ التي تعني (تعليق) حقوق الموطنين الدستورية والمدنية وسيادة الأحكام العرفية، فلا حرية في بلدٍ تحترق من أطرافها بالحروب الدامية، ويحصد الرصاص يومياً المئات من الأبرياء، والدولة تجد نفسها مرغمة على رفع الشعار اليائس (لا صوت يعلو فوق صوت المعركة)، وهو شعار من تحته انتهكت حقوق واندثرت قيم وسادت سلطويات مطلقة اليدين!! فأيهما أحرى بالإتباع.. أن تتجه أولاً لوقف الحروب وتجفيف منابع الدم؟؟ أم عقد مؤتمرات المستفيد الأول منها شركات الإعلان والدعاية، وشركات تقديم خدمات الضيافة والفنادق، ومقاولو الوفود الأجنبية التي برع البعض في دعوتها ليقبضوا نصيبهم من المال ويستريحوا في مساكنهم ويتركوا للآخرين منابر الكلام الذي لا يقدم شيئاً نافعاً للناس؟!
وإذا صدقت القوى السياسية فيما تقول من تصريحات وتراضى الناس على نظام ديمقراطي تعددي، وأصبح الإعلام ضميراً يقظاً وورقاً وحبراً وصحيفة تنشر ولا تخشى إلا الشعب وثوابته، وتلفزيونات تبث أخبارها وفق ما يمليه عليها ضميرها، وإذاعات ناطقة بضمير الشعب.. فما الحاجة أصلاً لوزارة للإعلام ووزير ناطق باسم الحكومة ووزير دولة ووكيل وزارة وجيش عرمرم من الموظفين والموظفات؟؟ هل سمع أحد عن وزير الإعلام في الولايات المتحدة أو بريطانيا والناطق الرسمي باسم الحكومة الألمانية؟؟
إن العالم الأول قد اندثرت عنده مظاهر الشمولية التي تجسدها وزارات الإعلام في الدول التي تماثلنا من حيث الهوى والهوية!! وأصبح للخارجية ناطق رسمي، وللقوات المسلحة ناطق رسمي، وللشرطة ناطق رسمي.. وقد جمع نظامنا بين انفتاح الغرب بتعدد الألسن وبين أنظمة الشرق القابضة، فعدد المتحدثين في دولتنا بعدد الحصى.. لكل وزارة ناطق رسمي، ولجيشنا ناطق رسمي، ولشرطتنا ناطق رسمي، ولمجلس الوزراء ناطق رسمي وهو كبير الموظفين، وللحكومة ناطق رسمي يتم توظيفه عند الحاجة والطلب، وكثيراً ما ينظر إليه بعين السخط التي تبدي المساويا من الذين هم تحته!!
إن قضية الإعلام في السودان ليست قضية إمكانيات مالية، ولا تردي بيئة العمل، ولكن القضية في السياسات غير الإعلامية التي تكتم أنفاس الإعلام وتمشي عليه بلا رحمة.. ولو كانت الإمكانيات المادية وأساطيل السيارات والأجهزة الحديثة تصنع إعلاماً لأصبح تلفزيون السودان اليوم منافساً لقناة الجزيرة، فقد أغدقت عليه الحكومة في سنوات مضت المال والإمكانيات حتى أصبح جاذباً للصحافيين بمختلف الانتماءات الفكرية والسياسية.. ولكن ماذا حدث؟؟ لقد خسر تلفزيون السودان رصيده الذي صنعه بالسهر والعرق منذ ميلاده عام 1963م، وبات طارداً منفراً لا يشاهده إلا العاملون فيه!! وقناة مثل الشروق ولدت بإمكانيات محددة، لكنها تنفست جزئياً بحرية واستثمرت في الولايات، فوجدت الآن لنفسها رواجاً أفضل من التلفزيون الحكومي الذي يصف نفسه بالتلفزيون القومي وما هو بقومي، حيث يعبّر ثقافياً واجتماعياً عن ثقافة الوسط، ولا يمد بصره إلا ما بين ثلاثية (الحقيبة والطنبور والمديح)، ولا تتجاوز رؤيته للسودان ذلك القطر العربي الذي يلهث ويتشبث بالعروبة والعرب يهرولون منه نفوراً كما تنفر العنزة الصحيحة من القطيع الأجرب!!
أما الصحافة السودانية، فقد ازدهرت كمياً، واحتضرت محتوى ورسالة.. وتأثرت الصحافة توزيعاً وانتشاراً وتأثيراً على الرأي العام بالرقابة الحكومية الصارمة، حيث بات التاجر في سوق أم درمان يجلس أمام متجره ويشاهد حدثاً بأم عينيه وتحت بصره، وغداً يبحث تفسيراً للحدث في صحافته الوطنية ولا يجده، فيلوذ بالإعلام الإلكتروني والأجنبي والمعادي، ويجد تفسيرات للحدث الذي شهده بأم عينيه يشيب لها رأس الطفل الرضيع!!
وبفضل الرقابة الحكومية، ازدهرت المواقع الإلكترونية والصحافة المهاجرة.. وحتى القنوات التلفزيونية الخارجية تجد حظها من المتابعة أكثر من قنواتنا الوطنية.. وأخشى على الحكومة أن تضعف إعلامها وتفقده مصداقيته حتى إذا بحثت يوماً عن صحافة تنشر لها أخبارها لا تجد إلا أوراقاً باردة لفظها القارئ، وإذاعات انصرف عنها المستمع، وقنوات قاطعها المشاهدون!!
إذن قضية الإعلام التي تسعى الحكومة لعقد مؤتمر لها، ذات علاقة وثيقة جداً بالصراع السياسي في البلاد والحرب، التي أنهكت قدرات الدولة وتهدد بزوالها إن تمادى المحاربون في رفض التسويات والرهان على فوهة البندقية وحدها!!
فهل مؤتمر الحوار القادم حول الإعلام ضرورة أم ترف أم هروب إلى الأمام عن الأسباب الحقيقية التي أقعدت بالإعلام الوطني وجعلته مسخاً شائهاً وصوتاً مشروخاً لا يصغي إليه أحد؟!
} هل فشل «أمبيكي» في حوار الحكومة وقطاع الشمال؟؟
{ عندما اتخذ مجلس الأمن والسلم الأفريقي قراره الشهر الماضي بتجديد الثقة في اللجنة رفيعة المستوى بقيادة الرئيس السابق لجنوب أفريقيا «ثابو أمبيكي» للاستمرار في مهمتها في التوسط بين الحكومة وقطاع الشمال، في محاولة لإنهاء الأزمة التي تعيشها منطقتي جبال النوبة والنيل الأزرق، وتحديد الـ30 من أبريل الجاري موعداً نهائياً للوصول لتسوية المشكلة المستعصية والأكثر تعقيداً من قضية دارفور، ظن البعض- وبعض الظن حسن- إن نهاية المأساة التي تعيشها المنطقتين أصبحت قريبة جداً.. ولكنه تفاؤل غير واقعي، ولا يسنده منطق سوى العواطف الجياشة لشعب أنهكته مأساة الحرب، فقد تبقت (24) يوماً فقط للسقف الذي أعلنه مجلس الأمن والسلم الأفريقي والمفاوضات لم تبدأ بعد.. والطرفان لم يتوصلا حتى لجدول أعمال التفاوض أو إعلان مبادئ على أساسها يتفاوض الطرفان، ويتمسك كل من الحكومة والحركة الشعبية بمواقفهما المعلومة.. والواقع على الأرض أكثر مأسوية من ذي قبل.. مئات المدارس قد شرد تلاميذها.. ولا مشروعاً تنموياً واحداً في ولاية جنوب كردفان الآن يتم تنفيذه.. حتى مشروعات العودة الطوعية وإعمار بعض المناطق التي قالت الحكومة إنها بصدد تعميرها مثل (أبو كرشولا) لم تتم، وحديث الحكومة عن (2) مليار جنيه تم دفعها لتعمير (أبو كرشولا) ما كان حقيقياً ولم تنفق الحكومة حتى اليوم (مليون جنيه) في (أبو كرشولا)، وفشلت في إعادة النازحين.. وأخيراً قهرت الطلاب للجلوس لامتحانات الشهادة السودانية في (أبو كرشولا) قهراً، بعد أن عجزت الحكومة عن توفير استحقاقات عودة النازحين.. والسؤال: أين ذهبت مليارات (أبو كرشولا)؟؟ هل التهمتها القطط السمان؟ أم أنها لم تدفع من حيث المبدأ؟؟ وتوقف مشروعات التنمية في جنوب كردفان له آثار سالبة جداً على مستقبل المنطقة.. ويشهد المواطنون الآن فصولاً من اللا مبالاة والفشل الحكومي، بل انشغال الحكومة المركزية بغير آهات المواطنين وأوجاعهم في المنطقتين!! والحركة الشعبية من جهتها تهاجم المدن والقرى، وتحاصر الرعاة وتقصف كادوقلي العاصمة من حين إلى آخر، وترفض كل محاولات فتح ثغرة حوار محلي مع بني جلدتها من أهل المصلحة، وتنتظر الحركة الشعبية شيئاً ما من الغيب يأتي!! والسيد «أمبيكي» الذي أسند إليه الأفارقة مهاماً كبيرة في حمل الطرفين على الحل السلمي، بات يائساً جداً وتثاقلت خطاه.. ولم يعد يذكره أحد في وسائل الإعلام.. وقد كان «أمبيكي» في السابق يفيض حيوية وحماساً من أجل حل القضية، ولكنه الآن ما عاد كالأمس.. فهل سيتخلى الأفارقة عن القضية ويتم رفع توصية للقادة الأفارقة بفشل المبادرة، وترك السودانيين وشأنهم يتقاتلون؟!
إن مجلس الأمن والسلم الأفريقي ضعيف جداً من غير السند الدولي الذي يحظى به، ولا يملك آليات ضغط حقيقية على الأطراف السودانية، التي هي نفسها قناعتها بالتفاوض ضعيفة جداً، لكنها تقبل على المفاوضات التي تعلن فقط من أجل الظهور أمام العالم بأنها حريصة على السلام والطرف الآخر هو الرافض للتسويات، ولا تشعر الحكومة ولا الحركة الشعبية بالمأساة على الأرض، ولا مسؤولية الطرفين الأخلاقية تجاه مناطق يتعرض سكانها لأبشع أنواع التقتيل والتشريد بأيدي بعضهم البعض.. وبكل أسف، فإن قيادات تلك المناطق المنتمين للحركة غير قادرين على الجهر برغبتهم في السلام، وقد سلب آخرون إرادتهم، وأصبحوا مجرد وقود لحرب لا يعرف متى تتوقف.. وهنا في الداخل تبدى أن قيادات المنطقتين حريصون على إظهار ولائهم لحكومتهم أكثر من حرصهم على مصالح مواطنيهم، لأنهم لا يشعرون بأن لمواطنيهم أثراً في الوظائف التي يتقلدونها في الدولة والحزب.. لذلك تجدهم يميلون حيث تميل رؤى الحكومة إن وجدت.
وحتى لو أعلنت جولة التفاوض اليوم أو غداً، وعادت الوفود إلى فنادق العاصمة الأثيوبية أديس أبابا، فإن الطريقة العقيمة التي تجرى بها المفاوضات، وعدم الرغبة في الطرفين في الوصول إلى اتفاق، يجعل منها مفاوضات عبثية لا طائل من ورائها ولا جدوى، ولن تبلغ بالمنطقتين مرحلة السلام الذي ينشده الجميع.. فالحركة الشعبية تتقمصها أوهام القدرة على إسقاط النظام من خلال السلاح الذي بيدها والانتفاضة الداخلية.. والحركة التي عجزت في احتلال كادوقلي والدمازين والكرمك لن تبلغ الخرطوم عسكرياً مهما حظيت بالدعم من الجيران والأجانب، ولها في عملية الذراع الطويلة التي نفذها د. «خليل إبراهيم» عبرة ودرس.
أما مسألة الانتفاضة الداخلية فالحكومة القائمة لم تأت للسلطة عن طريق التظاهرات الشعبية، وتستطيع الدفاع عن وجودها بما تملك من قوة.. وقد أثبتت أحداث سبتمبر الماضي حينما انتشرت الاحتجاجات على زيادة أسعار المحروقات أن الحكومة تملك قدرة فائقة في قمع أية تظاهرة إذا امتدت لجز عنقها!!
وإزاء ذلك، فإن الحركة الشعبية- قطاع الشمال مطالبة بالواقعية في التفكير الإيجابي حتى لا تجد نفسها في موضع لا تحسد عليه.. ومن جهتها فإن الحكومة حتى اليوم لم تتخذ قراراً صريحاً بقناعتها بضرورة الإقبال على تسوية النزاع في المنطقتين، ولكنها تحرص على الظهور أمام العالم بأنها تسعى للسلام وتعمل من أجله، والطرف الآخر هو من يعيق جهود التسويات.. وتملك جيوب داخل المؤتمر الوطني قدرة فائقة على إقناع القيادة بأن خيار السلام من شأنه أن يضعف النظام، وأن الحرب يمكن حسمها عسكرياً خلال أيام معدودة.. وإن دعت الضرورة إلى تسوية فلا حاجة لدفع ثمن للتسوية!!
ومن هنا، فإن الموعد المعلن لنهاية التفاوض بحلول 30 أبريل الجاري يعدّ حلماً فقط، يراود بعض أعضاء مجلس الأمن الأفريقي من غير الواقعيين في النظر إلى مآلات الأشياء.