أخبار

آخرها كوم تراب

تحولت المقابر مؤخراً وبعض أيام تشييع الموتى خاصة إن كان الميت نجماً من أهل السياسة أو الأدب والفنون، إلى ساحات لعجائب الأنشطة ومبتدعات السلوك. وصحيح أن الموت مصيبة وحدث يهز الناس، ولكنه كذلك يجب أن يعظهم، ومما أراه فإن النصح واجب بل ولازم لتنبيه بعضنا إزاء غريب سلوك بدا يسيطر على ساحات التشييع للجنائز، إذ تحولت إلى مهرجانات بعضها سياسي وكثير منها أسوأ من ذلك، إذ ينصرف البعض إلى تصفية مواقفهم فوق جسد المتوفى، ونسي المتشاكسون حينها ثابت صحيح قول الرسول عليه الصلاة والسلام للحاضرين في المقابر ومواقيت الدفن، بحسن الدعاء و حثّه على ذلك فقال: (أدعوا لأخيكم فإنّه الآن يُسأل).
الموت حقّ وكل من عليها فان، وهو نهاية الجميع، لا مفاضلة في ذلك وامتياز وهو كأس دائرة، فلا يظنن أحد أنه بمنجاة عنه أو بعيد عنه، وهو لحظة يجب أن تكون منزوعة الغل والخصومات، نتسامى فيها على خلافات الدنيا، بل وأنه لأسلم وأفضل أن يتجاوز المتخاصمون خصوماتهم في لحظات الموت والتشييع، فإن لم يعظهم الموت فعلى الأقل عليهم بتقدير آلام أهل الميت، فهم في تلك الساعة يدفنون عزيزاً ولا يسعدون في العادة بما يجري باسمهم فهم في شغل عن ذلك كبير.
المقابر في السودان تحولت للأسف إلى منابر سياسية وسوح لرفع الرايات والهتاف، وهذا غريب عندي لم أشهده في بلد ولم أسمع به. وهو توجه جديد لتوظيف الموت نفسه في جدلية الاستقطاب والمواجهة واستعراض القوى، وقد صارت بعض القوى والأحزاب السياسية ترفع راياتها في المقابر أكثر مما ترفعها في دورها وعلى مناشطها الحية، كما برزت مؤخراً ظاهرة احتشاد النساء في داخل المدافن وبعضهن حاسرات الرأس، وبأزياء لا تليق بمناسبة عرس ناهيك عن تشييع ميت! وهذه الصراحة لازمة ومهمة حتى يفصل الناس بين الحزن كشعور وحق لا حجر فيه، وبين انتهازية المواقف التي يعود بعدها النائحون إلى دنياهم، ويبقى الميت فيها أمام مصيره الذي نحن كلنا إليه سائرون.
من حق أي شخص أن يحزن بالطريقة التي يعرفها، ومن حق أي جماعة أن تلتزم موقفها الذي تراه في مشروعها السياسي والفكري. ولكن من حق الحقيقة و(الصاح الما غلط ) أن يشهر ويقال ويتفق عليه، وهذا الصاح، أن الأحزان لا تلون وأن للموت هيبة ومهابة وثوابت صحة في آداب التشييع، لا مجال فيها لكثرة الرد والابتداع فشعارات النضال والنزال عند المعارضة أو تمجيد الحكومة مكانها الشارع ومساحات الحياة الممتدة وليس المقابر، وصراع الحكم والمعارضة له مئة ميدان غير”أحمد شرفي” و(البنداري) و(الصحافة)، فترفعوا جميعاً رجاءً عن هذه المظاهر البغيضة. ودعوا مثل هذه المناسبات لحظات للاجتماع على الخير، وكريم حسن الظن في المعزى والمتوفى.
وآخرها كوم تراب ..للجميع.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية